ايلاف برلين / بروكسل: ربما يتطابق اسم المسرحية ـ الاسفار ـ التي قدمتها "فرقة الصبار" البلجيكية في برلين مع مبادرتها الجريئة في الذهاب الىبغداد والمكوث هناك للعمل مع ممثلين وتقنيين عراقيين وتقديمهاالعرض أولاً في العاصمة العراقية ومن ثمّ الانتقال الى مسارح بلجيكا، واخيراً تقديمها العرض على مسرح "مشغل الثقافات ببرلين" لتعود مجددا الى عروضاتها في بلجيكا. وربما هي أيضاً أول محاولة لفرقة مسرحية أجنبية يقودها مخرج عراقي تدخل بغداد وتقدم مشروعاً مشتركاً مع فرقة عراقية تتفاعل معها وتقدم خبرتها الفنية لمسرح ظلّ منغلقا لعقود طويلة. بل أن يستشرف الفنانون العراقيون على آفاق التطور في المسرح العالمي. وفي هذا المجال كان اختتام العرض في اليوم الثاني ببرلين بمثابة أفق مفتوح للنقاش مع الجمهور وخاصة مع طلبة معهد الفنون المسرحية في برلين.
وهذه ليست هي المرة الأولى التي يقدم فيها كمال الدين عروضه المسرحية في العاصمة الألمانية، فقد سبق وأن قدم عروضا لمسرحية " رأس المملوك جابر" في العام 2001 في مهرجان المسرح العراقي في المنفى، كما سبق له أن قاد مجموعة من الممثلين والفنانيين في العام 2002 في ورشة عمل خاصة بالمسرح الجسدي.
ويمتاز مسرح كمال الدين بالمعاصرة، وكما يقول " مشغل الثقافات " في برلين ": ان كمال الدين يتعامل، كما في أعماله السابقة، بصورة رئيسية، مع عناصرالحركة والتعبير الجسدي والإيمائية ويلجأ أحياناً الى استخدام الميميك. وبتعبير آخر أن مسرح حازم كمال الدين ليس فقط عمل معاصر بل أنه يعتمد على خصوصية نادرة في العمل المسرحي. في البدء، لدى مغادرة العراق الى بلجيكا، تمّ افتتاح عرض المسرحية في مركز الفنون والثقافات في " كنت"، ثمّ عُرضت بعدها في المسرح الملكي ببروكسل، وفي مركز الفنون والثقافات " دي مونتي " في أنتورب. كما انتقلت الى برلين وعُرضت في " مشغل الثقافات " لتعود مجددا الى بلجيكا وتقدم عروضها هناك. وكان طاقم العمل في ضيافة مهرجان المسرح العالمي في بروكسل، فيما ترجمت المسرحية الى اللغتين الالمانية والنيدرلاندية لترافق العرض العربي.
وتقول ديباجة الدعوة لحضور المسرحية بأن " هذا العمل المشترك، بين فرقتين عراقية وبلجيكية، يأتي بعد 25 عاما من الغربة التي عاشها المخرج حازم كمال الدين والذي عاد الى بغداد التي عانت من الحروب والارهاب، جاء هذا العمل مع زملاء المهنة والهم المسرحي في العراق للمساعدة من أجل تجاوز البون الشاسع ولتوضيح المعاناة لمن عاش في الغربة ولمن عاش تحت ظل الدكتاتورية "

تجربة كمال الدين

يقول مؤلف المسرحية ومخرجها حازم كمال الدين انه عاد بعد ربع قرن الى بلاده ليرى العراق " الجديد " لا علاقه له بالعراق الذي اجبر على مغادرته في السبعينيات. لقد تغير كل شيء، المعالم والثقافة والمسرح والسلوك الاجتماعي للناس، وإن كانوا ما يزالون يشتركون في ذات الملامح. ويقول: أن ترى الممثل العراقي علي حسون، على سبيل المثال، الذي لعب دور جلجامش في مسرحية تحمل ذات الاسم اخرجها سامي عبد الحميد عام 1976 في هيئة جديدة آنذاك تضعك أمام حقيقة واضحة لدى المقارنة بوضع عالم المسرح العراقي اليوم فيتحدد فاصل بين تاريخين، تاريخ الأمل في تأصيل المسرح العراقي ودفعه الى ما بعد الحداثة وتاريخ الانحطاط الذي ساد المسرح بشكل عام. ولكن تبدو ملامح علي حسون ما تزال تحمل قدسية جلجامش واسطوريتها، فما تزال تبرقع وجهه النوراني لحية طويلة.لقد نفي حازم كمال الدين من وطنه حين كان فتى في الرابعة والعشرين من العمر، وعاد اليه ليقف مندهشاً وجها لوجه أمام بعض الاصدقاء. وقفة فيها الكثير من الريبة والخجل وضياع المعنى وتبدّد الاحساس، في بلاد محررة من الديكتاتور تطحنها الحرب، كما يقول ويسودها الخراب من كل جانب تقريباً..
المسرح الذي رآه في بغداد لم يعد يشرع الاسئلة، بل هو مسرح يقدم أجوبة ساذجة في كل عرض جديد له. حالة تذكّر بزمن الديكتاتور. فالديكتاتور لا يطرح في الواقع اسئلة، بل يقدم اجوبة يعتبرها قاطعة. يجري هذا بالطبع لأن المسرحيين العراقيين عموماً منعوا من معرفة ما يجري في المسرح خارج العراق لعقود من الزمن. لقد وضعت الدكتاتورية الفنان العراقي في كهف مظلم وأملت عليه في الغالب شروط عمله وتوجيه ابداعه.

