الشاعر سيد جودة:
قصيدة التفعيلة تراجعت أمام قصيدة النثر. ولكنها لم تنتهِ

محمد الحمامصي:
يحضر الشاعر سيد جودة في المشهد الشعري المصري بقوة علي الرغم من إقامته في هونج كونج حيث هاجر إليها عام 1992، حيث أن تجربته لم ينقطع تواصلها مع جل شعراء جيله من شعراء الثمانيناتوالتجارب السابقة عليه والتالية له، استطاع أن يحقق لتجربته خصوصية في الرؤية والنسيج من خلال قبضه علي أدوات الكتابة الشعرية الأولية ثم اتساع القبضة لتلم بمجمل تطورات التجربة الشعرية العربية والعالمية، ليصبح له أخيرا صوته الشعري المتميز والخاص، من أعماله (دخان الحب) و(تساؤلات كاساندرا الحزين) و(انكسار الحلم والألم) والتي ترجمت للغة الصينية، كما ترجمت الكثير من قصائد هذه المجموعة الشعرية إلي لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية، وفي هذا الحوار معه نتعرف علي تطور تجربته.

** بداية نود أن تلقي الضوء علي بدايات تجربتك؟
** كتبت أول نص لي وأنا في الخامسةعشر من عمري وعرضته على معلمي في اللغة العربية الأستاذ أحمد حسن الذي أقنعني بأنني شاعر وشجعني على الكتابة وبدأ يعلمني العروض ويصحح نصوصي لعامين دراسيين كاملين. وإليه يرجع الفضل لكوني شاعراً. نصحني أستاذي بقراءة الشعر القديم قبل أن أبدأ بقراءة أي شاعر حديث. كنت محظوظاً أنه كان يدرس لي الشعر الجاهلي في ذلك العام الأمر الذي جعلني أعشق الشعر العربي القديم، وكنت أحفظ المعلقات عن ظهر قلب وأكتب شعراً على شاكلتها وأعرضه على أستاذي. اعتدت خلال الإجازة الصيفية أن أذهب لمكتبة الخلفاء الراشدين وهي مكتبة عامة في مصر الجديدة في الساعة التاسعة إلا ربع صباحاً منتظراً أن تفتح في تمام التاسعة، وأظل هناك أقرأ دون تناول الغداء حتى موعد إغلاقها في الخامسة عصراً. قرأت في تلك المكتبة تقريباً كل الشعراء العرب القدامى منذ العصر الجاهلي وحتى شعراء مدرسة الإحياء وما تبعها من المدارس التي جددت الشعر العربي. هذه الفترة هي التي شكلت ذائقتي الشعرية، وكانت بمثابة أساس قوي استطعت به أن أطلع على الآداب العالمية لاحقاً والاستفادة منها دون الذوبان فيها. استمرت رحلتي مع الشعر وحصلت على الجائزة الأولى في الشعر في كلية الألسن عام 1990 وهو العام الذي تخرجت فيه. هاجرت إلى هونج كونج عام 1992 وانقطعت صلتي بالساحة الأدبية في مصر والعالم العربي لبعد المسافة ولعدم وجود الانترنت في ذلك الوقت. اقتصرت قراءتي على اللغتين الإنجليزية والصينية طوال هذه السنوات باستثناء بعض الكتب العربية التي كنت أشتريها في مصر أثناء زيارتي كل عام. بدأت أستخدم الانترنت عام 1998 ولم يكن هناك الكم الكافي من المواقع الإلكترونية التي يمكن أن ترسم لي صورة جيدة لما يدور في مصر. كان أول احتكاك مباشر لي بالمناخ الأدبي في مصر في مارس 2005 حين نظمت رحلة أدبية لشعراء وفنانين من هونج كونج والصين وأقمنا ندوتي شعر مع شعراء مصر في أتيلييه القاهرة. كانت هذه هي بداية تنبهي إلى انتشار قصيدة النثر بهذه القوة التي لم أكن أتوقعها أبداً وشعرت أنني من أهل الكهف. ومع ذلك فأنا سعيد أنني لم أكن متواجداً في مصر فترة التسعينيات حتى لا أتأثر بما تأثر به غيري. كان أفضل لي أن أكون بعيداً لأطلع على الآداب العالمية بهدوء وهضمها على مهل لتكوين رؤيتي الخاصة بعيداً عن أي مؤثرات محلية قد لا تحدث سوى التشويش.

