بوهيمي في الحياة ومهندس صارم في القصيدة

لندن ـ بيروت ـ القاهرة ـ القدس العربي :
عن نحو ثلاث وس ين سنة وبعد صراع مرير وصام مع المرض وفي الشاعر العراقي الكبير سركون بولص في احد مس شفيا برلين، لم يكن الخبر مفاجئا لكثير من اصدقائه، فهو كان يعاني من المرض ولكن، مع ذلك، اك سب خبر رحليه وقع الصاعقة علي من عرف هذا الشاعر العراقي المميز شعرا وحياة، وكذلك علي من قرأ شعره واحبه، لسركون بولص منزلة خاصة في الشعرية العربية، فهو احد أهم شعراء، الس ينا ، في العراق والعالم العربي، برز اسمه في مجلة، شعر، في ف رة مبكرة من حيا ه، وعرف في الوسط الشعري العراقي مع عدد آخر من شعراء الس ينا باسم، مجموعة كركوك، نسبة الي المدينة العراقية الشمالية، _وكان لسركون، داخل هذه المجموعة موقع المحور، بسبب اطلال ه علي الشعر والأدب المك وب باللغة الانكليزية، غادر سركون بولص العراق في نهاية الس ينا واقام ف رة من الوق في بيرو حيث عمل في مجلة، شعر، في اواخر ايامها، ثم انطلق من العاصمة اللبنانية الي امريكا حيث ظل يقيم الي يومنا هذا، لسركون بولص بضع مجموعا شعرية منشورة من بينها، الوصول الي مدينة أين، الحياة قرب الاكربول، الأول وال الي، اذا كان نائما في مركب نوح، حامل الفانوس في ليل الذئاب، اضافة الي مجموعة بعنوان، عظمة أخري لكلب القبيلة، س صدر خلال أيام عن دار الجمل، في ال مانيا،
هنا اس جابا سريعة، علي وقع الخبر الأليم، يقدمها عدد من الشعراء والن قاد العرب، اضافة الي بضع قصائد من ديوانه قيد الصدور، عظمة اخري لكلب القبيلة،

