"علينا أن نقوم بعمل يشبه وخز الشرايين بالأبـر." بروك إلى ممثليه

إن إنبثاق الشكل وميلاد الحدث المسرحي، هما العنصران الجوهريان لبنية أي عرض مسرحي، ففي تناغمهما الهرموني وإستجابة أحدهما للآخر، يجسدان وحدة العناصر الفنية والتقنية والفلسفية للفكرة المراد عرضها على خشبة المسرح. هاتان المعضلتان كانتا موضوع تجارب وأبحاث المخرج المسرحي البريطاني بيتر بروك منذ أربعينات القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن، وقد تجلت حلولهما في كتبه الثلاث: " المساحة الفارغة " 1968 و " نقطة التحول " 1987 و" ليس هناك أسرار - أفكار حول التمثيل والمسرح " 1993، وأيضاً في كتابه الأخير " الباب المفتوح " 2004، كذلك في رؤاه المتناثرة في طيات لقاءات ومقالات متفرقة هنا وهناك، تلك التي أصبحت جميعاً مراجع أساسية للمختصين في هذا الميدان الرحب، من ممثلين يواجهون جمهورهم كل مساء، ومخرجين عثروا فيها على مفاتيح لأسئلتهم المستعصية، شرعتت أمامهم الأبواب نحو المطلق المحسوس لولوج أسرار هذا الطقس المقدس الذي هو: المسـرح.

إن "الحدث المسرحي" وفق رؤية بيتر بروك،هو أحد أهم عناصر تجسيد العرض المسرحي، فهو لايولد كما " الشكل " فقط عبر التمرينات على خشبة المسرح، بل يجتاز تلك المرحلة ليعبر إلى الضفة الأخرى، وأعني بها القاعة التي يجلس فيها الجمهور، وذلك لكي يستكمل فترة تكوينه الجنيني عبر التفاعل مابين المتفرج والممثل والطاقة المسرحية، هذا التفاعل الذي يفضي بدوره إلى نتيجة تشبه الى حد ما، النتائج العلمية لعملية الإحتراق، تلك التي تنتج الضوء في المصباح الكهربائي.. وميلاد الضوء هنا هو ميلاد الحدث. وخلافاً لذلك، لن يحدث أي شيء على الإطلاق!.

ولأجل العثور على حدث حقيقي، يعتقد بروك، لايكفي أن يكون ذلك الحدث محاكياً لحدث ما يجري في الحياة، حيث الكثير من الأحداث اليومية في معظم الأحيان تتوقف عن أن تكون أحداثاً حقيقية، ولذا فقد إبتكر بروك مصطلحاً سمّـاه " المسرح المميت " أو بتعبير أكثر دقة (اللا- حدث) تمييزاً له عن الحدث الحقيقي، وهو بمثابة الخطوات الأولى التمهيدية للكشف عن الحدث ذاته.

إن شكوكية بروك بعدم مصداقية ولاحقيقية الكثير من الأحداث التي تجري في الحياة وخطورة نقلها إلى المسرح مصدرها أن الكثير من تلك الأحداث يجري محاكاتها بطريقة آلية على المسرح، تفتقر إلى الحرارة والحيوية، ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود إشتراطات عديدة في كل عرض مسرحي تفترض ميلاد ذلك الحدث، إلا أنه غالباً ما لايحدث أي شيء! ولاشيء يدنو من الهدف، تماماً مثلما هو الحال في الحياة ذاتها، فثمة الكثير من اللقاءات التي تجري بين الناس هي ليست بلقاءات، وليس بمقدورها أن تنتج حدثاً. إن تسويغ ندرة تلك الأحداث الحقيقية يرجعه بروك لأفتقارها إلى التفاعل الذي ينتج عملية الإحتـراق. ولأجل إضاءة هذه النقطة يورد بروك مثالاً على ذلك بقوله: (.. ذهبت إمرأة إنكليزية مرةً لأحدىالعرافات لتقرأ لها طالعها، فبعد أن تأملت العرافة تلك المرأة وتسللت الى مخابئها ومواطن أسرارها، أخبرتها بحذر وإحتراس قائلة: "شيء واحد فقط أود قوله لك، وهو أنه لن يحدث أي شيء في حياتك.. لاشيء على الإطلاق!!!"... وقد كان وقع ذلك على تلك المرأة قاسٍ ورهيب!..). ولتوضيح ماهية عملية التفاعل تلك التي تنتج الحدث الحقيقي، يجري بروك نوعاً من التماهي بينها وبين عملية التفاعل العلمية.. يقول: (دعنا نأخذ ظاهرة الأنفجار كمثال. فلو مزجنا، وفقاً لمواصفات علمية دقيقة، عدداً محدداً من العناصر فإن التفاعل الذي سيتم بينها هو الذي سيُحدث حتماً عملية الإنفجار تلك. لكن، إذا إتحدّت تلك العناصر نفسها، بطريقة مغايرة، فإننا في هذه الحال لم نفعل أي شي على الإطلاق!.).

