إنهم يهربون إلى الأمام، بمزيد من قتل الشهداء والاستهانة بأرواح الأبرياء والعبث بمقدرات ومصالح الشعوب، وإنهم يراهنون مجددا على استغفال الناس والاستهانة بقدراتهم على التحليل، ويتصورون زيفا وبهتانا أن مجرد وجود quot;اسرائيلquot; على حدود لبنان الجنوبية، بمقدوره أن يجعل الدولة العبرية ممسحة لجرائمهم النكرة البشعة المقرفة.
لقد حاولوا قتل مروان حمادة، وقتلوا رفيق الحريري وجورج حاوي وسمير قصير، والبارحة قتلوك أنت يا جبران، ولست أدري من سيقتل غدا من رفاقك وأحبائك على أيديهم الآثمة، التي تحركها عقول نخرة وقلوب مغموسة في الحقد والكراهية، ولن يصدق عاقل في الوجود أن اسرائيل تغتال أعداء الاحتلال السوري البغيض في لبنان بالجملة، لتقديرها أن في ذلك توريطا لسوريا وتمهيدا لإسقاط نظامها الذي يجب أن يسقط، أو ترى إسرائيل بكل عظمتها جنت حتى تتحول إلى شعبة استخباراتية لدى نظام بعثي باد نصفه وسيبيد الثاني.
جرائم النظام السوري في لبنان لا تحتاج عند من خبروا هذا النظام، إلى ما ستفضي إليه تقارير ميليتس العتيد، إذ نظام لا يتورع عن قتل مواطنيه بالآلاف في أيام معدودة، ومحو مدينة عريقة من مدن بلاده من الوجود، وتحويل الوطن بأجمعه إلى معتقل كبير، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، لن يتورع بأي حال عن اغتيال ساسة ومثقفين من بلد مجاور قرر استعادة حريته المسلوبة وكرامته المسروقة وإرادته المحظورة.
الذين قتلوك يا جبران، يتوقعون أن يتحول دمك الحر الشريف إلى دم عادي، كأي دم استهانوا به من قبل في الداخل وفي لبنان، تماما كما توقعوا أن ينسى الناس رفيق الحريري وأن تذهب روحه هدرا بعد قصائد عزاء وموائد إطعام للفقراء وآيات بينات من القرآن تتلى على روحه في ساحة الشهداء، لكنهم كما أخطأوا مع الحريري وقصير وحاوي، يخطئون معك، وكما اعتقدوا أن الدم المسفوح ماء، سيدركون أنه نار أضرموها في ثيابهم العفنة وأجسادهم التي تنبعث منها روائح الغل والجنون والعمى.
الذين قتلوك يا جبران، يا عاشق الحرية، عصابة استولوا بالمؤامرات على دولة، قبل استيلائهم على لبنان، ولطالما استباحوا حرمات وأنفس وأموال مواطني تلك الدولة، ولطالما صرخت في سجونهم أجساد بريئة من أهوال التعذيب وعتمة ظلمات الزنازين وانتهاكات الجلادين، لكن صوتهم لم يصل إلينا إلا متأخرا، ودمك أيها الراحل الجليل سينتقم لهؤلاء، وكما كشفت حيا عن المقابر الجماعية في لبنان، ستكشف ميتا عن المقابر الجماعية في سورية، هذه الأرض المستباحة منذ عقود، وهذا الشعب الممحون المغلوب على أمره.
استشهادك يا جبران، علم كل محبي الحرية والديمقراطية في لبنان، وفي كل أنحاء العالم العربي، معنى الشجاعة في مواجهة الجبروت مهما اشتد، ومعنى الإقدام في التعبير بوضوح وصراحة عما يعتمل في النفوس الحرة الأبية من أشواق إلى التحرر والاستقلال والمساواة والمواطنة الحقيقية، ولا شك أن أحلاما كثيرة جميلة لوطنك كانت تراودك، على أحبائك الأحياء أن يستحضروها اليوم وغدا، وأن يعملوا جميعا على المحافظة عليها حتى تتحقق، وأن لا يراودهم الشك تحت نير التخويف والترهيب في أنها سوف تتحقق، لأنها ببساطة مناط المستقبل الذي أنت أحد أنبل قادة تياره وأجسرهم على قول الحقيقة المرة.
الذين تآمروا على جسدك يا جبران، يظنون أن صوتك المزعج لهم سيخفت إلى الأبد، لكنهم لا يعلمون لأنهم أغبياء، أن أصوات الشهداء تعلو بعد الموت ولا تخفت، وأن صوت المتآمرين والمغتالين هو الذي يصمت، تماما كما أنهم لا يعلمون بأن الغدر لا يهزم عدوا إنما يهزم صاحبه، وأن موت الشهداء مؤشر على قرب نهاية من خطف أرواحهم على حين غرة في الخفاء وفي غفلة من الزمن، مثل سائر المجرمين على مر الأزمان وفي كل مكان.
الكلمات لا تفيك حقك يا جبران، لكن لبنان سيفيك حقك لا محالة، واللبنانيون ndash;وكثير من العرب- سيذكرون لك فضلك عليهم وعلى الأرز والجيل والحرية، كما أن نهارك سينتصر على ظلمة تشرين التي شارفت على أن تنجلي..
إنه نظام مجرم يا جبران، والنظام المجرم لا يرهب شيئا قدر رهبته من الكلمة الحرة الشجاعة، وقد كنت صاحبها وواحدا من أبرز روادها، فلتهنئ في قبرك الوضاء، وليشقوا في قبورهم المظلمة المدلهمة في الدنيا والآخرة.
ومني على روحك الطاهرة السلام يا جبران، أنت الذي علمتني عن بعد مغزى الوطن الحر المستقل، ومقام الديمقراطية والمساواة الرفيع.
كاتب المقالتونسي
اقرأ أيضا:
د. شاكر النابلسي: كلام تافه في حريق الأرز!
أسامة عجاج مهتار: جبران تويني
د. سيّار الجميل: جبران تويني يلتحق بقافلة شهداء لبنان..!!
جاسم بودي: نهار وظلام
التعليقات