الشاعرُ العراقيّ الوحيد

سعدي يوسف

سركون بولص (1944 ـ 2007)، يرحل في برلين...
في مستشفيً ببرلين.
في تمّوز، هذا العام، وفي الجنوب الفرنسيّ، في مهرجان لودَيف تحديداً، ألتقي سركون لقاءً غريباً.
كنتُ أعرفُ أنه في لودَيف، قادماً من لقاءٍ شعريّ بروتردام، لكني لم أجده في الأيام الأولي. انطلقتُ باحثاً عنه في الفنادق والمنازل، بلا جدوي. أنا أعرفُ أنه مريضٌ، وأنه بحاجةٍ إلي انتباه واهتمامٍ... لم أعثرْ عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلحُ أن تكون بوّابةً حتي لنفسها...
سألتُ عنه أصدقاء، فلم يجيبوا.
عجباً!
وفي صباحٍ باكرٍ. عند مخبزٍ يقدم قهوة صباحٍ. رأيتُ سركون جالساً علي الرصيف. كنتُ مع أندريا. قبّــلتُه: أين أنت؟
كان شاحباً، مرتجفاً من الوهَن، محتفظاً بدعابته: في الساعة الثالثة فجراً طردتْني مالكةُ نُزْلِ الورود.
La Roseraie
كانت تصرخ مرتعبةً حين وجدتْني متمدداً علي أريكةٍ في البهو. سهرتُ مع خيري منصور وغسان زقطان. هما ذهبا ليناما في غرفتَيهما. لا مجال لي للعودة إلي الغابة. قلتُ أنام قليلاً هنا حتي انبلاج الصبح. لكنّ السيدة جاءت...
سألتُه: عن أيّ غابةٍ تتحدّث؟ (ظننتُه يهذي). قال بطريقته: إي... الغابة التي اختاروا مسكني فيها. ليس في المسكن فراشٌ مجهّز. المكان مقطوع. هناك سيارة تصل إلي المكان مرةً واحدةً في اليوم!
أخبرتُه أنني بحثتُ عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها.
قال إنه ليس في المدينة!
جلسنا معه علي الرصيف.
فجأةً لمحتُ إحدي المسؤولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها.
ابتدرتُها بالفرنسية: Il va mourir dans la rue...
سوف يموت في الشارع!
عواهرُ المهرجانات، يستمتعن، كالعادة، في غرفاتٍ عالية...
ہ
قلقي عليه ظلّ يلازمني.
حقاً، اشتركتُ معه، في جلسة حديثٍ مشتركة، أمام الجمهور، عن العراق، وكان رائعاً وراديكالياً كعادته، ذا موقفٍ مشرِّفٍ ضد الاحتلال، علي خلاف معظم المثقفين العراقيين. أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها أقرب إلي العافية، لم تخفِّفْ من قلقي عليه.
رأيتُه آخر مرةٍ، في منزل الوردِ التعيس، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوِّرُ سينما. قالا إنه سوف ينزل هنا (المهرجان أوشك ينتهي). ظلاّ يرهقانه بمقابلةٍ تافهةٍ
ثم أخذاه فجأةً إلي خارج منزل الوردِ. سألتُهما: أين تمضيان به؟ إنه مريض.
أجابا: هناك إجراءٌ رسميّ (توقيع أو ما إلي ذلك) ينبغي أن يستكمَل!
قلتُ لهما: إنه لا يستطيع السير. دعاه يستريح. نحن نعتني به.
قالا: لدينا سيارة!
انطلقت السيارةُ به، مبتعدةً عن منزل الورد.
في الصباح التالي غادرتُ لوديفَ إلي غير رجعةٍ.
ہ
قلقي عليه ظلّ يلازمني.
اتّصلتُ بفاضل العزاوي في برلين. ألححتُ عليه أن يتابع حالة سركون.
سركون في غُرَيفةِ مؤيد الراوي.
ثم اتصلتُ ثانيةً. قلت له إن سركون في المستشفي.
طمْأنني فاضل عليه.
لكني لم أطمَئِنّ.
ہ
هذا الصباح، ذهب خالد المعالي، يعوده، في المستشفي البرليني، ليجده ميتاً...
(التفصيل الأخير تلقّيتُه من صموئيل شمعون الآن...)
ہ
ذكرتُ أن سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد...
قد يبدو التعبيرُ ملتبساً.
لكن الأمر، واضحٌ، لديّ.
سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق.
بدأ في مطلع الستينيات، مجهّزاً، مكتمل الأداة، مفاجِئاً وحكيماً في آن.
لم يكن لديه ذلك النزق (الضروريّ أحياناً) لشاعرٍ شابٍّ يقتحم الساحة.
سركون بولص لم يقتحم الساحة. لقد دخلَها هادئاً، نفيساً، محبّاً، غير متنافسٍ.
كان يسدي النصيحةَ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة، مقابل الخصومةِ، والمشتبَكِ، والادّعاء.
لم يكن ليباهي بثقافته، وإن حُقّتْ له المباهاة.
هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ.
سركون بولص يكره الادّعاء!
ہ
وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ...
هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ.
لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تَرْفعُ...
لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر!
وقف ضدّ الاحتلال، ليس باعتباره سياسياً، إذ لم يكن سركون بولص، البتةَ، سياسياً.
وقفَ ضد الاحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة، يقف ضد الاحتلال.
سُــمُوُّ موقفِه
هو من سُــمُوّ قصيدته.
ہ
لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسؤولياتها، مثل ما ألَمَّ سركون بولص. مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً. إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلي النصّ الـمُنْبَتّ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ:
رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة...
مدخلُهُ، المدّ الشعريّ الأميركيّ. مجدُ النصّ المتّصل.
أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة.
قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقري...
طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا...
ہ
قصيدتُه عن السيد الأمريكيّ نشيدٌ للمقاومة الوطنية في العراق المحتلّ!
ہ
سركون بولص...
شاعر العراق الوحيد!
لندن 22/10/2007

