الحلقة الأولى

بدايةً، قد يتفق الجميع بأننا في العراق لم نتوجَ أو نخلد العظماء من قادتنا أو أبناء شعبنا الذين ضحوا بأنفسهم وماتوا لأجل الوطن منذ أستقلال العراق في العشرينات وحتى بعد ثورة 14 تموز 1958 ولحد اليوم. وهذه المفارقة ليست بالضرورة ظاهرة سيسولوجية كتب عنها الشاعر معروف الرصافي فقط لو رجعَ القارئ الى دواوينه، وأنما هي ظاهرة سياسية مقيته أدخلتها السياسة الهوجاء لتصفية الخصوم الى الحد الذي وُصِفَ فيها رجالات البلد وأعيانه وقادته بأسوأ الصفات. وقد أطلعني صديقي quot; مُضرquot; الذي أعتّز به وبثقافته العالية بأننا quot; وفي أغلب الحالات، كنا شعباً يخدعُ شعباً....والفرقة بيننا تتناصف مابين خائن مجرم أو وطني شهيد quot;. وها أنا أجد بأن ملاحظته القديمة القاسية هذه ماتزال ثابتة للعيان وعالقة في ذهني الى يومنا هذا.


ولتوضيح الصورة، نرى أن الأوساط السياسية والأجتماعية الشعبية تتناقل في أحاديثها عن القوى العراقية العربية والكردية والأخرى الموالية منها للأحزاب الدينية، مامغزاهُ بأن هذه القوى كانت قد أستندتْ على القوة العسكرية الأجنبية والأمريكية بالذات ونسقتْ معها وساندتها في حملة أسقاط النظام الدكتاتوري في نيسان 2003. وبين مؤيِّد ومُعارض ومُنصف وجاني، أجد نفسي أخوض موضوع المغزى ( للموت في سبيل العراق). فقد تضررتْ مصالح عراقية وعربية ودولية ونمتْ مصالح أخرى كنتيجة للعبئ الثقيل الذي تحمّله المواطن والأرث الثقيل لثقافة العنف التي أنتشرت منذ الستينات و زادت من الطين بلة. وأحاول تسليط الأضواء بموضوعية على العناصر الخيّرة المحبة للعراق التي رافقت قوات التحالف في جهدها العسكري واللوجستيكي والأداري لأزالة النظام.


فلابد من كلمة تُكتب بحق النخبة الشابة التي كانت الشعلة الوهاجة وأبدت دون وجل أو خوف أستعدادها لأطفاء نور حياتها في سبيل العراق والتضحية بأرواحها ولاءاً له. ولأعطاء الموضوع أحقيته، أودُّ التعرض لهجوم الجانب الأخر الذي حملَ بشدة على المعارضة العراقية، العسكرية منها والمدنية والدينية، وأستطاع بأساليب متوحشة أغتيال بعضها وأتهام البعض الآخر بالعمالة، بأختصار شديد فأن هذا التهجم يشمل على كونهم quot; أفراد عصابات quot;، دخلوا العراق quot; على ظهر الدبابة الأمريكية quot; وأن quot; جميعهم عملاء أمريكا quot; وقوى رذيلة مشوِهة لتعاليم ألأسلام quot; و حكومة quot; فساد وسرقات quot; وتعميمات أخرى كالخيانة والعمل لجهات أجنبية أيرانية وصهيونية ألخ......