** وماذا عن مراحل تطور هذه التجربة؟
** لقد بدأت كتابة الشعر بكتابة القصيدة العمودية، وكتبت عشرات القصائد العمودية التي لم أنشرها وأعدها الآن نوعاً من التدريب وليست للنشر. تحولت لكتابة قصيدة التفعيلة بعد أن وجدت أن القصيدة العمودية لم تعد تفي باحتياجاتي الشعرية. والآن لا أكتب سوى قصيدة التفعيلة التي تستوعب كل ما أريد التعبير عنه ولهذا السببلم أكتب قصيدة النثر حتى الآن لأنني كلما قرأت قصيدة نثر لم أجد بها ما يتعذر قوله في قصيدة التفعيلة. ولكنني طورت نفسي كثيراً في ظل قصيدة التفعيلة بدءاً من الرومانسية إلى السردية إلى الرمزية إلى الصوفية والتي أوظفها بشكل مغاير عن الشعر الصوفي العربي حيث أنني أحاول مزجها بالرمزية انطلاقاً من لقطات الحياة اليومية التي أحاول أن أضعها في إطار كوني أشمل من مجرد وصف تجربة فردية. إنني راض ٍ تماماً عن تجربتي الشعرية وعن مشروعي الشعري الذي أخطو فيه بخطى بطيئة ولكن واثقة. على الرغم من أنني أبدأ في قصيدتي من جزئية خاصة بزمان ما ومكان ما لكني أحاول أن أتعدى الزمان والمكان إلى الكونية. إنني أخاطب الإنسان في قصائدي الجديدة وليس القارئ العربي فقط. إن هناك كثيراً من الأشياء التي تفرقنا في اللغة واللون والثقافة والتاريخ والدين ومن أجل كل هذه الأشياء قامت حروب أفنت الملايين من البشر، والشيء الوحيد الذي يجمعنا هو الإنسانية التي لو توجهنا إليها بقلوبنا لانتفت أسباب الصراع بين الإنسان والإنسان، والشعر هو أقوى أداة للتعبير عن هذه الرسالة. وهذا ما أحاوله في قصائدي مؤخراً، وهو أن أجمع بين تراثي الصوفي وبين روحانيات الشرق الأقصى ودياناته التي تقترب كثيراً من الصوفية في شفافيتها وتجردها، وكل هذا يخاطب الوجدان الإنساني، فليس في الإنسانية شرقٌ أو غربٌ، لا يوجد سوى الإنسان وما سوى ذلك فهو من صنع الإنسان الذي بسببه قامت الحروب وعانت البشرية.

** ما طبيعة المؤثرات التي أحاطت بهذه التجربة ومدي تأثرك بها؟
** تقريباً كل الشعراء القدامى ساهموا بشكل كبيرٍ في تشكيل وجداني الشعري دون أن يكون لأحدهم بصمة واضحة على شعري، لأنه ليس من المعقول أن أكون في عصرنا هذا وأكتب بلغة وأسلوب الشعراء الجاهليين أو العباسيين. فيما يتعلق بالشعر الحديث كان أول الشعراء الذين تأثرت بهم هو صلاح عبد الصبور وأثر فيّ حزنه الشفيف وانكساراته كفارس يعيش في الزمان الخطأ، كما أثر فيّ فاروق جويدة وأسلوبه الرومانسي الهادئ، وإبراهيم ناجي وجراحه النبيلة. آخر الشعراء العرب الذين أثروا فيّ كان أمل دنقل بإبائه الثائر وبراعته في التقاط دقائق حياته اليومية ووصفها وصفاً سيميائياً أبرع ما يكون. ولكنني تخلصت من شباكهم جميعاً بعد قراءتي الغزيرة للأدب العالمي باللغتين الإنجليزية والصينية وبعد كثرة كتابتي ومحاولاتي العديدة لإيجاد صوتٍ خاص بي وأعتقد أني نجحت في هذا. ولأمل دنقل يعود الفضل في عودتي لكتابة الشعر العربي بعد أن قررت في وقت ما في نهاية التسعينيات هجرة الشعر العربي وكتابة الشعر باللغة الإنجليزية ولكن بعد سماعي لبعض قصائده بصوته على الشبكة العنكبوتية تذكرت عشقي القديم الذي لم يبرح قلبي لحظة وإن كان قد هدأ نوعاً ما في تلك الفترة، بعد سماعي له يقرأ قصائده لم أتمالك غير العودة لكتابة الشعر باللغة العربية.