***

أحسن التمرد في الحياة وفي القصيدة

محمد بنيس
(شاعر من المغرب)

يموت الشاعر سركون بولص علي غرار أبناء عائلات عراقية في المنافي. يشعر بوحدة تهجم عليها الجثث والدماء من كل الجهات. وليست في فمه صلاة واضحة الحروف. لا يحتاج لمن يدله علي القتلي طيلة اليوم واليوم الذي يليه. هو في مشاهد القتل يتفحص عقوداً من الدم والعذاب والرعب والتشرد. حتي هدوؤه كان يصعد من أسافل الحياة التي كان مشدوداً إليها. كل ذلك كان مضاعفاً، في حياة شاعر، أحسن التمرد في الحياة وفي القصيدة.
يموت في برلين، سركون، حيث كان يفضل في سنواته الأخيرة قضاء حياة المنفي، كما أخبرني صمويل وهو يكاد يبكي. أخوه الأكبر صديقي وصديق شعراء في جميع البلاد العربية. سركون، الوديع، الذي لا ينسي الذين يحبهم. هناك، في برلين، توفي هذا الصباح. حينما أفكر فيه أستحضر قصيدة قائمة الذات. نحتها عبر سنوات طويلة من الصبر والاستزادة من المعرفة الشعرية، حتي أصبحت علامة عليه، وطريقة مخصوصة يستهدي بها جيل من الشعراء. قصيدته التي كانت تفضل معجمها اليومي فيما هي تقترب من المتاهات ومن العذاب الأبدي. كذلك هي قصيدته منذ تعرفي عليه أول مرة، في الستينيات، من خلال مجلة quot;شعرquot;، شاعراً وكاتباً عما لم يكن معهوداً، أو في اللاحق مترجماً لشعراء أمريكيين لم تكن أسماؤهم متداولة بين الشعراء والنقاد العرب. أنذاك، أحسست أن تجربة الحياة لديه أصفي وآلامها أعمق. بذلك انحفرت في ذاكرتي صورة شاعر عربي بودليري، مختلف عن البولدليريين المعروفين، واصل من بغداد إلي بيروت. ثم بعد سنوات كانت لنا اللقاءات في القصيدة وفي فضاءات، تبدأ من المغرب ثم تمتد إلي بلاد في العالم.
حضور قصيدته لا يقل عن حضوره هو شخصياً، بتأنيه في النطق بالكلمات وفي اختيار مناسبة الكلام. لكنها القصيدة التي أبعدته عن سواها. ترحاله الدائم، بين سان فرنسيسكو وأروبا، أو لندن ثم برلين تحديدا، كان وجهاً للاستقرار الذي طبع حياته. وجه يثبت أمامي. سركون، الذي يمكن أن يقضي نهاره في مكان وليله في مكان آخر. لأن المكان الحقيقي، بالنسبة له، هو القصيدة. لربما تسرع من يشاهده إلي الاعتقاد في أنه شاعر يمارس التشرد عن قناعة، لكن سركون شاعر دائم الترحال، لكأنما القصيدة بنت ذلك الترحال، الذي لا يكف عن تجديد معني القصيدة. في لقائنا الأخير، هذا الصيف، أثناء مهرجان لوديف، كانت الكلمات بيننا تنساب. بأقل الحروف نتخاطب، أو بأقل حركات اليدين. جلوسه في مقهي مفتوح علي الشمس والهواء والنباتات والعابرين، محاطا بأصدقاء محاورين ومنصتين، يعيد لي جلسة حكيم يبادل الآخرين كلمات تمتزج بالعالم. لا شيء يبعده عنها. غضبه علي إسكانه في إقامة نائية عن المدينة جعلني أتضامن معه من أجل أن يكون قريباً من كلمات الآخرين كما من الحياة في المدينة. سيدة فرنسية حضرت قراءته الشعرية قالت لي: سركون، هو التراجيدا نفسها. لا مبالغة في حكم هذه القارئة الغريبة التي أنصتت إليه مرة واحدة. في كلماته القليلة أعثر دائما لديه علي ما يشد الناس إلي بعضهم بعضاً. وسركون بها كان يحس بألفة مع من يقرؤونه، ومعهم كان يدرك حقا أنه يكتب قصيدة له، فيها يعود من جديد بالكلمات إلي ميلادها.

