11 آذار الإتفاقية الخدعة
عندما تسلم حزب البعث السلطة ثانية بإنقلاب عسكري في السابع عشر من تموز 1968، أدرك قائد الإنقلاب أحمد حسن البكر أن الحركة التي قام بها لم يكن يصيبها النجاح من دون معاونة بعض أقطاب الحكم العارفي السابق، خصوصا لجهة محاصرة القصر الجمهوري وإرغام رئيس الدولة على الإستسلام تحييد الجيش،وكذلك التحرك على بعض قيادات الجيش وخصوصا من ضباط القصر الجمهوري لكسبهم لصالح الانقلابيين،و تمكنوا بعد جهد من إقناع كل من عبدالرزاق النايف وإبراهيم الداوود لتأييد للانقلاب على سيدهما عبدالرحمن العارف،وكان ثمن تنكر هذين لولي نعمتهما ومد أيديهما للانقلابيين الجدد هو خدعهما بتبوء أرفع المناصب في الحكومة الجديدة،حيث نال النايف منصب رئيس الوزراء واحتل الداوود وزارة الدفاع. ولكن البكر أدرك مبكرا مدى الخطر الذي يشكله دخول النايف والداوود في التركيبة القيادية للحكم الجديد من خلال احتلالهما لأهم منصبين بعد رئيس الجمهورية وأن هما سوف يخلقان الكثير من المشاكل للحكم الجديد،وخمن البكر أن من يتنكر لسيده مرة قد يكون على استعداد ليتنكر لسيد آخر كما هو ديدن الخونة والمتآمرين في كل زمان ومكان، وطبعا حزب البعث هو سيد المتآمرين ومن تربى في وسطه لا بد أن ينعكس على تفكيره نظرية المؤامرة ويعيش هاجسه على الدوام، وبناء على تلك التخمينات خطط البكر منذ اللحظة الأولى للإطاحة بهذين الخصمين وبسرعة فائقة قبل أن يستفحل أمرهما ويتمكنا من حشد أنصار ومؤيدين لهما في الدولة وداخل الجيش. ولتنفيذ هذه المؤامرة إحتاج البكر الى شلة أو عصابة قوية محترفة للقتل ومؤمنة بمباديء(الحزب العظيم) ليقدم على مغامرة لتخليص الحزب من هذين المتآمرين، فلم يجد سوى قريبه الشاب المغامر الطائش صدام حسين فإنتشله من القاع وكلفه بهذه المهمة الصعبة التي نفذها صدام وعصابته ممن خبروا طرق التصفية والإغتيالات منذ فترة شبابهم الأول في عهد الإنقلاب البعثي الأول في 8 شباط 1963. ونجح صدام وعصابته الإجرامية في إعتقال الاثنين بعد ثلاثة عشر يوما من نجاح إنقلاب 17 تموز وسفرهما الى خارج العراق.
ورغم هذا النجاح الباهر الذي حققه صدام للبكر، ولكن بكرا لم يهدأ له بال، فكان يعيش هاجس الخطر على الحكم الجديد، ولم يكتف بتصفية هذين الخصمين الطارئين على الحزب والدولة، بل خطط لتصفية بقية معارضي توجهاته الإستبداية الدكتاتورية من أعضاء قيادة الحزب الواحدة تلو الأخرى ليخلو له الجو تمتما لتشديد قبضته على مقادير السلطة والدولة بمعاونة من صدام حسين الذي مضى معه الى الشوط النهائي في تصفية بقية الخصوم، فكافئه البكر بتعيينه نائبا له في مجلس قيادة الثورة وهو أعلى سلطة سياسية في البلاد.وكان صدام حينذاك شابا طموحا يرنو الى قيادة البلد بعد البكر فشاركه في مخططاته الجهنمية للقضاء على جميع القيادات الحزبية والشخصيات الوطنية التي قد تبرز لمنافسة الحكم الجديد.
كانت الثورة الكردية تشكل أحد أهم المخاطر أمام حزب البعث المتسلم للحكم حديثا خاصة بعد تعاظم قوتها تحت قيادة الملا مصطفى البارزاني الذي انتشرت صدى إنتصاراته الكبيرة على قوات الجيش العراقي في كافة أرجاء العراق ودول المنطقة خصوصا في عام 1969.وأراد حزب البعث في البداية أن يحسم الخطر الكردي بالقوة العسكرية، ولكنه أخفق في ذلك، بل منيت قواته بهزائم منكرة على يد البيشمركة الذي استطاعوا في تلك الفترة من إختراق العمق من خلال عدة عمليات هجومية داخل العديد من المدن الكردستانية، ففكر صدام في تهدئة الحرب مع الثورة الكردية والتوصل معها الى هدنة طويلة بغية تمكينه من الإنصراف لتحسين الوضع الداخلي للحزب من جهة، والبيت الحكومي وفي مقدمته الجيش من جهة أخرى.فأرسل صدام وسطائه الى قيادة الثورة الكردية لمفاتحتها بشأن عقد إتفاق سياسي لحل القضية الكردية.
