الأرصفة؛ على إيقاع خطى الشاعر
ككلّ مراكز المدن الكبيرة، فالصخبُ هو العلامة الأولى على طلوع الفجر؛ العلامة التي إفتقدتها طوال الخمسة عشر عاماً، المديدة، من وجودي في مدينة صغيرة؛ هي "اوبسالا" السويدية. وها أنذا هنا، وللمرة الأولى بعد هذه الأعوام الجليدية؛ هنا في الشرق مرة اخرى، وتحت شمس المتوسط اللاهبة، وفي المدينة التي عشقها شاعري الأثير، الإغريقيّ كافافيس؛ هنا في الإسكندرية المحروسة، وفي فندق "سيسيل"، الأثريّ، وفي الطابق الثالث منه؛ أين حجرتي الواسعة، الفارهة، التي ربما إستقبلت يوماً كاتبي المفضل، لورنس داريل؛ الروائيّ االمُدينة له هذه المَدينة، أيضاً، بخلودها من خلال رباعيته عنها. ها أنذا أتمطى متكاسلاً وحيوياً في آن، متلهفاً إلى الخوض في نهار هذه الحاضرة العجيبة، بعدما حظيت خطايَ بمؤالفة ليلها؛ الليل الذي إعتاد أن يمضي إليه شاعر المدينة، الإغريقيّ، باحثاً خلله عن متعته:
"مضيتُ في الليل المضاء
وشربت الخمور القوية، كما يشرب المتسابقون على المتعة
الخمور القوية " (1)
أشرعتُ ضلفة باب الشرفة الخشبيّ، الثقيل، بعد مجاهدة مع حديده الفظ، مستبيناً بحبور طفوليّ الأفقَ الأزرقَ، اللازورديّ، للبحر الصباحيّ؛ لأمواجه الراغية، المزبدة، وهي تتناهى إلى منتهاها الأبديّ على الأقدام الصخرية لشاطيء الإسكندرية؛ الشاطيء الذي أنشدهُ فنان المدينة الأكثر شهرة، سيّد درويش، أغنية لا تقلّ شهرة عن صاحبها العبقريّ، "شطّ إسكندرية، يا شطّ الهوى".
من موقفي على الشرفة العريضة، الحجرية، ذات الإفريز الإغريقيّ، ألقيتُ النظرة الأولى على منبلج صبح المدينة الصاحية، المبكرة لإحتضان أولادها " الصنايعية "، الملتخين سهراً وسمراً؛ كما هو شائعٌ عن أهل الإسكندرية ومنذ الأزمنة الباكرة، حيث نوّه الرحالة الأندلسيّ، إبن جبير، بخصلة الأهالي هذه، بقوله في تذكرته البديعة عن رحلته الشرقية : " ومن الغريب أيضاً في أحوال هذا البلد، تصرف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم " (2). وهي ذات الملاحظة التي إستوقفتني في الليلة المنصرمة، حينما لم أر داع ٍ من أمر عجلتي إلى الفندق، ما دام الخلق في شاغل عن الفجر، الزاحف، بما بين أيديهم من أشغال في المتاجر المنارة، أو وسائل التسلية في المقاهي الساهرة على صوت كوكب الشرق، الصادح. هي ذي الشمس، على أيّ حال، تواكب بأشعتها المذهبة الموكب الشعبيّ، الهادر بوقع أقدامه على الأرصفة البازلتية، الخالية من نعمة الأناقة؛ الموكب الذي ما يلبث أفراده أن يتشتتوا في توابع الدروب أو في محطات الحافلات البائسة، المهملة من روادها المتداخلين مع الطريق السريعة، الخطرة، الموازية ل" لكورنيش "، في إنتظار شبه إنتحاريّ، أصمّ عن مزامير السيارات الصاروخية ذات الأجنحة، ولا مبال بتلويحات سائقيها الرعناء؛ حالهم في ذلك حال تلك الأمواج البحرية، غير المكترثة بإنتحارها على صخور الشاطيء. أهو ذات البحر الصباحيّ الشاعريّ، الغابر، الذي أنشده كافافيس، شاعر المدينة، الخالد :
"لأقف هنا، لأنظر إلى الطبيعة قليلاً
إلى البحر الصباحي، والسماء الصافية
إلى زرقتهما المتألقة، وشاطئها الأصفر..