سركون عليك السلام

***

قاسم حداد
(شاعر من البحرين)

أخشي أننا سنفقد نكهة كاملة في حركتنا الشعرية بوفاة الصديق الشاعر سركون بولص.


ليس ثمة كهولة ولا شيخوخة، سركون بولص من الفتوة إلي الرحيل، كأن حياته هي الشعر الذي يكتبه، وليست الزمن الفيزيائي الذي يستغرقه، وهي ميزة لا تحدث كثيراً في الواقع، الشعراء فقط قادرون علي ذلك.
سركون ظل الفتي الذي لا يكتهل ولا يشيخ. قصيدته حصنته ضد الزمن.

كان أحد الشعراء الذين لم يتوقفوا للانشغال بتوصيف ما يكتبون، فقط كان مؤمناً بشعر يذهب إليه بثقة الطفل في حلمته الأولي. يلثغ، يتمتم، يتلعثم، ينهنه، يشهق، وتعال اسمعه عندما يقهقه الطفل.
سركون بولص كان يفعل كل ذلك ليكتب شعراً من الطفولة.

لعله كان يشعر بأن أفضل طريقة لإقناع العالم بضرورة الشعر وجماله وجدارته، هي كتابة الشعر الجيد والجميل والصادق.
سركون كان يفعل ذلك فقط، يفعله كمن لا يريد شيئا آخر.

بالرغم من ورشة الجدل والسجال واحتدام النقاشات التي اشتهرت بها جماعة كركوك ، ليس في أوانها فحسب، ولكن حتي سنوات قريبة حين دارت نقاشات حولها، بقي سركون بولص بعيدا عن الدخول في هذا السجال النقدي (أدبا وتاريخاً)، معتزلا في نصه الشعري فحسب.


المرة الوحيدة التي التقي فيها، قبل سنوات في مهرجان الشعر في مسقط، لم نتبادل كلمة واحدة عن الشعر، كان مأخوذا بالحياة أكثر عندما يتعلق الأمر بالعلاقة الإنسانية المباشرة، طفولته المسترخية منذ سنوات هي التي بقيت منذ ذلك اللقاء، وبعض اتصالات هاتفية قليلة يوم كان في أمريكا. صوته الرهيف حد التعب لم يكن يشبه صورته الشعرية الصارمة.


كلما غاب شاعر صديق فقدتُ جزءاً من نفسي.
الآن،
وحشة عميقة ستجتاح حركتنا الشعرية بغياب سركون بولص.
وحزن عظيم، أعزي فيه جميع الأصدقاء لهذا الفقد الفادح.

عمارات استدراج الذائقة

صبحي حديدي
(ناقد من سورية)