روميو وجولييت

إنطلاقاً من هذا المثال، يؤكد بروك على ضرورة وجود شرطين جوهريين يتطلبهما ميلاد الحدث، أولهما، عملية الإنفجار، أي، جملة التغييرات التي تطرأ على درجات الحرارة، التي تنشأ عبر المواجهة أو التماس بين طاقتين، أو بين قطبين.أما الشرط الثاني فهو، إن عملية التماس في حد ذاتها تقوم بتوليد " الفعل "، والفعل هنا يحمل أهمية إستثنائية بسبب مغزاه، وهذا الفعل هو الذي يطلق عليه بروك تسمية " الحدث الحقيقي ".. بمعنى، إن التماس بين هاتين الطاقتين هو أشبه بذلك التماس الذي يحدث بين المتفرج والممثل، ومع ذلك، فإن المسألة ليست بهذه الآلية أو هذا التبسيط، فهي في الواقع أكثر تعقيدا ًوصعوبة من ذلك. ولشرح هذه العملية يسوق لنا بروك مثالاً آخراً بسيطاً من ميدان الفيزياء، ألا وهوعنصر الضـوء، قائلاً : (.. حين يتلامس قطبا مصباح كربوني، تحدث تغييرات في درجات الحرارة، وهذه التغييرات الحاصلة هي التي تنتج عملية الإحتراق. أما المحصلة النهائية والمدهشة، فهي ميـلاد الضـوء !..
هذا المخطط البياني هو شبيه إلى درجة كبيرة بذلك المخطط الذي يولد الحدث..).

وحين ننقل هذه المعادلة من ميدان الفيزياء إلى ميدان المسرح، فإننا سنعثر على ذات القطبين الأساسيين، ألا وهما المتفرج من جهة والممثل من جهة الأخرى، فكلا القطبين يمثل مصادر عديدة ومتنوعة للطاقة، إلا إن مصادر الطاقة تلك، وقبيل تفاعلها، تكون في حالة من التجزئة والتشتت، وتفتقر إلى التمركز والكثافة. بكلمات أخرى، إن وحدات الطاقة التي يختزنها الممثل نفسه، تكون منفصلة، وهذا بدوره، يعكس حالة الإنفصال بين طاقته المشتتة من جهة، وطاقات جميع أعضاء الفريق التمثيلي معه، والتي لم تتبلور أو تتكشف بعد، من جهة أخرى.

في المقابل، إذا إنتقلنا إلى الضفة الأخرى، وأعني بها القاعة " الجمهور" نجد أن طاقة الجمهور هي الأخرى مشتتة، وحجم الطاقات هنا هو بحجم عدد المتفرجين في القاعة بالطبع. فكل طاقة مخزونة في كل متفرج على إنفراد، تكون في حالة منفصلة ومشتتة ذاتياً،من جهة، وهي منفصلة موضوعياً عن مصادر الطاقة الأخرى، تلك المتمثلة ببقية المتفرجين. أي أن هذه الطاقة الكبرى (الجمهور)، هي غير مكثفة ومتمركزة بعد، فهي تتدفق وتتبدد على إنفراد، وبشكل مستقل بعضها عن بعض، دون وحدة أو تناغم.