والكل جميل يغمره النور"
تخلل وجبة الإفطار، في مطعم النزل، عبارات التعارف والمجاملة مع بقية أفراد مجموعتنا، والواصلين تباعاً للإشتراك في حلقة الترجمة الخاصة بالشاعر السويدي، الصوفيّ، غونار ايكيلوف، والتي كان من المقرر أن تستهل في صباح اليوم التالي، في المعهد السويدي بالمدينة. كان ثمة متسع من الوقت، لحين موعد الغداء الذي سيضم مجموعتنا مرة اخرى، فانتهزت ذلك للمضيّ في رحلتي، جوالاً، عبر مجاهل المدينة، الملغزة. في وجهتي نحو الشارع الرئيس، "طريق الحرية"، إجتزتُ ساحة "المنشية"، شبه المقفرة من الخلق، في هذه الساعة من الصباح؛ اللهم غير عمال البلدية المنهمكين في العناية بالمكان وجعله لائقاً بروح الإسكندرية؛ حاضرتهم التي زهت على أخواتها من المدن الاخرى، بإختيارها ذلك العام كـ"أنظف مدينة عربية"!
حيّ "كوم الدكة"، الشعبيّ، في وقتنا الراهن على الأقل، كان فيما مضى حيّاً اوربياً، راقياً، يغلب على قاطنيه الأصول اليونانية. لايبعد هذا الحيّ عن الفندق الذي أنزل فيه، بل هو من القرب بمكان من الكورنيش البحريّ، ومعظم جاداته تفضي إليه. صار من النادر أن تلمح وجه رجل أبيض في هذه الشوارع الأنيقة، بالرغم من أنّ عمارات الحيّ البيضاء، الأوربية الطراز، تشي بحضوره الغائب. لن تحظى هنا سوى بمرأى الجموع السمر، المتدفقة زرافات زرافات إلى ومن أعمالها؛ الجموع المتحدرة بمعظمها من مشارب قروية، صعيدية بوجه خاص. ويبدو أن هذا الحيّ، الغربيّ في تصميمه وروحه، بقي غريباً على سكانه الأحدث عهداً؛ فالعشوائية في البناء غير المرخص في أسطح الدور العليا، واضحة للعيان، فضلاً عن رثاثة ظاهرة في الشرفات وجدرانها المتساقط ألوانها والهوائيات المتنافرة كأشباح من كل حدب وصوب، إلى حبال الغسيل التي يتلاعب الريح بأسمالها، و حتى سواد السخام، من أثر الطبخ، و المطبوع على أسقف الحجرات.. كل هذا يتبدى للمار تحت النوافذ المشرعة على الغبار والضوضاء : الحيّ الاوربي، الذي أقام شاعرنا كافافيس في إحدى عماراته، فترة طويلة من سنينه الأخيرة، أضحى الآن بمثابة ضاحية، أو أشبه بحزام فقر، لأولئك القادمين من الأرياف.
لحسن طالعي، فقد ضمّت حلقتنا الدراسية شاباً قادماً من اليونان. كان شاعراً وصحفياً ومختصاً بترجمة " إيكيلوف " إلى لغته الإغريقية. تعرفنا عليه ذلك اليوم، أثناء الغداء الذي حضرته، أيضاً، صديقته المقيمة معه في فندق " سيسيل "؛ وهي مخرجة معروفة في بلاد هوميروس، كما قدموها لنا. خلال الدردشة التي أعقبت الغداء، فوجئتُ بأن هذه الصبية، الجميلة حقاً والخفيفة الظلّ، قد حضرت خصيصاً مع صديقها الشاعر من أجل إخراج فيلم وثائقيّ عن كافافيس. وعلمتُ أيضاً من رئيس بعثتنا، السويديّ، والذي كان يتكلم معهما الإنكليزية، أنهما بصدد زيارة المنزل الذي أقام فيه الشاعر في السنوات الخمس والعشرين، الأخيرة، من حياته. وقد أبدى العديد منا نحن الحضور حماسة في مرافقتهما خلل الزيارة المرتقبة، واخترنا لها يوماً محدداً، آخر.