رحل سركون بولص شاعراً كبيراً صاحب تجربة كبري، بالغة الحضور، واسعة التأثير. ورحل شاعراً مقلاً بالقياس إلي عدد المجموعات التي أصدرها، سيّما وأنّ مجموعته الأولي لم تُنشر إلا سنة 1985، حين تجاوز سنّ الأربعين. هنا مفارقة أولي ذات مغزي في تجربة بولص: أنّ الحجم الكمّي لنتاجه الشعري لم يتناسب البتة مع حجم التأثير النوعي الهائل الذي مارسه، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتي اليوم في الواقع، علي جيلين متعاقبين من الشعراء العرب، وشعراء قصيدة النثر علي نحو أخصّ.
امتزاج هاجس التعبير الجديد بقلق اجتراح الشكل المغاير كان في رأس هموم بولص منذ البدء، وهكذا ظلّ حتي آخر قصائده التي نشرها قبل أسابيع قليلة. وامتيازه كان الاشتغال الدؤوب، والشاقّ تماماً، علي استقصاء تلك الهندسة الإيقاعية الغائبة، أو المتعثرة في أفضل المقترحات، والإلحاج علي انبثاقها من وسيط النثر في ذاته، واعتمادها علي ديناميات النثر وليس شَعْرَنته فقط، علي نحو يمسخ طاقات النثر بدل أن يطلقها. وبهذا المعني فإنّ من الإنصاف البسيط ضمّ بولص، وعدد من الشعراء مجايليه، في العراق ولبنان خصوصاً، إلي صفّ ريادة قصيدة النثر العربية في جانب جوهري وتكويني من مشاقّ كتابتها: البحث عن الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة علي نحو مَرِن، جذابة ولافتة، قادرة في الآن ذاته علي منافسة التفعيلة في استدراج ذائقة حرونة متجبرة، ظلّت طيلة قرون أسيرة نظام السماع والأذن والتلاوة الجهرية.
هنالك جانب آخر حاسم في شعر بولص، أتيح لي أن أتوقف عنده في مناسبات سابقة، هو أننا بحاجة إلي نماذجه في المستوي التربوي والتعليمي، إذا كنّا سننجح ذات يوم في إدخال جماليات قصيدة النثر إلي المناهج المدرسية في التعليم الثانوي علي سبيل المثال. ففي قصيدة بديعة مثل quot;إلي امريء القيس في طريقه إلي الجحيمquot;، من مجموعة بولص الرابعة quot;حامل الفانوس في ليل الذئابquot;، 1996، يقول: quot;ضيّعني أبي صغيراًquot; أجل ضيّعني ولن أستريح/ quot;اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌquot; تقول الريح/ ولي خمر وجمر ومعلّقةٌ/ قد أهزِمُ بها جنيّاً يزورني في مثل هذه الساعة/ في مثل هذه الساعة دوماً كأننا علي موعدٍ/ لا يقبل التأخير محمّلاً بكلّ ضغائني/ ليعلّمني أسرار السواد في سراديب سويدائي/ وهذا الغسق اللعين، المتكاثف ظلاً فظلاً ليعلم أنني/ أحلم في آخر قطرة ترشح من سَدولهِ/ بأنواع الهموم، بأنواع الهموم!quot;. وليس عسيراً أن ندرك البُعد التربوي في كيمياء هذه القصيدة: أنها تصنع شبكة بارعة، وخافية، لاستدراج قاريء الشعر المتوسط علي دفعات: إثارة فضوله، إلزامه بالركون إلي منطقة وسيطة بين القراءة الصامتة والقراءة الجهرية، استثارة ذاكرته الإيقاعية واستنفار أوالياتها الراسخة المطمئنة، استفزاز أعرافها، وصولاً إلي اقتياد القاريء نحو quot;مصالحةquot; من نوع ما بين ذاكرته الإيقاعية وهذا الإقتراح الإيقاعي الطاريء.
وغنيّ عن القول إن تجربة الراحل الكبير اشتملت علي العديد من الاختراقات التعبيرية والفنّية والجمالية، فضلاً عن تلك التي تخصّ موضوعات قصائده، وليس الحديث هنا عن جانبين فقط في تلك التجربة إلا من طراز الاختزال الذي يقتضيه المقام.

***

مدينة أين...