بروك يشّبه حالة الجمهور هذه بحالة المصباح الكربوني الذي يفتقر إلى الكثافة. فكل وحدة من الجمهور، وهي هنا المتفرج الواحد، هي عبارة عن طاقة مستقلة، أو وحدة من الطاقة الكلية التي هي(الجمهور)، غير قادرة لوحدها أن تكون سبباً للكثافة بسبب أنها لم تتمركز بعد. وهكذا، يصل بروك إلى استنتاج هو أن الحدث يظهر فقط حين تتناغم كل واحدة من هذه الآلات المنفردة وبشكل هرموني، وبعدها، سنحتاج إلى تحرير تلك الذبذبة المنفردة وتسريبها إلى القاعة ليحدث شيء ما. إلا أن هذه الذبذبة ستواجه ألف قيثار وقيثار، كل يعزف على حدة، دون تناغم أو توتر موحـّد. إذا إنتقلنا من القاعة إلى خشبة المسرح، حيث الممثلين، فإننا سنواجه ذات الحالة. لذا فإن الخطوة الأولى لبدء العرض المسرحي تتطلب، قبل كل شيء، تجميع وتكثيف لتلك الطاقات المشتتة للمتفرجين، والتي هي تباعاً، تعكس الطاقات المشتتة للممثلين. إن وضع الممثلين في حالة مواجهة مع المتفرجين، هي غير كافية لميلاد الحدث، ذلك إن الأفعال ذاتها يمكن أن تجري على مستويات متباينة من حيث الشدة والكثافة، وهذه هي إحدى الحقائق الجوهرية في المسـرح. فإذا ماتضاءلت أو تشتت تلك الشدة والكثافة، فلن يحدث في المقابل أي شيء على الإطلاق!..

هاملت

النـو اليابانـي


ولأجل حل هذه المعضلة الخطيرة في المسرح، يتجه بروك إلى دراسة أحد أهم مصادر المسرح الأساسية، كأسلوب عرض مسرحي نموذجي، ألا وهو مسرح " نـو" الياباني، محللاً مراحله الرئيسية الثلاث، تلك التي يتم عبرها ميلاد الحدث المسرحي. وهذه المراحل هي بالشكل التالي وعلى التعاقب: (JO-HA-KYU)

البدء من الحس صعوداً إلى العقل

إن المرحلة الأولى (JO) تمثل البداية أو الإستهلال، والتي تنحصر وظيفتها الأساسية في شد إنتباه المتفرج حالاً وبصورة مباشرة. وتتطلب هذه المرحلة إستخدام الشكل المباشر والبساطة المتناهية، مع الأخذ بعين الأعتبار، المستويات الإدراكية والحسية المتباينة لطبيعة الجمهور. وهنا يسوق بروك مثالاً على تطبيقاته لهذه المرحلة من عرضه الشهير للملحمة الدينية الهندية (مهابهاراتا)* حيث يقول: (... لو إن أحداً ما عرض هذه الملحمة بشكل معقد وبمستوى عال جداً يتلائم وأعمال الآلهة، فإنه يكون قد عالج عملاً طقسياً روحياً عظيماً. لكن عملاً يبتدء بكيفية كهذه، كيفية تفتقر إلى البساطة والمباشرة، سيكون نصيبه من النجاح ضئيل جداً، بل أستطيع القول أن من الصعب جداً إنجاز عمل كهذا. لو كان العرض مكرساً لجمهور هندي مثلاً، وهو المطلع على تفاصيل هذه الملحمة سلفاً، لكان الأمر أهون، أما إذا قـدّم العرض إلى جمهور فرنسي أو غربي، وهذا ماقمنا به، فالمسألة هي أشبه بمجازفة بليدة. أعني، إن المتفرج الهندي يمتلك عنصر الإستعداد والتهيئة لمواجهة أحداث الملحمة، ومن ثم التفاعل معها دون حدود، أما متفرجنا، فعلينا أولاً أن نخلق لديه ذلك الإستعداد. ولذا، فإن الطريقة التي إستخدمناها لخلق ذلك الإستعداد، كان مصدرها مسرح " النـو " الياباني، الذي كان يمارس روح الدعابة المحضة والشعبية، لخلق ذلك الإستعداد. وهكذ فقد إبتدأنا ملحمتنا بالراوي، وبأسلوب القص الشعبي، حيث يقوم ذلك الراوي برواية تكوين الخلية التناسلية وعوامل الإخصاب!. إن هذا الإسلوب الذي إتبعناه، منح المتفرج فسحة من الإسترخاء، مالبث ولفترة قصيرة أن إصطدم بالمفاجئة التي ستمسك بتلابيـبه. الإسترخاء ثم الصدمة. هذا هو أسلوبنا الذي إستخدمناه في الملحمة وقد إستخدمناه أيضاً في عرض (مؤتمر الطيور) **، والذي إبتدأناه هو الآخر بمزحـة!. الإسترخاء الذي تولده تلك المزحة، والمفاجئة التي تتسلل ذبذبتها بسرعة، أحدثتا نوعاً من التهديد المصحوب بالخوف عند الجمهور، أثار فيه إحساساً بالتـّرقب لإحتمال حدوث فعل مقدس ومهيب. وهذا ماكنا خططنا له منذ البدء ونجحنا فيه في النهاية..).