في ظهيرة اليوم الموعود، كانت الشمس متوهجة فوقنا، تغزل للبحر، من خيوطها الذهبية، غلالة موشاة ؛ غلالة مظللة أيضاً، بفضة السحب العابرة. الكورنيش، تحتنا، في رخاء هدوء غير مألوف. مجموعتنا معتكفة، الآن، على سطح المعهد السويدي، المطلّ مباشرة على مشهد البحر وشاطئه وكورنيشه، مغتنمة فرصة القيلولة، في إستعداد للتوجه إلى بيت شاعر المدينة. نهمّ بالإنطلاق، فيلفتني منظر زميلنا، الشاعر التركي المسنّ نوعاً، وقد إستغرق بلا مبالاة فوق كرسي الخيزران المضفور بأناقة انتيكية؛ ألتفتُ إلى زميلنا الآخر، الكاتب الكردي، مستفهماً عن أمر الرجل، فيهمس في أذني : " إنه تركيّ على أي حال، ولا يرغب في زيارة كهذه ! ". هكذا ننطلق بدون حفيد ارطغرل الأول، ميممين وجهتنا صوب الحيّ الاوربي القديم، مجتازين جادات جانبية صاعدة من الكورنيش، أنيقة المنظر وكئيبتها في نفس الوقت؛ جادات ما برح يفوح منها عبق المجد القديم، المندثر، رغم ما يطغى عليه من روائح مختلفة لبيئة أكثر جدة، وأقل تمدناً. في طريقنا نمر بدكان أثريّ، له صيت على ما يبدو، يقدم لزبائنه القهوة المهيّلة بتقليد يتناسب مع المكان وتاريخه التليد. أبعد منه قليلاً، يقع أحد أكبر كنس اليهود في الإسكندرية، وهو عظيم العمارة وزخارفه مزيج من البيزنطية والطليانية والأندلسية. أمام بوابة هذا المعبد الموصد، كانت هناك كتيبة مدججة من الجند، شاكي السلاح، في حركة إستعراضية،على الأرجح، أكثر منها إحتياطية لعمل إرهابيّ محتمل؛ كرد فعل على حرب تحرير العراق من طاغيته، ذي الشعبية المعلنة في بلاد الفراعنة! كان زميلنا اليونانيّ دليلنا إلى منزل مواطنه، كافافيس. ثمة في أقصى جادة " شرم الشيخ "، تقوم عمارة مهيبة، ذات لون أبيض، ناصع، إغريقية الهندسة، كما يبدو من عضائدها الخارجية وأفاريز مدخلها ونقوشه. لا يظهر للبناء سوى شرفة واحدة، فارهة، تحتل أوسط الطابق الثالث : " هناك، كان يقيم كافافيس "، يشير دليلنا اليونانيّ إلى تلك الشرفة، المتوحّدة كصاحبها الأصليّ. على جدار المدخل الرئيس، ثمة لوحة كتب عليها باليونانية والإنكليزية، ما يشير إلى أن شقة كافافيس تلك، سبق وأن تملكتها القنصلية اليونانية في المدينة، وحولتها إلى متحف. نرتقي إلى وجهتنا المنشودة عبر سلم رخاميّ نظيف، ومغسول للتو. باب الشقة، الخشبيّ وبلونه الحائل، ما فتيء على ما يبدو يحمل لمسات ساكنه القديم. يستقبلنا عند البهو العتم، دليل آخر، من أهل البلد، إنبرى إلينا فوراً كخبير في آثار الشاعر، وبدون أن ينسى عرض كتب وكتالوغات وصور تذكارية، مخصصة للبيع. دفعتُ للرجل الثرثار، أولاً، ثمن قسيمة الدخول لـ"لمتحف"، ثمّ إشتريت كتاباً لمختص مصري، ترجم فيه للعربية آعمال كافافيس الشعرية، وعن اليونانية مباشرة. الشقة مكونة من حجرات مفتوحة على بعضها، يتناثر فيها أثاث غاية في القدم؛ مقتصد وبسيط. على الجدران لوحات بالحبر الصيني بريشة كافافيس، بعضها يصوّر