الوصول الى بروكسل
حين وصلت المجموعة العراقية من الفرقة القومية الى اوربا بدعوة من مهرجان المسرح العالمي في بروكسل واجهتهم حيرة واضحة و صدمة في فهم ملامح المسرح المعاصر. كانت ثمة اسئلة يطرحونها كثيرا ما عجز المضيفون عن الرد عليها! كانت أسئلة عن العروض التي يشاهدونها في المهرجان، وما إذا كانت بالفعل عروضاً مسرحية ؟ وحين ذهبوا (installation)المسرحي لعرض الفنان الامريكي "وليم فورسايت" في باحة البنك الوطني سألوا ببراءة: أين هو العرض ولم يصدقوا ان الهندسة الجديدة للفضاء وعلاقة البالونات المربوطة بعضها بالبعض وخطوط التوتر والحركة في الفضاء الواسع هي العرض. لربما جزعوا واعتبروا ما يشاهدونه ليس سوى بطر ثقافي لأناس متخمين. البعض منهم قرر بعد عرضين مسرحيين أن يتوقف عن المشاهدة لأن ما يراه لا ينتمي للعرض المسرحي بصلة وإن ما يعرفه هو عن المسرح أفضل بكثير مما يراه في عروض المهرجان. لكن البعض الآخر ما زال يتمتع بحب استطلاع ملحوظ ورغبة في رأب الصدع الذي تسببت فيه الديكتاتورية. البعض كان يريد أن يرى المزيد والمزيد في الوقت الذي كان فيه البعض الاخر يديرظهره للتجارب المسرحية المعاصرة. ويقول حازم كمال الدين عن تجربته المسرحية في العراق وعن معرفته وتعامله مع المسرحيين العراقيين: إن المسرح التجاري كان في ازدهار واضح في العراق أبان الدكتاتورية، ويعلق قائلاً:
اضطر الفنان العراقي أن يبيع جسده في المسارح التجارية هروبا من بيع روحه وأفكاره الى مسارح السلطة التي كانت تملي عليه شروطها. لقد تكوّن المسرح التجاري في العراق من توليفة واسعة قوامها فنانون مبعدون عن المسرح، فنانون يرفضون التعامل مع النظام بطريقة ايديولوجية، وكان هؤلاء يعملون جنبا الى جنب مع مسرح يقوده فنانون هم شتيمة في وجه المسرح. ولكن الى جانب هذين المسرحين وجد مسرح ثالث وهو مسرح تجريبي أو طليعي له فرص قليلة لكنه حاول دون أن يسقط في دعارة السلطة أو في وحل المسرح التجاري... وقد تمكن هذا النوع من المسرح أن يقدم تجاربه خارج العراق في مهرجانات مسرحية عربية وغير عربية. توجد ثمة جماعة أخرى وهي جماعة صامتة وهؤلاء مجاميع كبيرة من الفنانين الذي رفضوا أن يتعاملوا باي طريقة مع تلك المسارح، اي رفضوا أن يبيعوا أرواحهم للنظام وأجسادهم للمسرح التجاري، ولذلك بقي هؤلاء عاطلين عن العمل الفني متمسكين بافكار مثالية. بيد أنك تعرف بالبداهة أن مصير هؤلاء بعد عقود من الصمت هو اضمحلال الموهبة التي لا يبق منها شيء يذكر بعد غياب الممارسة العملية. مع هؤلاء الفنانين المنحدرين من التيارات الثلاثة التي أسميناها قبل قليل وافق المخرج على العمل انطلاقا من حقيقة: (لم ينج أحدٌ من الكارثة).