لينا الطيبي
(شاعرة من سورية)

أن تصحو في صباح عادي جدا.. تنظر من نافذتك فلا تري غير ما تراه عينك كل يوم.. أن يأتيك فجأة خبر رحيل شاعر أكبر.. أن تسأل السماء لم هي عادية جدا.. لم لا تودع شعراءها بما يستحقونه..
سركون بولص رحل.. كان الخبر يحمل صدمة كبيرة.. لكن السماء كانت تستقبل رحيله الذي لم يتوقف. تعلم أسرار الحفاة ليسير في دروب المدينة القديمة التي كانت تنتظر أقدامه.. الشاعر الذي آمن بأن الشعر مثل شبكة صياد يجلس علي حافة النهر إما نمسكه وإما يذهب في طريقه.
هو الذي آمن بأن الشاعر دائما هو البداية .. وأن لا نهاية للشعر.. مشي كثيرا في دروب العالم، حاملا مغامراته وعلي كفه حياته مثل جندي قديم في معبد الترحال، قادته خطاه إلي سبل شتي، والتقي بأصناف كثيرة من البشر، هل كان يبحث طيلة الوقت عن مدينة أين؟..
الشاعر الآن تطأ قدمه تلك المدينة فهل سيبدأ فيها، ألم يقل أن الشاعر دائما هو بداية وأن ليس أمامه سوي أن يبدأ..
في اواخر الثمانينات وبدايات التسعينات كان ديوان الوصول إلي مدينة أين الذي تأخر الشاعر كثيرا قبل أن يصدره، ومن ثم الحياة قرب الأكروبول مجموعات مؤثرة في ثقافتي الشعرية، وقد استطاع سركون بولص أن يعلّم في جيل كامل من شعراء قصيدة النثر، لكن سركون لم يتوقف عند محطة التأثير الشعري بل ظلّ يصيد الشعر وهو في ترحاله، وفي كل مرة يصدمنا بجموح مخيلته.
سركون بولص الذي ذهب باحثا الآن عن مدينة أين.. تطأ أقدامه آخر المدن.. لكنه يصنع بداية مع كل قصيدة نقرأها له..
يرحل الشاعر تاركا لنا أن نتأمل حضوره الأكثر إشراقا.. حضوره الأكثر بقاء.. يرحل سركون بولص تاركا لنا شعره لنكمل طريقا بدأه.. ونصنع مع كل صبيحة بداية جديدة..

***

مضي بلا مساومات

رفعت سلام
(شاعر من مصر)

تجربة متميزة حافلة بالدروس قدمها الراحل سركون بولص يتشابه في بعض ملامحها مع كفافي الذي توفي دون ان يترك ديوانا واحدا منشورا لرغبته العميقة في البعد عن الاضواء والمساومات.
ذلك درس مما قدمه سركون في زمن تمثل الميديا فيه حضورا لا فكاك فيه فيمضي دون ان تصل اشعاره الي محبيه والعارفين بقدره.
لم يتواطأ ولم يَخْطُ خطوة قابلة للندم عليها، فيما تساقط الكثيرون من قرنائه في شباك الاغراءات الحكومية وغيرها.
اما الدرس الثاني الهام فيكمن في انقلاب الشاعر علي نفسه، وهي عملية شبه مستحيلة، فاذا كان قد انطلق من قصيدة التفعيلة فانه لم يلبث ان تخلي عما حققه فيها، ليدخل في تجربة مناقضة تقريبا هي قصيدة النثر، وفي الحالين فقد ينطبق عليه انه قد كسر عنق البلاغة في تجربته الشعرية ليكتشف الشعري في النثري والجوهري في العابر بلا معاضلات او افتعال.
حلقة اساسية مع مجموعة من اقرانه في تطور قصيدة النثر العربية، ولم يدرك احد قيمته الشعرية الحقيقية الا بعد ان ينجلي اللغط والضوضاء والصخب الحاليان ليتجلي بعد حين وجه الشاعر الحقيقي الذي قدمه سركون بولص.