رجالاً عراة وبطريقة الهاوي الذي يعتمد على حضور المخيلة لا الموديل. ثمة أيضاً في الصالون وحجرة النوم صور شخصية وعائلية قليلة، نادرة. سألتقي ثانية، وفي مكتبة الإسكندرية، الشهيرة، بأشياء اخرى، شخصية، تخص شاعرنا؛ عكازه، غليونه، مفكرته، سبحته.. وغير ذلك، موضوعة داخل صندوق زجاجيّ حافظ، جنباً إلى جنب مع متاع عائد للكاتب لورنس داريل. روح الشاعر، المنطلقة إلى بارئها منذ سبعين عاماً بالتمام ( 1933 )، لم تبرح هذا البيت الذي أحبه، وكان نادراً ما يغادره لفترة مطوّلة ؛ البيت الكئيب للغاية، بشيوع الظلمة في أركانه وزواياه وحجراته جميعاً، اللهم إلا بصيص شموع خافتة؛ شموع أُنيب بها عن المصابيح الكهربائية. هذا الشعور بالعزلة والكآبة والضياع، أحسّ به، على ما يبدو، كل من كان له حظ الحضور في حضرة الشاعر. وهاهي إحدى معاصراته اليونانيات؛ وهي شاعرة قادمة من موطن أجداده الأصليّ، تنقل لنا إنطباعها عن لقاء كافافيس: "عندما دخلت غرفة إستقباله، كان الضوء خافتاً، شحيحاً. كان يحب الضوء الضعيف؛ شمعة أو مصباح غازيّ، ولا يستخدم الكهرباء. ولما ألفت عيناي الظلمة، رحت أتأمل كافافيس : كان نحيفاً، شاحب اللون، حسير البصر، أشعث الشعر، وأنيق الملبس.. على وجهه مسحة من الحزن، وفي عينيه جاذبية عميقة. تلمع في نظراته أسرار قديمة، ويأتي صوته من بعيد.. من أغوار الزمن السحيق. ولما ودعته وإنصرفت، أضحيت وأنا أنزل الدرج الرخاميّ ‘ غير متأكدة من لقائه والجلوس إليه.. خيل إليّ أن ّ كلّ شيء كان مناماً؛ فصوته وشكله ولقاؤه، كان أشبه بحلم ولّى " (3). لقد إنتابني، إلى هذا الحد أو ذاك، شعور مماثل، من ناحية الإحساس بوهم الحضور وغرابته وغموضه وسرّانيته. بيد أنني عدتُ مرات كثيرة، خرافية أو واقعية سيّان، إلى تلك الشقة التي أقام بها شاعري الأقرب إليّ من الآخرين، الغاوين، المفضلين لديّ : الشاعر الذي يذكرني دوماً بنفسي؛ بما يجمع بيننا من الإنتماء إلى بيئة غريبة، وقدر الهجرة من جيل إلى آخر، وشعور التأصل والإغتراب في آن.. و أيضاً وبشكل أخص، العزلة والحنين إلى ماضي طفولة ماثلة أو وجاهة سلالية أو هوية ضائعة خلل أوابد غابرة.. ما زلت أرى كافافيس في حجرة نومه الضيقة، ودائماً في الضوء الشاحب كلون بشرته.. تتيه نظراته عني إلى أشخاص آخرين؛ أطياف تستحضرهم مخيلته الفذة؛ تماماً كما كان يفعله في لياليه المؤرقة، الطويلة، المتوحّدة إلا من عدّة الكتابة ومن أشباح الماضي الإغريقيّ، الأثير لديه؛ ومن أشباح ٍ اخرى حبيبة، عابرة، مفتقدة:
"شمعة واحدة تكفيني.
لأنّ نورها الخابي
يمنح العتمة الملائمة
حين تجيء الأشباح،
حين تجيء أشباح الحب"
إشارات
1 _ المقاطع الشعرية لكافافيس، الواردة في المقالة، من ترجمة سعدي يوسف
2 _ رحلة إبن جبير، طبعة بيروت 1964، ص17
3 _ د. نعيم عطية، ديوان كافافيس (شاعر الإسكندرية)، ترجمة عن اليونانية، القاهرة 1995، ص 5
للرحلة صلة..
التعليقات