فترة مرعبة

لقد قام كمال الدين باخراج مسرحية الأسفار، من انتاج جماعة زهرة الصبار المسرحية البلجيكية والمسرح الوطني العراقي، في الفترة المرعبة الواقعة بين آذار وحزيران من عام 2004. وقد قدمت العروض المسرحية في الساعة الثانية عشرة ظهرا بدلا من الثامنة مساء وذلك بسبب الظروف الامنية. كانت الحياة في تلك الايام تتوقف بعد الساعة الرابعة عصرا في العاصمة بغداد. وحتى أثناء النهار لدى العرض حدث أن غادر الجمهور في لحظات توتر عسكري وبقي الممثلون لوحدهم في الصالة أو مع بعض من المشاهدين..
تتحدث المسرحية عن سفيان وهو رجل ذو رسالة غامضة في صحراء ما، يتلقى مختلف أنواع الأوامر، حتى لتدخل بعض تلك الأوامر في عداد الكوميديا الساتيرية. وفي سياق المسرحية تتعرض مهمة سفيان بشكل مستمر للاعتراض من قوى مجهولة، بيد أن الفارس سفيان يتمكن في كل مرة بحد السيف من القضاء على العوائق التي تعوق مهمته. و اذا ما صادفته جنية تسحبه تحت الرمال وتضعه في جرة يتمكن من الخروج بعد أن يقتل الجنية، واذا ما حل الظلام في منتصف الظهيرة يقوض الظلام وكائناته بالتعاويذ وبالسحر وبالطقوس، واذا ما ظهرت له سعلاة وراحت تمارس عليه التعذيب ظهر صديقه الراعي من تحت الرمال لينقذه، واذا ما كلفوه بتهريب النفط وظهر له شيخ الجان ليعترضه فقأ عيني شيخ الجان والتهم العين نيئة. واذا ما ربضت له حوت في الصحراء في شكل واحة راح يعوم ويطفو فوق الرمال وينجو لوحده بعد ان يموت كل طاقم السفينة. واذا ما كلفوه ان يمد الصحراء لتشمل المدن ويعترضه خمبابا يتمكن من القضاء على خمبابا..
ثمة عوالم من اللامعقول يتحرك فيها سفيان وتقوده إلى مقولة واحدة: يجب أن يسود العالم نظامه الشخصي! إن لديه قناعة بأنه سوف يسيطر على العالم عاجلا أم آجلا وسيفرض عليه النظام الذي يريده، لأنه يثق بنفسه ثقة عمياء، ولأنه يجيد لغة السيف. النتيجة أن مجرى حياة سفيان يتغير، فيقتل الجميع..
ويتساءل حازم كمال الدين في نصه المسرحي: لماذا يظهرفي كل مرة في أرض الرافدين ديكتاتور جديد، تارة في هيئة عسكرية واخرى في هيئة دميويّة وثالثة في هيئة انسان من لحم ودم؟
تتساءل المسرحية عن السبب الذي يدفع بالبشر لتدمير المنطقة التي اسمها مهد الحضارات والتي لم يبق من برج بابلها سوى لوحات استشراقية معلقة في المتاحف الاوربية ولم يبق من جنائنها المعلقة سوى اكوام من التراب.