***

متأمل لا يعرف البلاغة

علاء خالد
(شاعر من مصر)

اول ما قرأت لسركون بولص ديوانه الحياة قرب الأكروبول وكان اول ديوان يلفت انتباهي في قصيدة النثر الي جماليات جديدة تتمثل في نفي البلاغة التقليدية فهو غير مرتبط بأي مرجعية بلاغية عربية وليس هذا معناه انه غير قاريء للتراث العربي، ومن ناحية اخري فان قصيدته تعتمد علي اسلوب الاستطراد، فيبدو جزء من المشهد في بداية النص ثم تحدث مجموعة من الاستطرادات كنوع من الاشتغال، وهذا ما يعطي قصيدته وحدتها التي لا توفرها اللغة وحدها، هذا بالاضافة الي الفكرة الانسانية التي يحملها النص بعكس الحداثة في قصيدة النثر العربية التي ارتبطت بمناهضة السلطة، وربما يعود ذلك الي هجرته الي الولايات المتحدة، فالقصيدة بالنسبة له تأكيد عبر مفهوم النص الانساني. فمركز القصيدة لديه متعدد ومتنوع وليس هناك مركز واحد للتكوين، بالاضافة الي قدرته التحليلية في النص، وكذلك حالة تأملية للمواقف والمشاهد، وهما ملمحان اساسيان في شعرية سركون وحسه الفلسفي، الذي لا يعني الفلسفة بالمعني التقليدي، وهذا ما يشعرني بأن فكرة الذهنية لديه ذهنية صلبة ولها حياتها الخاصة.

***

الحياة قرب الاكروبول

محمود قرني
(شاعر من مصر)

في تلك الحمأة التي اخذت الاجيال ما بعد السبعينية الي فضاءات قصيدة النثر الموحشة، كان سركون بولص واحدا من تلك الرايات او تلك الاحجار البيضاء التي يمكننا ان نضعها علامة عل طريق لا نريد ان نضل الوصول اليه.
اذكر انني استعرت ـ الي الابد ودون عودة ـ مجموعتي سركون الحياة قرب الاكــــروبول و الوصول الي مدينة اين من الشاعر محمد عيد ابراهيم، فقد كانتا قراءتين ماكرتين ومغامرتين لذلك الصلف الذي كلل القصيدة القومية بالكثير من فيوضات الفصاحة.
اذكر ان شبابا من اقراننا حفظوا الحياة قرب الاكروبول عن ظهر قلب، واعادوا انتاجه، وابتسروا منه ما استطاعوا، ومع ذلك فان حضور سركون في ادبيات الشعرية العربية ونقدها لا يناسب ـ بالمطلق ـ اهمية اجتراحاته المبكرة، باعتباره همزة اتصال بين جيلي الستينيات والسبعينيات، وهذا الاقصاء ليس غريبا علي حياتنا العربية علي كل حال. ويبدو ان عشرات الاسباب كانت تؤدي بسركون الي هذا المصطلي بداية من مساهمته المبكرة مع جماعة كركوك التي لم يكن لها من الحظ ما كان لمدرسة شعر اللبنانية، وكان ذلك الي جانب الحضور الذي مثلته تجارب نوعية لدي الاب يوسف سعيد ، مؤيد الراوي، صلاح فائق، فاضل العزاوي وآخرين.
وربما كانت تلك الاختيارات المغامرة والصعبة هي التي حالت دون تجاوز سركون لدواوينه الخمسة التي بدأ اصدار أولها في العام 1985، وهي سن متأخرة بالقطع لرجل مولود في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، ومن المؤكد ان سركون وجد الكثير من نفسه في تلك الترجمات التي قدمها لكبار الشعراء في الولايات المتحدة، وعلاقاته الخاصة مع جماعة البيت غير ان اغترابا دام اكثر من اربعين سنة لشاعر في قامة سركون بولص دون ان ينتبه الكثير من الاقران والانداد فضلا عن المؤسسات الرسمية إليه، لأمر يدعو للدهشة والتساؤل، اما الدهشة فبسبب هذا القدر الفائض من الجحود والنكران، واما التساؤل فهو للشعراء قبل ان يكون للسلطات: ما الذي فعلته المؤسسات الثقافية العربية التي تقيم المهرجانات وتطبع المؤلفات وتمنح الهبات لشاعر في قامة سركون؟!