جلّ ما أقرأ يبعث على الكآبة، ويرسم شياطين مفزعة، ويتنبأ بالويل والثبور، مع أن الحياة مليئة بالطرافة والشهوة وما يضحك( ربات الحجالالبواكيا ) هاكم مثلا..الليبرالية العربية ( ابنة عم الديمقراطية ) دخلت هي الأخرى فضاءنا اللغوي والثقافي دون ترجمة لفظية أو دلالية، ناهيك عن أن ترجمتها في واقعنا إلى فعل ووعي سياإجتماعي، هو ضرب من الخيال العلمي...أليس ذلك مدعاة للسخرية؟

مع رواج الإنترنت، وتحوّل المرء إلى عنكبوت على الشبكة، ومع فرقعة الفضائيات والمباريات الكلامية الساخنة، اكتسبت الليبرالية أهميتها، وأصبحت لأمثالي من المولعين بالعلمنة والهرطقة والبطالة خبزا يوميا...هكذا ببساطة ما إن أفرك عيوني وأفتح ( فرن الأخبار ) حتى تخرج فطائر المقالات ، وصواني التحليلات ....وإليكم هذه الباقة من الأمثلة : أحد كبار الدعاة الليبراليين، يسطر مقالة كاملة، يحمّل فيها أبو مصعب الزرقاوي( بمفرده ) سبب كارثة العراق، وعدم إعادة إعماره، وسعيّه لإقامة إمارة إسلامية في غربه، ....أحد الدهاقنة يعتبر الإحتلال بدعة حسنة ويفتي بتقليدها...آخر كتب يوم 6 مايو 2006، مقالة بعنوان:حوار مع القراء، يقول حرفيا( إذ لا أشاركك الرأي بأن وجود قوات التحالف بقيادة أمريكا هو احتلال، بل هو تحرير، لأنه حصل بناءً على قانون أصدرته الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلنتون)!!! داعية آخر، يشتم الشيعة، ويذم إيران، ويسمي الصدر بالطفل المعجزة... ليبرالي جديد يشتم العرب والكرد وكل الأمم المجاورة، ولايمانع بإبادة هذه المنطقة ( ورفع بنيان الديمقراطية المرصوص، ولو على خرائب!!)...أكثرهم طرافة، ذلك المتيّم بالتقاليد البرلمانية البريطانية، والذي أمتعني وذكرني بأبي حيّان التوحيدي، الذي قال في ذخائره:إن من يتباهى بفضائل غيره، كخصيّ يتباهى بطول أير مولاه...

وإذا عدنا للجد وقطبنا حاجيبنا، سنجد أن فهم الليبرالية الطازجة أمر ليس يسيرا..وقد يحتاج فهمه وتفكيكه إلى لحظات عبقرية ( ماأزال أنتظرها عبثا )...فالليبراليون ليسوا ثلة من مثقفي المارينز أو قارعي الطبول، وليسوا ظاهرة صوتية، كما يحلو للبعض...هم خليط من الرؤى والآراء والأفكار العديدة بعدد أصحابها...هم تيار من الغاضبين الساخطين، وكثير من الماركسيين الذين فروا بجلودهم إبان غرق السفينة السوفيتية، إنهم مثقفون رسخوا يوما في علم المادية التاريخية، وشعراء أنشدوا بخشوع قصائد مايكوفسكي ونيرودا، وبعضهم يمثل الأقليات المنبوذة، التي ضاع صوتها وسط أوركسترا الهرج والمرج.. أو من الذين حطت رحالهم في أرجاء المعمورة..فالتقى إحباطهم ( الثوري والجنسي والمادي) مع إحباط عالمنا العربي، الذي يعاني هو الآخر من العجز الحضاري، وانسداد الشرايين، ودخول أنظمته سن اليأس.....إلى هنا سارت الأمور على مايرام، لولا غزوة مانهاتن، التي كانت هّزتها لاتقل ضراوة عن سقوط الإتحاد السوفيتي، هزة استطاعت أن تخلخل بنيان البترودولار العربي، وترغمه على إلقاء بعضا من حمولته الوهابية الثقيلة، ويستبدلها بما خفّ وزنه وغلا ثمنه ( إستثمارات في الأسهم، والميديا الجديدة، وسوق الفيدو الكليب والجواري والحسان ).إن هذا التحوّل البنيوي العميق هو الذي فرض نفسه وطالب بخلع الدعاة الملتحين والسلفيين القروسطين، واستبدالهم بحليقين من فئة المتقاعدين الثوريين ( بما يرضي الله وآل البيت الأبيض والفوضى الخلاّقة )....في هذا الإطار يمكننا أن نأخذ بنظرية المؤامرة، ونوجه أصابع الإتهام، إلى بعض الليبراليين العرب الجدد من مرتكبي الجرائم الفكرية، ونطالب بمحاكمتهم على ما اقترفت أقلامهم، أسوة بالكتاب الذين حوكموا بتهمة عداء السامية...أما الآخرون ( وهم كثر ) من الذين جرفهم التيار ( عن حسن نية ) فهم أشبه بمبشري الكنيسة، الذين تدفقوا إلى أدغال أفريقيا واعظين بملكوت السماوات، ومطالبين تلك الشعوب البائسة أن تغسل نفسها من أدران الخطيئة، وتسمو فوق حطام الدنيا الفانية( لا أدري أيّ حطام ملك هؤلاء العراة ) لتظفر بنعمة الخلاص المسيحي....في نفس الوقت الذي كان فيه الجنود البلجيك يقطعون آذان السكان الأصليين ويجدعون أنوفهم، ليثبتوا لآمريهم أن رصاص بنادقهم لم يذهب في اللهو وصيد الغزلان !!! وفي عين المكان والزمان كان الرأسمال الأوروبي الفتي آنذاك ينهب مناجم الذهب والنحاس والألماس في سباق محموم، ويفتل الآلاف في حقول المطاط والعبودية.......ما أشبه اليوم بالبارحة..فالمبشرون الليبراليون يتسابقون اليوم في أدغال الإنترنت، واعظين إيانا بملكوت أمريكا باعتبارها طريق الخلاص والأبدية والبحبوحة والرفاه والبنين..كل ذلك يحصل، وطيارو الحلفاء ينشرون الديمقراطية ( بضغط الأزرار ) وقوات المارينز توزع رصاص ( عقوق الإنسان )على كل من يرفع يده، ليحك رأسه....فتفوح رائحة الجثث المعصوبة، والرؤوس المثقوبة بمثاقب التهيّج الطائفي...تاركة وراءها آلاف اليتامى والثكالى..وبينما تسير النعوش ملفوفة بالخرق والدماء ، يتبادل مدراء الشركات الكبرى العقود والصفقات والتواقيع والإبتسامات، ويرفعون كؤوسهم....في صحة الليبرالية الجديدة

كاتب يعيش في فيينا