-1-
لستُ اقيم داخل العراق، لكي استطيع التعرف على اتجاهات الرأي العام العراقي بخصوص النتائج المرتقبة للاستفتاء على الدستور يوم السبت القادم، في 15 اكتوبر. فكل ما ينشره الاعلام العربي المعادي للشعب العراقي، ضلال في ظلام. كما أن المجتمع العراقي لم يصبح مجتمعاً معلوماتياً حتى الآن، حيث لا هيئات تستطيع أن تستطلع وجهات نظر الرأي العام العراقي. ولكني أرجح أن يقول الشعب العراقي "نعم" للدستور الجديد، ولكن بنسبة مئوية متواضعة ربما لن تتجاوز 60 بالمائة. وفي أكثر النتائج تفاؤلاً، ربما تصل نسبة من وافقوا على الدستور، وقالوا" نعم" 65 بالمائة. ولدي أسبابي في ذلك، وأهمها: قبول كافة أطياف الشعب العراقي لهذا الدستور ما عدا العرب السُنّة الذين يخالفون هذا الدستور ليس اعتراضاً على هذا الدستور بالذات، ولكن اعتراضاً على مبدأ الدساتير عامة. فهم ضد الدساتير الموضوعة التي تعتبر قيمة سياسية غربية، سوف تفتح الباب لتطبيق قيم سياسية غربية ومنها الديمقراطية المحتقرة سُنيّاً، والعلمانية المنبوذة سُنيّاً ، والتعددية المرفوضة سُنيّاً، و الاطاحة بالحاكم الظالم والجلاد المحرمة سُنيّاً، تأكيداً لحديث نبوي موضوع: (أطع حاكمك، ولو جلد ظهرك، وسرق مالك)

-2-
القول " لا" للدستور العراقي، سوف يكون صدمة للعرب جميعاً دون استثناء. ذلك أن العرب تعودوا على الاستفتاءات المزيفة والمبرمجة من وزارات الداخلية، والتي تقول "نعم" لكل ما تطرحه الدولة من مشاريع، على قلة ما تطرح من ذلك للاستفتاء، حيث لا استفتاء والقـادة الضروريون يعتلون كراسي الحكـم إلى آخر العمر (العمر خيط واحد بين القصر والقبر)، وهـم الذين يقـولـون "لا" و"نعم "، نيابة عن "الأمة الكريمة".
القول "لا" للدستور العراقي، سوف يهز أبراج البسكويت السياسية التقليدية العربية. لأن "لا" ستثبت للعالم كله وللعرب خصوصاً، بأن هناك شعباً واعياً في العراق يميز بين الأبيض والأسود . وأن هناك ديمقراطية حقيقة راسخة، استطاعت أن تزهر وتفوح رائحتها الزكية العطرة في العراق، وتقول "لا"، عندما يجب أن تقال "لا".
القول "لا" للدستور العراقي، معناه أن الشعب العراقي ارتقى بديمقراطيته إلى مصاف الشعوب الأوروبية، التي قالت "لا" بالأمس للدستور الأوروبي، وأرغم المشرعين الأوروبيين على اعادة النظر في هذا الدستور، وتعديل بعض مواده، لطرحه من جديد على الشارع الأوروبي الاتحادي.
القول "لا" للدستور العراقي، لا يعني أن الارهاب قد انتصر، ولا يعني أن السُنّة قد انتصروا. فالسُنّة بمواقفهم الآن من الشأن العراقي، سواء كانوا داخل العراق أو خارجه، هم خارج التاريخ. وهم يسيرون عكس حركة التاريخ، وعكس منطق التقدم، ويريدون للاشجار أن تنبت إلى الأسفل وليس إلى الأعلى، وأن تكون تحت سطح الأرض وليس فوقها. يريدون تغيير قوانين الحياة. أو فرض قوانين حياة كانت سائدة منذ قرون طويلة خلت.
القول "لا" للدستور العراقي، يعني أن الشعب العراقي بحاجة إلى وقت أطول لكي يقرأ دستوره، ويتأمل مواده، ويسأل عما غمُض عنه، واستعصى فهمه. وقد طالبنا في مقالات سابقة أن يُعطى الشعب العراقي المهلة الكافية لكي يقرأ ويفهم ويستوعب، ولا حاجة لمثل هذه السرعة. فالخامس عشر من أكتوبر 2005 ليس ليلة القدر. والخامس عشر من أكتوبر ليس قيام الساعة. والخامس عشر من أكتوبر 2005 لم يكن موعداً جاء من السماء في الكتب المقدسة. فماذا لو أُعطي الشعب العراقي ثلاثة أشهر أخرى لمزيد من القراءة والفهم والشرح وقيام لجان شعبية من المثقفين والإعلاميين لشرح مواد هذا الدستور، خاصة وأن نسبة الابجدية والأمية الثقافية في العراق مرتفعة حيث تبلغ 61 بالمائة بين الذكور و 77 بالمائة بين الاناث . وهي أعلى نسبة للأمية في العالم العربي (تقرير منظمة اليونسكو الإقليمي حول الدول العربية، مايو، 2003).
القول "لا" للدستور العراقي، هزيمة كبرى للارهاب والارهابيين، حيث يرى الشعب العراقي، ويقتنع بأن المعارضة ممكن أن تكون سلمية، ويجب أن تكون سلمية. وأن النضال الديمقراطي هو وحده الذي يحقق الحرية من كل أنواع الاستبداد. وأن "لا" يمكن أن تقال، وتحقق مفعولها من خلال المعارضة السلمية الديمقراطية التي تتحدى العصبية القبلية والطائفية الدينية. وأن السلاح والدم والقتل لا طريق له، ولا منفذ له بين الشعوب الراقية. وأن الارهاب كوسيلة للتغيير من مخلفات القرون الوسطى البدائية. وأن الارهابيين لا يريدون قول "لا" للدستور، ولكنهم يريدون قول "لا" للحياة العراقية والعربية والانسانية بمجملها.
القول "لا" للدستور العراقي بالطرق السلمية الديمقراطية، يؤكد نضال الشعب العراقي ضد العنف وقيام حرب أهلية. لقد كان نضال البشرية وفلاسفتها ومفكريها ضد العنف سبباً رئيسياً في محنة الفلاسفة والمفكرين من أمثال سقراط، وابن باجه وابن رشد وحسين مروة وفرج فودة والعفيف الأخضر وغيرهم. وأن العنف من أجل السلام ومن أجل الفوضى مرفوض. فسلام العراق من خلال العنف في عهد صدام كان مرفوضاً، كما رفض السلام بالعنف في عهد ستالين وهتلر وموسوليني وغيرهم. والديمقراطية وحدها هي التي تضمن السلم الاجتماعي والسلام السياسي بين فئات الشعب وبين الشعوب أيضاً.
وأخيراً، القول "لا" للدستور العراقي بالطرق السلمية الديمقراطية، تحدٍ كبير للصداميين والبعثيين وأعضاء "المؤتمر القومي العربي" بقيادة خير الدين حسيب ومعن بشور وغيرهما من سدنة سرادق العزاء القومي بفقدان "القائد الضرورة"، بأن ما قام بالعراق هو الديمقراطية التي تسمح لأبنائها لإن يقولوا "لا" بكل حرية . تلك الـ "لا" التي كانت مُحرّمة وعلى رأس الكبائر السياسية، والتي كان ثمنها رأس قائلها ورأس عائلته كذلك، في العهد البائد المُتباكى عليه.