أما الشعراء غير العرب الذين أعجبوني فهم كثيرون لا يتسع المقام لذكر أسمائهم جميعاً ولكني سأذكر فقط هؤلاء الذين تركوا في نفسي شيئاً فأبدأ بشعراء اللغة الإنجليزية. أذكر منهم quot;ت.س. إليوتquot;، quot;إدجار ألان بوquot;، quot;لورد بايرنquot; و quot;شيلليquot;. و في الحقيقة إن شعراء اللغة الإنجليزية لم يؤثروا فيّ كشعراء آخرين كتبوا بلغات أخرى أذكر منهم الشاعر الكوني العظيم quot;طاغورquot; الذي قرأت كل أعماله الشعرية باللغتين الإنجليزية والصينية أكثر من مرة ولابد أن أقرأه من حين لآخر، وكذلك الشاعر الصيني الرومانسي شاعر الحب والحرية quot;شو زي موquot; الذي كان أول الشعراء الصينيين الذين أثروا فيّ وفتح لي الباب لقراءة الشعر الصيني. وأذكر كذلك من الشعراء المعاصرين الشاعر الصيني quot;بي داوquot; المقيم في الولايات المتحدة وهو من أشهر شعراء المدرسة الرمزية في الصين، وكذلك صديقي الشاعر الصيني quot;زن دانيquot; وصوره السوريالية التي تثير الإعجاب والفكر، وكذلك الشاعر الصيني العظيم الذي ترجمت له أكثر من سبع عشرة قصيدة quot;شوهونج سينجquot; وأعجبني بساطة لغته وعمق معانيه والتقاطه لمفرداته الحياتيه وتوظيفها توظيفاً شعرياً رائعاً. أحب أيضاً الشاعر الياباني quot;باشوquot; رائد الهايكو الياباني والذي عاش في القرن السابع عشر وصوره المركزة التي لا تخلو من روحانية جميلة. أذكر كذلك الشاعر السكندري اليوناني الأصل quot;كفافيسquot; والذي قرأت كل أعماله باللغتين العربية والصينية، والشاعر الألماني quot;ريلكهquot;، والشاعر الروسي quot;بوشكانquot; الذي قرأته بالصينية وفي الحقيقة إتقاني اللغة الصينية مكني أن أقرأ لشعراء عالميين ربما لم أكن لأسمع بهم لولا إتقاني لهذه اللغة، وذلك لأن الصينيين ترجموا لمعظم شعراء العالم تقريباً، وما يترجمونه في شهر نترجمه نحن في عام بل وأكثر. وهكذا فإن تجربتي الشعرية مرت بأكثر من مرحلة ولكنها انصهرت كلها في بوتقة واحدة لأكتب ما أكتبه الآن. لقد كتبت قصائد كلاسيكية تقليدية وقصائد رومانسية وقصائد رمزية وهي أكثر المدارس شهرة في الصين ثم قصائد صوفية نتيجة لقراءتي لرومي وعطار وشعراء الصوفية الذين قرأتهم جميعاً باللغة الإنجليزية لأن الغرب احتفى بشعراء الصوفية أيما احتفاء وقدمهم بلغة مترجمة بديعة. وفي الحقيقة لقد أعدت قراءة تاريخ الأدب العربي بأقلام مستشرقين أمثال ألبرت حوراني و روبرت إروين، وهذا أفادني كثيراً في إعادة اكتشاف تاريخ أدبنا العربي ورؤيته رؤية محايدة بعيدة عن العواطف. أعتقد أن كل هذا ترك أثراً كبيراً على أسلوب كتابتي وعلى قصائدي الحديثة.

