لبنان هو عجيبة وسط بلاد الأعراب. يبدو لبنان غريبا فى عظمته بين بلاد الأعراب من حيث تلك الرابطة التى تجمع بين مواطنيه على إختلاف طوائفهم. فى تسعينات القرن المنصرم عملت مع لبنانيين أحدهم يسمى ناجى وكنيته أبو نعمة من مقاتلى حزب الله إبان الحرب الأهلية والآخر إسمه على وكان من أعضاء منظمة أمل وآخرون سيأتى ذكرهم. كان أبو نعمة وعلى من سكان حى واحد ويعرفون بعضهم بعضا منذ كانوا صغارا، وكنا أحيانا نستمع لذكرياتهم عندما كانوا يتحاربون ضد بعضهما البعض حينا، أو متحالفون معا أغلب الأحيان تبعا لإتجاهات منظماتهم. ومن ضمن ما كانوا يتذاكرونه أمامنا فهمت منهم أن حرب لنبان الأهلية كانت خارج المنطق فأصدقاء وحلفاء يوم قد يكونوا أعداء الغد والعكس بالعكس. وكان أبو نعمة يقص علينا كيف أنهم عندما كانوا أحيانا يتحاربون مع الكتائب مثلا يوما ثم يتحالفون معهم ضد الفلسطينيين فى اليوم التالى على سبيل المثال.
وكانا أيضا يحكيان لنا كيف أن يوما يحاربون جماعة ما فيتجهون إلى أعداء الأمس القريب وليكن الكتائب مثلا ليسألوا الأهالى التبرع بالدماء او أغذية أو خلافه، ولا يمنعهم ذلك من محاربة هؤلاء فى الغد أو بعد أيام!
كلاهاما مع شاكر المسيحى اللبنانى كانوا يقصون علينا مهازل جمهورية الفكهانى الفلسطينية فى لبنان. كان أبو نعمة بالذات عنده زادا لا ينضب من الذكريات المؤلمة التى كان يعانيها على حواجز مسلحى منظمة التحرير الفلسطينية آنئذ. أذكر أن هؤلاء الزملاء طالما إختلفوا معا فى نيويورك حيث كنا نعيش ونعمل معا، ولكن أبدا لم أسمع من أيهم أية سقطة تلمح للطائفة أو الديانة. ولا أعرف إن كان ذلك من موروثات الثقافة اللبنانية أم هى الثقافة الأمريكية العظيمة. لمن يعادون الثقافة الأمريكية بدون عقل أقول لهم نعم الثقافة الأمريكية العظيمة والتى طبعت جميع من عاش تحت ظلالها بالتسامح وعدم التحزب وراء دين أو طائفة. حتى الأيرلنديون الذين هاجروا لأمريكا لم ينقلوا معهم خلافاتهم الدينية والسياسية وعاشوا فى أمريكا بعيدا عن خلافاتهم المذهبية، ليسوا هم فقط بل جميع الدوتش والكاثوليك والبروتستانت الذين طالما تحاربوا فى أوروبا لم يحصل بينهم خلاف طائفى واحد خلال مئات السنوات التى عاشوها فى أمريكا.
كان معنا لبنانيون سنة أيضا ولكنهم غير السنة الذين رأيتهم من بلاد أخرى خلاف لبنان. كانوا سنة مسالمون متسامحون لا يأخذون على الشيعة شيعتهم ولا على المسيحيين مسيحيتهم، وكان معنا إسكندر وهو مسيحى أرمنى وكانوا كلهم يجلونه ولم أراه فى نقاش حاد مع أحد منهم قط، كان وهو فى أمريكا يعيش معنا كأنه ضيف علينا، ولقد ذكر لى quot;علىquot; أن الأرمن الذين يعيشون فى لبنان يسلكون تقريبا ذات المسلك الذى يحترمه الجميع، شبه لى quot;علىquot; وضع الأرمن فى لبنان بأنهم كسويسرا محايدون حيادا سلبيا بين جميع الطوائف وأنهم كانوا كذلك أيضا وبالأخص إبان الحرب الأهلية.
الجماعة الوحيدة فى أمريكا التى نقلت معها خلافاتها الدينية هم المصريون للأسف. لا أقصد عموم المصريين الذين يذكروننى بمصر التى عرفتها حتى السبعينات من القرن الماضى، فهؤلاء وهم غالبية المصريين لا يعترفون إلا بمصريتهم وأخوتهم فى الوطن والتراب. وإنما أقصد هؤلاء المتزمتون الذين لا يحتك أى مصرى بأى منهم ndash; أيا كان دين الفئة التى يحتك بها- إلا وولى الإدبار أو تحول لمتعصب سخيف. وللتمثيل فقط ليس أكثر نفترض أن مسيحيا مصريا إحتك بأحد المتزمتين إسلاميا فبالطبع لن يعجبه أن أول مايسأل عنه ذلك المتزمت إسمه ليسشف ديانته، وإن علم أنه مسيحى جعل ينغص عيشته بغرض quot;هدايتهquot; حتى يتضايق المسيحى فيرحل لصحبة أخرى. وإن كان المهاجر مسلما طيبا ووقع فى أيدى بعض المتزمتين المسيحيين لنعتوه بأنه إرهابى، فإن أنكر صاحبنا ذلك وذكر صادقا أنه إنما يحب بنى وطنه بغض النظر عن الدين، فلن يعجبهم ذلك ولواجهوه بما يظنونه دليل على همجية وعنصرية الإسلام، ولربما وصفه البعض منهم أنه أما إرهابى أو أنه لا يعرف مبادىء دينه، ولا يستريحون إلا أن يحولونه لعنصرى فعلا أو أن ينجو بعقله لصحبة أخرى!
تذكرت هذه القصص عندما سمعت فى الأخبار أن بيوت العبادة على أنواعها فى لبنان قد فتحت أبوابها للاجئين اللبنانيين دون تمييز بين فئة وأخرى. وتذكرت فى الوقت ذاته كيف أحيانا يختطف البعض الأوطان تحت إدعاءات طائفية بغيضة. وتذكرت كيف أن نايف حواتمة وجورج حبش وهما من أبطال بواكير المقاومة فى فلسطين كانا مسيحيين فلسطينيين حتى إختطفت الحركات المتأسلمة من جهاد وحماس وغيرها فلسطين وجعلوها أرض إسلام فقط! وكأن المذكورين كانا يقاومان ويضحيان بحياتهما من أجل أن يستبدلا حكاما إسرائيليون بآخرين أشد منهم عنصرية وتكفيرا! كذلك تذكرت إشمزازى من السيد حسن نصر الله وهو يتكلم عن المقاومة quot;الإسلاميةquot; وحرب الأمة quot;الإسلاميةquot; وهى ألفاظ تحمل معان سخيفة لا أعرف وقعها على اللبنانيين المخالفين له فى العقيدة!
وأعود فأذكر جميع هؤلاء الطائفيين أن الزبد يذهب جفاء وإما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض.

عادل حزين
نيويورك
[email protected]