تثمين المسرحية
عندما عُرضت المسرحية في العراق كتب الناقد العراقي جبار حسين صبري في مجلة "الخشبة": "عمد المخرج أن يتواكب والتعبيريه الحادة مع أضفاء مسحة من مسرح القسوة التي أرتسمت بشكل مميز في مشهد غسل المرآة وأشتغل على توزيع المحاور في الافعال، أي أبعاد الاحادية في التكوين الدرامي وأشغال منطقة الافعال الجمعية أي أن البؤر توزعت بشكل جمعي ولم تركن الى فعل واحد كما في نمطية الكثير من الاعمال المسرحية. لذا فرض التركيب العام لكل سفر (مشهد) واقعآ غرائبيآ في توزيع البؤر وشطرها خلاف العمل على بؤرة واحدة".
وفي جريدة" الصباح الجديد" كتب الناقد العراقي جمال كريم: " حاول حازم كمال الدين أن يعمق الفجوة ويباعد المسافة بين فن مسرحي نمطي وتقليدي وبين فن مسرحي جديد وتجريبي أو كما يوصف "بالتخريبي" والذي كما أظن أنه يرادف التفكيك، تفكيك بنى الحياة وأنساقها السائدة والمألوفة وتفكيك عناصر المسرح التقليدية بهدف اعادة تشكيلها وبنائها وفق معماريات تجريبية جديدة ومغايرة. انها مسرحية ارتكزت على موروثات عراقية بغية اضاءة أكبر مساحة من رمادنا العراقي والانساني على حد سواء، من جبروت وبربرية خمبابا "جلجامش" الى مديرية الامن، مديرية الخوف والرعب والموت، ومن سخرية عوالم ألف ليلة وليلة وقصها الخيالي والاسطوري الى صحرائنا النجدية وناقلات تهريب النفط وتفجير الدماء في المدن والساحات والأسواق".
أما الناقد العراقي سهيل ياسين فقد كتب في جريدة جريدة الدستور العراقية: " استطاع المؤلف حازم كمال الدين أن يستفيد من القص العربي القديم (ألف ليلة وليلة وتحديدا حكاية السندباد وملحمة جلجامش) كهيكل سردي ضمن الموروث العراقي الحكائي ويمنحها التعددية في مستويات التلقي وهي علامة فارقة من دون شك لمنجزه الابداعي (الأسفار) وسمة علىطريق النجريب نصا واخراجا ".
في جريدة النهضة العراقية كتب الشاعر العراقي صفاء ذياب: " لم تكن قاعة منتدى المسرح ذات فضاء واسع يمكن لخمسة ممثلين اضافة الى المخرج بالحركة بشكل جيد، لكننا فوجئنا بالفكرة الاخراجية التي جعلت حتى من كراسي الجمهور فضاء مسرحيا يضاف الى الفراغ. كان الديكور هو أرضية المسرح، اضافة إلى بعض القطع من القماش الممتد من سقف المسرح، وبعض مواقد اللهب هنا وهناك".
وفي جريدة" الصباح " العراقية كتب وائل الملوك: (تألق العرض العراقي على المسرح الدوار في الاردن بمسرحية ”ساعات الصفر“ والتي اطلق عليها في المهرجان”الاسفار“ من تأليف واخراج حازم كمال مستوحاة من ساعات القتل ساعات الموت ساعات النفي ومن ثم العودة الى الصفر لان الانسان العراقي عبر تاريخه كان يعود بين لحظة واخرى الى البداية. والمعروف عن الفنان انه يستخدم الاسلوب الشامل.. في مسرحيته لوم على كون المجتمع جعل من النظام السابق شبيهاً بالآلهة مما زرع الشر السلبي فينا ومن هذه الحالة طرح اسئلة طالبا من الملتقي الاجابة عليها معتمدا على اسلوب الطقوس الروحانية الدنيوية طقوس الحركة وما يجري داخل الذات وما ينعكس مع الخارج قد ينعكس الى خارج الشىء.
أما التلفزيون البلجيكي فقد علق في برنامج له : (الحياة في بغداد بدون رتوش.. ليلة تسليم السلطة للعراقيين) قائلاً: أمس تجول الزميل رودي فرانكس مع طاقمه الصحافي في بغداد من الفجر حتى الغروب، لم يتحدث مع سياسيين وعساكر فقط، بل تحدث مواطنين. وكانت لقاءاته احيانا عجيبة. أحد تلك اللقاءات كان مع المسرحي العراقي حازم كمال الدين الذي عاش في بلادنا لأكثر من عقدين وعاد مؤخرا الى وطنه الأم. ريبورتاج عن الأمل واللاأمل في عراق ممزق. هنا نظرة على حياة كمال الدين السوريالية في بغداد.

مسرحية الأسفار من تحقيق: حازم كمال الدين (تأليف وإخراج)، عبد الوهاب عبد الرحمن (دراماتورغ)، عهود ابراهيم (تمثيل)، اسعد راشد (ورشة عمل)، علاوي حسين (تمثيل)، حميد عباس (تمثيل)، باسم الطيب (تمثيل)، طه المشهداني (تمثيل)، سامر الصراف (موسيقى)، جاسم وحيد (تقنيات)، اخلاص العزاوي (أزياء)، عباس خضير (اكسسوار)، حسين رشيد (ادراة انتاج/العراق)، يوكا وكاسر (ادارة انتاج بلجيكا)، عامر نايف سلطان (اعلام)، فرانك أولبريختس (ترجمة)) والمسرحية من انتاج الفرقة الوطنية العراقية للتمثيل. جماعة زهرة الصبار المسرحية البلجيكية.