المرحلة) (JO تعني بالنسبة لبروك، الدعابة المحضة، شيء ما يخاطب وجدان المتفرج وينأى به عن عقله، وهي الخطوة الأولى لوضع الطعم في السنارة.. وهذه المقدمة في رأيه، تسهم في إنتاج حدث صغير، صغير جداً. لذا فهو كثيراً ما ينصح المخرجين بعدم إغفال أو الإستهانة بممارسة وتطبيق هذه المرحلة، والتي تعني البدء من الحس صعوداً الى العقل، وليس العكس. وخلافاً لذلك سيكون العرض مملاً ومضجراً. هذه البساطة المتناهية والمباشرة في التخاطب ستشّيد جسراً يتيح للمتفرج والممثل، على حد سواء، العبور من خلاله إلى الضفة الأخرى، وبالعكس. إنه شيء يشبه خطوات الراقصين، أو حسب تعبير بروك: (.. شيء يشبه لعبة التنس.. المتفرج سيُرجع الكرة التي ناولها له الممثل، وبالعكس. بدون هذه البداية في خلق التماس، لايمكننا الذهاب أبعد.). حسناً، إذا كانت وظيفة (JO) تتمحور في شد إنتباه المتفرج وإشراكه في مجرى العرض المسرحي، فما هي ياترى، الأساليب والطرائق التي تسهم في تحقيق هذه المرحلة؟

يعتقد بروك إن الأدوات والأساليب كثيرة ومتعددة، وليس من الضروري تقنينها وتحديدها. وهكذا يمكن إستخدام أي شيء، وكل شيء، شرط أن يتضمن عناصر مثل الدهشة، البساطة، والمرح، وأن يكون ذلك الشيء مليئاً كلياً بالطاقة. يورد بروك بعض تلك الأساليب دون حصر، مثل الأسلوب الساخر الذكي، والشكل الكاريكتوري، الذي يمكن إستعارة عنصر الإثارة فيه من ميدان السيرك أو الكوميديا الموسيقية أو حتى الرقص المجازي!.

الشيء الجوهري عند بروك هو إظهار القدرة المادية لعنصر المشاركة، بشكل مباشر وتدريجي وفي آن، مابين جسد المتفرج وقلبه ورأسه!. يقول بروك : (.. لو أننا قدمنا مسرحية (هملت) وكنا منذ البدء قد إستخدمنا أسلوباً يلامس عقل المتفرج وليس مشاعره، فسوف يفقد العرض المسرحي، ومنذ البداية، مغزاه وهدفه، وبالتالي سيتلاشى ذلك التماس الحقيقي بوجودنا كله، ويقيناً سيواجه المتفرج صعوبات جمة في التناغم مع العرض).

إن إحراز النجاح في إنجاز مرحلة (JO) سينشىء حالة نوعية من التناغم والإصغاء، فيها تتدفق وحدات هائلة من الطاقة الإنفعالية، شيء ما يشبه إنتقال وحدة من الطاقة، وبشكل مفاجىء، إلى خزان الطاقة المركزية.