وتحضرني هنا ماقاله تشرشل رئيس الوزراء البريطاني أبان الحرب العالمية الثانية عن عالمنا العربي بأنه عالم quot; يَسودهُ الغموض و يلفه لُغز مبهم quot; نظراً لفوضوية المفاهيم وخصوصيات مجتمعاتنا وقومياتنا المختلفة.
ودفاعاً عن القوى العراقية والعربية الشريفة التي وفقني الله بالتعرّف على بعض أفرادها قبل الحملة وخلالها وبعدها، أضع نفسي في موضع الناقد الذي لايبررُ الأخطاء أو يعتاش بالدفاع عنها. فبدون أي شك، حصل الكثير من هذه الأخطاء والتناحر لأسباب تتعلق بالقيم الأجتماعية والحضارية والدينية والعشائرية والعادات والتقاليد العراقية المتعارف عليها وخصوصياتها عند مقارنتها بالقيم الأجتماعية والحضارية والدينية للدول التي شاركتْ في قوات التحالف، وعلى وجه التخصيص، البريطانية والأمريكية، أضافةً الى ومازرعه النظام السلبق من أيدولوجية عدائية تناقض الحس الأنساني والصفات الحميدة المتأصلة في عراقيتنا.
ففي أعتقاده كرئيس للنظام وثقافته السياسية الخاصه به، لم تكن تركيا المُسلمة، مثلاً quot; عدوة للعراق والعرب تاريخياً quot;. ولم يفرزها النظام السابق كقاعدة متقدمة تنطلق وتهبط منها الطائرات الأمريكية لضرب أهداف في العمق العراقي. كما أن وصمة العار هذه لم تَفرز الى السطح أي مقاومة quot; أسلامية أو عربية quot; أو حتى تنديداً ضد الحكومة التركية لأسباب لابد وأن يكون من ضمنها هوية تركيا ومذهبها الأسلامي. وبغياب الحرية السياسية والعدالة وظاهرة التصنيف القومي والمذهبي للهوية العراقية التي أدخلها الرئيس الصنم، قُسِّمَ العراق الى عراقي مخلص وعراقي عميل، لتأخذ هذه الصفة وشذوذيتها مكاناً في تركيبة المجتمع المهشم اليوم.
ومن المؤسف أنه قد تمرُّ سنوات عديدة قبل أن نصل الى قناعات وحيثيات حقيقية لِما أدخله رجل واحد من شقِّ واضح في صفوف المواطنة، يدفع منه العراقي اليوم بدمه أملاً في تصحيح هذه الشوائب والظواهر التي لم تُسقط هوية العراقي الأصيل فقط وأنما كانت أسقاطاً لهوية الدولة وهيبتها وأسقاطاً للرئيس الذي نصّبَ نفسه قائداً وصرختْ من ظلمه العرب والفرس وأمة المسلمين. ولاأستطيع لحد اليوم أن أفهم الطبيعة النفسية العراقية والعربية أيضاً، التي لم ترَ في تلك الشخصية المُرائية كل الويلات التي رافقت عصرنا الحديث منذ أنقلابه على حزبه للأستئثار بالسلطة وأعدام قياداته البعثية الوطنية التي أوصلتهُ لقِمة الأدارة في الدولة أواخر السبعينات.

نعم، فليعلو الصراخ والشجب أِن كانتْ القوى العراقية الحالية المُضحية، عميلة وتذبح المواطن بالحربة والسيف أو كانت قد أرتكبت أو تقوم بأرتكاب جرائم جماعية ضد الأكراد وعرب الجنوب، وليعلوا الصراخ والشجب من القنوات الفضائية أنْ كان هناك عراقياً يشخر بالفتاوى ويعتاش على خرافات طائفية تُمجّدُ الماضي وتتوعد المخلصين وتلعن المستقبل. ولتعلوا ألأصوات ضد فرق الأعدام الهمجية أذا كانت لاتلتزم بالتأخي وأحترام المُواطَنة. وكما يقول الشاعر:
هو التعصبُ قد والله أخركم عن الشعوب التي تسعى فتقتربُ
لقد كان ليّ الفخر برؤية حقيقة الشباب المضحي الصامت الذي شارك بالأطاحة بالنظام الأسود والتضحية بترك أرض الهجرة في دول ( ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا ودول أسلامية وعربية أخرى) تلبية لنداء الوطن الجريح عندما خلتْ الساحة الوطنية وأنحنتْ الشهامة العراقية أمام تعسف و ظلم الدكتاتورية الهوجاء. لقد ألتحقت كتائب أستشارية وأنسانية ذات أختصصات عديدة، أطباء ومهندسيين ومترجمين وصحفيين وضباط سابقين وعمال وطلبة، كانوا قد تركوا العراق. ولكي لايُساء الفهم، فقد دخلتْ من دول الجوار أيضاً مجموعات أنتهازية متعاقدة مع شركات أمنية وتجارية غرضها الربح المادي السريع، لم يكن همها الهوية العراقية ولم يكن ما يحدوها الرجوع الى ربوعه لتقديم الخدمات الضرورية الأنية، أو لترى رجوع العراق موحداً ومشرقاً في المجتمع الدولي. فللأمانة التاريخية، فأن أبن العراق الأصيل ثمّنَ وأنحنى أحتراماً لمن وقف الى جانبنا لرأب الصدع مع الدول الجارة ومنع مرور المخططات المجرمة لتقسيم العراق.

أن التقدير والأحترام الذي نكنّهُ للعشرات من هذه الجموع هو أقل ماتستحقه خدمات فرق وقوافل التضحية العراقية المدنية التي لبت نداء بناء العراق الجديد وتركتْ أعمالها والعناية بعوائلها وأبناءها طواعية وجاءت لنجدته من قارات آسيا وأوروبا وأمريكا. فلقد قُتل العديد منهم، رحمة الله عليهم، في تربة العراق خلال الفوضى والأرهاب الذي ساد نواحي البلاد، وتساقط الكثير منهم وأُختطف أخرون. وحين لم يعدُ العمل ممكناً، رحل البعض الأخر مبكراً في يأس وخيبة لخطورة العمل بين تيارات سلفية وشيعية متناحرة وتنظيمات القاعدة السرية التي تولتْ أعمال الأرهاب. ولعل أسوأ ماسبّبتهُ تلك التيارات من سلفية وشيعية متطرفة هي الكارثة التي حلّت بالمُهجّرين من أخوانهم الذين لجأوا الى سوريا والأردن.