** كيف تري مشهد قصيدة النثر في مصر وتقييمك له؟
** أولاً أرفض تصنيفي كشاعر تسعينيات أو شاعر ستينيات، هذه كلها مسميات تذكرني بالحدود التي يرسمها لنا الاستعمار. أنا شاعر وحسب، أحاول أن أكتب للإنسان أياًّ كان وطنه وجنسيته وزمانه. ولكني حين أتحدث عن تجربة جيلي فإنني لم أمر بنفس التجربة التي مروا بها في مصر وذلك لانقطاع اتصالي بجيلي منذ أن هاجرت من مصر عام 1992. ولكن بعد متابعتي لأعمالهم عن طريق المواقع الإلكترونية أستطيع القول بأن هناك ثلاث ملاحظات استوقفتني. أول هذه الملاحظات هو اعتمادهم على شعر السرد الحياتي والتقاط لقطات يومية لإعادة صياغتها إبداعياً، وهذا بلا شك جميل ولكنهم لا يضعون كل هذا في إطار كوني أشمل بحيث لا تكون القصيدة مجرد وصف موقف وحسب بل تخرج من هذا الحيز الضيق لرؤية لا تحدها حدود جغرافية أو ثقافية. الملاحظة الثانية هي عدم وضوح بصمة كل شاعر منهم، فيمكن نسبة أي نص لأي شاعر لغياب هذه البصمة التي تميز شاعراً عن آخر. الملاحظة الثالثة هي أن اللغة عند شعراء قصيدة النثر مجرد أداة لنقل الفكرة وتتعمد خلوها من أي جمال لغوي، وهذه ليست مزية يجب أن يفخر بها شعراء قصيدة النثر، فإذا كان الشاعر يستطيع أن يعبر عن فكرته بلغة جميلة فما الداعي لأن يعبر عنها في لغة تفتقد للجمال. طبعاً أنا لا أتحدث عن البلاغة والمحسنات البديعية فجمال اللغة إنما يكون في بساطتها. لكني ألاحظ على شعراء قصائد النثر تعمدهم استخدام كلمات لا تناسب لغة الشعر وتهدر قيمته، بعض هذه الكلمات لا يناسب النثر أصلاً فما بالنا بالشعر! أتفق معهم في محاولتهم التجديد فالشاعر الذي لا يجدد نفسه هو شاعر قد حكم على نفسه بالموت. غير أن لهذا التجديد شروطاً لابد من الأخذ بها، ولا أظن أن كثيراً من شعراء جيلي قد استوفوا هذه الشروط. أول هذه الشروط هو استيعاب تراثنا بشكل وافٍ، وإتقان الوزن الشعري حتى لو كنت سأنتهي لكتابة قصيدة النثر فلابد من البدء بدراسة العروض وإتقانه. ثانياً لابد من إتقان على الأقل لغة أجنبية واحدة للإطلاع على الأعمال الأجنبية بلغتها الأولى لا عن طريق لغة وسيطة. هذا في رأيي سبب آخر لاتجاه الكثيرين لكتابة قصيدة النثر وهو قراءتهم للأعمال الأجنبية مترجمة للغة العربية ترجمة نثرية فظنوا أن هكذا يكتب الآخرون فقلدوهم وكتبوا مثلهم دون الفهم أن لكل لغة ما يميزها وما يجوز في لغة قد لا يجوز في لغة أخرى. إن قصيدة النثر العربية بشكل عام وليست المصرية فقط تبدو وكأنها قصيدة مترجمة من لغة أجنبية. بل إننا لو حاولنا ترجمة هذه القصيدة العربية للغة أجنبية لكانت أفضل في الترجمة منها في نسختها العربية لأننا نكون قد رددناها لأصولها التي نشأت منها. ومع هذا يجب القول بأن هناك كثيراً من النصوص النثرية التي أقرأها وتعجبني جداً وأستفيد منها كثيراً وأطبق ما يعجبني بها في شعري ولكن بعد أن أكون قد استبعدت عيوبها التي أعرفها.

** وماذا عن وضع قصيدة التفعيلة وهل تراجعت أمام زحف قصيدة النثر؟
** لا شك أن قصيدة التفعيلة تراجعت فيالوقت الراهن أمام زحف قصيدة النثر. ولكن قصيدة التفعيلة لم تنتهِ ولن تنتهي على الرغم من اتجاه بعض شعرائها لقصيدة النثر ولكنهم لم يفلحوا في الأخيرة، ولا أظن أنهم مقتنعون بما يكتبونه من قصائد نثرية، ولكنه نهر الجنون الذي نجري للشرب منه بدلاً من أن نتهم بالجنون! هذا للأسف ما يحدث. فكتابة قصيدة النثر لمجرد أن السواد الأعظم من الشعراء يكتبها، وليس لحاجة الشاعر لتجديد أدواته لهو الجنون بعينه. إن قصيدة النثر ليست امتداداً لقصيدة التفعيلة كما يظن الكثيرون. هذا وهمٌ نحن فقط من يصدقه. لقد أردت كتابة مقال عن قصيدة النثر الصينية وكيف ينظر لها الشعراء والنقاد الصينيون، وحين بدأت في جمع المادة التي أحتاجها لكتابة مثل هذا المقال لم أجد في المكتبات أي كتاب عن قصيدة النثر الصينية! ولم يسعفني سوى شاعر صيني صديق كتب كتاباً عن هذا الموضوع فأهداني كتابه وكان هو مرجعي الوحيد! والسبب هو أن قصيدة النثر لا تمثل أية مشكلة على ساحة الشعر الصينية. لماذا؟ لأنهم ببساطة ينظرون لها كنص إبداعي عليهم كتابته وتقبله ولكنهم لا يرونه امتداداً للشعر الموزون. ولهذا نجد الشاعر الصيني الواحد يكتب القصيدة العمودية وقصيدة الشعر الحر إلى جانب كتابته لقصيدة النثر. في بلادنا فقط يصر شعراء قصيدة النثر على أنها امتداد للشعر الحر وأنها دليل على الحداثة وهذا وهمٌ آخر لا يؤمن به سواهم! فإن كانت الحداثة في رأيهم تعني التجديد وإن كان التجديد لديهم هو الهروب من كل ما يربطنا بتراثنا كأنهم يهربون من شبح ٍ يطاردهم فقد أصبح الهروب ذاته هو هاجسهم الأول عند كتابة القصيدة فأتت القصيدة خالية من أي إبداع. إن حداثتهم حداثة استهلاكية تذكرني بالانفتاح الاقتصادي في مصر فترة السبعينيات الذي كان انفتاحاً اقتصادياً فحسب، وهكذا هي حداثتهم، حداثة استهلاكية لا همّ لها سوى القطيعة مع التراث وتقليد واتباع نموذج غربي لا يناسب ثقافتنا. ومقارنة سريعة مع الصين، وهم تقريباً في ظروف متشابهة، ترينا كيف أن انفتاحهم الاقتصادي لم يكن استهلاكياً بل كان إنتاجياً، وكذلك كانت حداثتهم والتي أخذوها عن الغرب فقد استوعبوها جيداً وتشربوا روحها ولم يعلنوا القطيعة مع تراثهم بل العكس تماماً ما حدث، لقد مزجوا هذه الحداثة مع تراثهم فكانت النتيجة حداثة صينية جديدة لم تسفك دم عظمائها وروادها من الشعراء والأدباء، ولكننا نفعل هذا بدم باردٍ وبفخرٍ.

** ما تقييمك لحجم المواكبة النقدية للتجربة الشعرية سواء الخاصة بجيلك أو الأجيال السابقة؟
** لا أستطيع القول إن هناك حركة نقدية قوية في مصر، وما نراه من قراءة لديوان ما بين الحين والآخر لا يتعدى الانطباعات الشخصية التي تناسب الجرائد اليومية. إلا أن هناك محاولات نقدية جادة تظهر في تلك الندوات التي تعقد لمناقشة ديوان ما. أما النقاد المتخصصون فأعتقد أنهم مشغولون بالتنظير أكثر من قراءة إبداعات الشعراء الشباب ونقدهم وتوجيههم. هذا من شأنه أن أدى إلى شعور هؤلاء الشعراء بالإحباط فلجأ بعضهم للنقد دون دراسة أكاديمية جادة واكتفوا بقراءة بعض الكتب النقدية لنقد بعضهم البعض. ولكني ألتمس لهم العذر لما يمرون به من حالة تجاهل جعلتهم يحاولون أن يخلقوا البديل بأنفسهم.

** أخيرا ماذا عن رؤيتك لمستقبل القصيدة عامة وقصيدة النثر خاصة خاصة وأنك تتابعها عن كثب عبر موقعك الندوة العربية؟
** لقد أدّى زحف قصيدة النثر إلى حركة مضادة مساوية لها في القوة جاءت كرد فعل، فظهر شعراء لا يكتبون إلا القصيدة العمودية، وعاد شعراء تفعيليون لكتابة القصيدة العمودية فقط! لم يكن رد الفعل هذا ملاحظاً عند ظهور الشعر الحر الذي نجح في فرض نفسه ولكن الشعراء أنفسهم لم ينقطعوا عن كتابة القصيدة العمودية وظلوا يكتبون الشكلين معاً، ولهذا احترمهم النقاد ولم تنقطع صلتهم بالجمهور كما حدث مع قصيدة النثر التي أراها السبب المباشر في القطيعة التي حدثت بين الشعر والجمهور. وإنني بصراحة متناهية أرى أن قصيدة النثر قد تستطيع تغيير ذائقة بعض الشعراء والنقاد بنفس نظرية quot;نهر الجنونquot; ولكنها لن تستطيع أبداً تغيير ذائقة الجمهور وسيظل الجمهور يقرأ ويستمع للشعر الموزون فيحبه ويتأثر به ويحفظه عن ظهر قلب. هذا لا يحدث مع شعراء قصيدة النثر الذين لا يستطيعون حفظ شعرهم لغياب الوزن فكيف نتوقع من الجمهور أن يحفظه لهم؟! وكيف سيحفظه التاريخ لهم؟!