وكانت القيادة الكردية دأبت منذ إندلاع ثورة أيلول عام 1961 على الدخول في عدة جولات تفاوضية كانت في الكثير من الأحيان ضرورية للثورة سياسيا وعسكريا.فقد كان البيشمركة معتادون على فترات من الهدنة تسمح لهم بقضاء بعض الوقت بين أهلهم وأقربائهم في المدن الكردية الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث كان الكثيرون من هؤلاء قد تركوا عوائلهم وأهليهم منذ سنوات دون أن رؤيتهم، وفي العادة فإن هذا الجانب يشكل ضغطا على القيادات في بعض الأحيان.وطبعا ليس هذا هو الضغط الوحيد على قيادة الثورة الكردية لدخول جولة جديدة من المفاوضات، فهناك عوامل أخرى سياسية داخلية وأقليمية ساهمت في تهيئة الأجواء أمام قبول هذا العرض الذي بدا مغريا في البداية وإن بدا في النهاية مجرد خدعة من صدام حسين إنطلت على قيادة الثورة كما رأينا فيما بعد.
قدم صدام حسين ورقة بيضاء لقائد الثورة الملا مصطفى البارزاني ليملي شروطه ومطالبه وكان سقف تلك المطالب القومية للثورة في ذلك الوقت هو الحصول على الحكم الذاتي للمنطقة الكردية.
وفي إعتقادي أن البارزاني حتى لو طالب بأقليم فدرالي لكان صدام سيوافق لأنه كان بحاجة الى تلك الهدنة بأي ثمن كان، ولصدام وقائع عديدة تؤكد صوابية إعتقادنا، منها مثلا تنازله عن أجزاء واسعة من الحدود البرية والبحرية لشاه ايران وفق معاهدة الجزائر من أجل وقف دعمه للثورة الكردية ثم تمزيق تلك المعاهدة الدولية أمام شاشات التلفزيون، وكذلك رضوخه المشين للشروط الأمريكية تحت خيمة صفوان بعد إنتهاء حرب تحرير الكويت ثم تنصله عن الكثير من تلك الإلتزامات مثل الإعتراف بدولة الكويت وترسيم حدودها والعمل على برنامج لتطوير أسلحة الدمار الشامل وغير ذلك من التهرب من الألتزامات الدولية.
وهناك الكثيرون ممن يرون اليوم أن إتفاقية آذار حققت مكاسب كبيرة للشعب الكردي من حيث كونها أول وثيقة إعتراف رسمي من الحكومات العراقية بحق الشعب الكردي في الحكم الذاتي،وهم محقون الى درجة كبيرة رغم أن هذا الإلتزام كما رأينا كان مجرد حبر على ورق،ولكن ماذا لو أملى البارزاني عند ذاك شرط الفدرالية كمطلب للشعب الكردي مادام صداما كان سيوافق على مجمل شروطه،أعتقد أن الوضع السياسي كان سينقلب برمته ليغير الكثير من المعادلات القائمة في المنطقة، ولكن مع ذلك فقد أدى البارزاني دوره في تثبيت حق الشعب الكردي بحكم ذاتي حقيقي في العراق.
المهم، أن اتفاقية 11 آذار نصت على هدنة تمتد لأربع سنوات بين الحكومة والثوار الأكراد، واستغل النظام البعثي هذه السنوات الأربع أيما إستغلال حيث إنصرف كلية الى ترتيب أوضاعه الداخلية بعيدا عن حدوث أزمات عاصفة أومشاكل داخلية مع الأكراد، فيما إنتشت القيادة الكردية بهذا الإنتصار الوقتي وتغافلت عن متطلبات تلك المرحلة التاريخية، حيث كان بالإمكان لإستثمار السنوات الأربع أيضا للقيام بحملة جماهيرية لتنظيم صفوف الشعب الكردي وكسبهم نحو الحزب وتفعيل دور المؤسسات والنقابات والجمعيات المهنية والطلابية والشبابية داخل المجتمع الكردستاني، ولكن للأسف تجاهلت قيادة الثورة كل ذلك وتركت حزب البعث يفعل ما يريد في العراق من دون إشغاله بصراعات جانبية.