بعث الحيوية في روح العرض

هذه النتيجة ستنقلنا بسيولة ونعومة إلى المرحلة الثانية (HA) وذلك عبر حاجز الصوت، أي الإنتقال من طور التمهيد إلى طور الأسطورة، إلى القصة المروية ذاتها. وهذه المرحلة هي المرحلة الوسطى، مرحلة النمو والتغير والتفتت والإنتشار. وهي تشكل خطوة أكثر تعقيداً وعمقاً في مسرح " نـو" الياباني، وهي تكاد تشبه القفزة الفجائية، لكنها ليست حركة معوقة لحالة المخاض التي سيولد عبرها الجنين الذي هو (الحدث). في هذه المرحلة يحذر بروك من خطورة كبرى، وهي إحتمال أن تفقد الثيمة حيويتها، أو من الممكن أيضاً أن يكون تفسيرها غير صائب. وإذا ماحدث هذا، فسينهار كل شيء، وعلينا البدء من جديد. أما الخطورة الأخرى، فهي إمكانية إنقطاع الصلة بين المتفرج والممثل " حتى ولو لبرهة " عندها سنضطر إلى العودة ثانية إلى البدء، أي إلى المرحلة JO!.

على هذا المستوى، يرى بروك أن ثمة نقطة ساحرة ومدهشة يمكن أن تحدث في حالة نجاحنا في الإحتفاظ بتلك الصلة حتى النهاية، ألا وهي أننا سنشهد ذلك الرباط المقدس بين المسرح كإنعكاس للحياة، وبين الواقع اليومي ذاته، تلك الصلة التي تربط بين عالمين، عالم المخيلة وعالم الواقع!. وعودة إلى مثال بروك ومصباحه الكربوني، فإن مايحدث على خشبة المسرح هو إن رقعة المكان تأخذ في الإتساع والتمدد بدرجة أكبر تصل حد التضخم، عندها يبدأ الإشعاع في إنتاج الطاقة الكهربائية أو المسرحية. وهنا يحذر بروك من الوقوف طويلاً عند ذلك المستوى من الإتساع والتضخم، أي أن على حركة التمدد تلك أن تتراجع لتخلي المكان إلى عملية الإنكماش.

بكلمة أخرى، لو أننا ذهبنا بعيداً جداً مع إحدى تلك الحركات، التمدد أو الإنكماش، فإننا بذلك سنضل الطريق، ونضطر حينها إلى التقهقر نحو الوراء بإتجاه المرحلة الأولى (JO) ثانية. بمعنى، إننا سنحرق الكربون، وبعدها لن يعود ثمة وجود لشيء إسمه الضوء..

الواقع إن وظيفة هذه الحركات هو إقامة الصلة بين هدفين، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي.
وبروك يعثر على رديف لتلك الحركات في عالم السينما، في حركات الكاميرا السينمائية: لقطات المتابعة، اللقطات المتوسطة، واللقطات الكبيرة والكبيرة جداً (كلوز، وكلوز آب). كذلك يعثر على وجوه لها في بنية شكسبير لنصوصه المسرحية، وفي ذات الوقت يجد لها قريناً في سياق البعد البريشتي، ذلك الذي يمنح المتفرج القدرة على إسترجاع خطوة إلى الوراء، لغرض إدراك الفعل في سياقه الإجتماعي والسياسي والإنساني الكوني، ويعثر أيضاً على مرادفات لذلك بتلك الحركات المتنقلة بين هدفين عند راقص السيرك، الذي يثير الضحك بحركاته البهلوانية الساخرة، والذي يثب بشكل مفاجىء منتقلاً إلى الإتجاه المضاد، كأن يحيل نفسه وبشكل حاد مثلاً إلى وحش مفزع. بروك يشير هنا إلى وجود عدد هائل من أساليب التعبير عن هذه النقلة، سيكولوجية وغير سيكولوجية..

إن هذا التباين بين هذين الهدفين " القطبين " يظهر بجلاء في المرحلة (HA) وهي نقطة إنتقال تتسم بطابع الإستمرارية، وهي نقطة غنية وخصبة تتغذى على تناوب وجهات النظر، تلك التي تسهم عملياً، في بعث الحيوية بروح العرض المسرحي. في هذه المرحلة يتم تكثيف وتمركز كل شيء، وبشكل مفاجىء، وبالتالي يمكننا أن نشق طريقنا بيسر صوب المرحلة الأخيرة (KYU)، والتي تعني النهاية، السرعة، الذروة، الباريكسيزم أو النوبة الحادة.

يتبع