وقد لمستْ الأكثرية العراقية المنصفة الصامتة خبرة وكفاءة هذه الفرق ألأستشارية الصغيرة الحجم والتي لم تحمل السلاح، وأخلاص قوافلها الأنسانية في السنوات الأولى بعد الحرب، وعملتْ في أقسى الظروف بكل صبر وهدوء في تقديم الأستشارة الفنية في حقول عديدة ومساعدة المُهّجَرين وأصلاح قطاعات متضررة من جسور وموانئ ومرافق وأعادة مؤسسات العراق العلمية والطبية للعمل من جديد وأستماتْ في سبيل نصرة العراق ومساعدة الشعب العراق الجريح لكونه في أمس الحاجة الفوربة لهم في حينها ولازال.

أن الوجه الجديد للعراق هو ليس وجه الخيانة كما يدعِّيه البعض، كما ذكرتُ ضمناً في مقال سابق في أيلاف، لكنه لا يخلوا من شدوخ وجروح لم تلتئم بعد نتيجة ماحصل من ردود فعل لأعمال شنيعة أرتكبها أفراد لوحدات بريطانية وأمريكية كأحداث سجن أبو غريب الذي هزّ الضمير الأمريكي قبل أن يفطن له الضمير الدولي، كما كان الشجب والعقاب للأضرار المادية التأثير، لأفراد تصرفوا في حالات أستثنائية صعبة، حتى في الحالات التي كانت تستهدفُ فيها ملاحقة الأرهابيين الذين طالت فيها أيديهم قوات التحالف وجيل الشرطة العراقية الوليدة وجنود وضباط الجيش النظامي الجديد فقد جرى الحساب بالمعاقبة والطرد للذين لم يلتزموا بالمسؤولية، رغم أن دلائل عديدة أثبتت بأنه لم تَسلّم من الغدر الأهوج حتى مواكب الجنائز والتعزية و كسبة الشوارع والأسواق الشعبية والحيوانات الأليفة. ولاأستطيع أن ألصقَ التهمة عبثاً بأن هذه الأعمال أرتكبها شرطي أو جندي عراقي بعلمِ من السلطة. فالحقيقة، أن مَن ألتحق بالخدمة المشرفة كان يخدم الأهالي والعامة بأسناد من القوات الأجنبية، وكان يحمي المواطنين وممتلكاتهم في ظروف عمل تفوق قدرة الأنسان وطاقاته العادية لغرض أشاعة القانون وأرادته. فلقد قُتِل الكثير من أفراد الشرطة والحرس والجيش وسفحت دمائهم في سبيل العراق الجديد.

وأُكرر القول، بأن القوة الأمريكية الدخيلة لم تكن معصومة الأخطاء، فقد أُرتكبت العديد منها لعدم معرفة العدو من الصديق. وقد عوقب الكثير منهم نتيجة أهمال و تصرفات سلوكية وأنتهاكات فردية تمس السمعة المهنية للجندية ولِمساسها بخصوصية المجتمع العراقي. وعند دخولي في نقاش مع عراقيين لتأكيد بعض هذه الحوادث والتذكير بأنها التصرفات الخاطئة للجندي الأجنبي وكان يجب أن تُرفع بضم التاء، للشجب والعقاب، الى أعلى السلطات القانونية المسؤولة لضمان عدم تكرارها، طالما يأتي الجواب ( لا تُؤخذ جريرة الكل بجريرة الجزء ). وكم من مرةِِ، تمّ فيها توبيخ جنود أمريكيين لتوزيعهم الحلوى على الأطفال الصغار وجرى تعنيفهم من ضباط عراقيين بأن أهالي هؤلاء الأطفال في مجتمع كالمجتمع العراقي، يعتبرونها أهانة لهم ولكرامتهم بأبداء الودِّ والعطف بهذه الطريقة المُبتذلة، كما أن صميم واجباتهم العسكرية لا يشمل كسب القلوب بهذا الأسلوب المرفوض أجتماعياً في البلاد.
وبالرجوع الى عراق اليوم يُذكّرني صديقي quot;مضرquot; بنظرية العمالة والخيانة العراقية مازحاً: quot;بأنه وفقاً لهذه النظرية وسخافتها، فأنها تتراوج بنسب معينة حسب النسبة السكانية، فأن عموم الشعب الكردي عميل للقوى ألأجنبية، كما أن أكثرية عرب الجنوب الشيعة عملاء وعدد ضئيل ونسبة قليلة جداً من سنة العراق لاتجد أي شائبة على أخلاصهم وحبهم لتربة العراقquot;. ولعل تلك السيكولوجية وشيوع الشك بمن هو المواطن المخلص كانت من الأسباب التي لم نستطع بموجبها تبجيل وتتويج من مات في سبيل العراق.

ضياء الحكيم
[email protected]