-3-
ما حققه العراق على المستوى السياسي حتى الآن، أشبه بالمعجزة. فلو نظرنا إلى تاريخ الشعوب المماثلة بالتجربة كاليابان وألمانيا وكوريا وغيرها من الشعوب التي واجهت نفس المشاكل السياسية، لرأينا أن العراق قد سبق هذه الشعوب بمدى طويل في البناء السياسي. فلا غرابة
في ذلك ونحن نعيش في عصر السرعة، وتدفق المعلومات والعولمة والانترنت، ويفصلنا عن تجارب تلك الشعوب نصف قرن ويزيد. والشعب العراقي – - كما قلنا عدة مرات - بنى هذا البناء والصرح السياسي القائم الآن والذي سيكتمل مع نهاية هذا العام، بسرعة خارقة، تحت ظروف تكاد تكون فريدة في التاريخ. فلم يحصل في تاريخ تلك الشعوب التي ذكرناها أن تكاتف معظم جيران تلك الدول على تلغيم الطريق الديمقراطي بالمتفجرات والسيارات اليومية المفخخة. كما لم تفتح حدود تلك الدول مع جيرانها أمام الارهابيين المرتزقة لكي يدمروا تلك الدول كما يدمر الارهابيون الآن العراق ولكن من السطح وليس من العمق.

-4-
ويبقى الدستور العراقي المنوي الاستفتاء عليه بـ "نعم" أو "لا"، مدماكاً من المداميك السياسية التي يبنيها الشعب العراقي الآن بأشلاء شهدائه وبدم أبنائه. ولو قال الشعب العراقي للدستور غداً "نعم" ، فذلك فضل ونعمة وخير عميم، ولو قال "لا" فسوف يقوم البناؤون بتعديل شكل هذا المدماك وحجمه لكي يلائم البناء السياسي العام. فلا ضرر ولا اضرار. فالدستور هو صنيعة الشعب، والشعب هو الذي يرفض الدستور. الدستور مخلوق شعبي. ولا يعيش إلا بارادة الشعب. ومساء 15 اكتوبر سوف نعلم ماذا كانت الارادة الشعبية وحدها، ونقول وحدها، ونكرر القول وحدها، ونؤكد على وحدها، هي التي ستقول كلمتها في الدستور العراقي. وتلك هي احدى شوامخ الديمقراطية في العراق الآن، بكل تواضع.

[email protected]