إبتدأ حزب البعث أولا بتحزيب الجيش العراقي وجعله جيشا عقائديا ملتزما بخط حزب البعث وتمت تصفية الكثير من قيادات الجيش المرموقة سواء بقتل بعضهم او إحالة العديد منهم على التقاعد أو الى وظائف مدنية.ثم بدأ بعسكرة الدولة بمؤسساتها ودوائرها المختلفة، وأحل عناصره الحزبية في المناصب والمسؤوليات بدوائر الدولة على حساب الكفاءات العلمية والمهنية،وحسن من علاقاته مع دول الجوار، ووقع معاهدة للصداقة والتعاون مع الإتحاد السوفييتي تمكن من خلالها تحييد الحزب الشيوعي العراقي الذي كان القوة الثالثة في العراق وكسبه الى الجبهة القومية التقدمية نكاية بالبارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني الذي رفض الإنضمام الى تلك الجبهة الكارتونية المصطنعة. ونجح صدام في تلك الفترة من تصفية العديد من القيادات المتقدمة في الحزب والدولة فصفى حردان التكريتي وحماد شهاب وغيرهما، وطرد العشرات من قادة الحزب وكوادره الى المنافي وضمن ولاء الأجهزة الأمنية والمخابراتية لصالح الحزب القائد. كل هذه الأعمال الجبارة حققها صدام والبكر في ظرف السنوات الأربع من الهدنة إنتهت بعقد المؤتمر القطري الثامن للحزب في شباط من عام 1974 عشية إنتهاء فترة الهدنة وتغيرت القيادات الحزبية في ذلك المؤتمر حيث أحل أنصار البكر وصدام محل الكثيرين من الكفاءات الحزبية الأخرى.
وبدأت الجولة الأخيرة لما يسمى بالحل النهائي للقضية الكردية وفقا لبيان 11 آذار عام 1970. عندها تنكر صدام والبكر لكل إلتزاماتهما تجاه تلك الإتفاقية وسدا كل الطرق بوجه البارزاني وقيادة الثورة الكردية، فلم يكن هناك بد من معاودة القتال في جبال ومدن كردستان بشكل فاق كل جولات القتال السابقة حيث إتسعت جبهات القتال من خانقين الى زاخو، وزج الطرفان كامل قواهما العسكرية واللوجستية في تلك الجولة من القتال الدامي التي إستمرت لسنة واحدة إنتهت بإنهيار ثورة أيلول التحررية وخروج الحكم البعثي بقانون للحكم الذاتي من طرف واحد في غياب الطرف الكردي الذي حمل راية الكفاح المسلح، فخلا الجو لبكر وصدام ليطبقا هذا القانون المثير للسخرية والضحك معا،حيث كان القانون مفروغا من أي محتوى قومي أو انساني ويفتقر الى أدنى الشروط السياسية لحل القضية الكردية، لأن الحكومة العراقية رشحت للمجلسين التشريعي والتنفيذي وهما السلطتين التشريعية والتنفيذية في منطقة كردستان، أعضاء من حزب البعث الحاكم أو المرتزقة أو الموالون لحكم البعث في كردستان، فتحول هذا القانون المسخ الى مهزلة سياسية لطخت وجه العراق وأساءت كثيرا الى علاقة العرب بالأكراد في العراق.
كان من المفترض بقيادة الثورة أن تحتاط لنوايا البكر وصدام منذ البداية وتأخذ في الحسبان حداثة حكمهما وإحتمالات تعرضه لإنقلابات مضادة كما إعتادت الأحزاب العراقية المتصارعة أن تنفذها الواحدة ضد الأخرى،ولكن القيادة لم تحتط لذلك!.
وكان من المفترض أن تستثمر تلك القيادة فترة الهدنة لتعبئة الجماهير في الداخل وتحضيرها لمواجهة مخططات الحكومة وحزب البعث عندما يحين فترة إنتهاء الهدنة ليشكلوا ورقة ضغط شعبية بالداخل على الحكم البعثي بدل دفع الأمور نحو القتال مجددا، فلم تفعل ذلك أيضا!.
كان المفترض بقيادة الثورة أن تتحرك خلال السنوات الأربع للهدنة على المحافل الدولية والأقليمية لكسب الأصدقاء الى جانب الثورة، ومحاولة تثبيت إتفاقية آذار كوثيقة رسمية في بعض المنظمات والهيئات الدولية لقطع الطريق على الحكم البعثي في التراجع عن إلتزاماته، ولكنها لم تفعل ذلك أيضا!. وعندما جاء يوم الحساب، أخذ البكر وصدام الحصة برمتها، وخرجت القيادة الكردية من المولد بلا حمص بل وحتى بدون خفي حنين..
شيرزاد شيخاني
التعليقات