الضجر الذي تملكني عندما زرت بلجيكا انقلب إلى سعادة وقراءة متواصلة، فلقد وصاتني عشرات الرسائل من القراء حول مقالي (بلجيكا.. مضجرة للغاية) الذي نشرته إيلاف منذ أسبوعين تقريباً. لم أكن أصدق أن مقالاً كهذا سيفجّر قريحة قرائي، وسيلهب ثورتهم، فمنهم من أشاد بالمقال، ومنهم من طالبني بعدم ذكر اسم بلجيكا، لأن البلجيكيين قضوا على 15 مليون أفريقي دفعة واحدة، ليس بقنابلهم الذرية، بل بسيوفهم وبنادقهم البدائية، وإليكم بعض ما جاء برسالة أخينا حيدر: (رغم احترامي لكتاباتك في إيلاف، إلاّ أنني هذه المرة سأختلف معك حول ما كتبت عن بلجيكا، فلقد تألمت كثيراً وأنا أقرأ عن تاريخ بلجيكا الإستعماري في أفريقيا، وبإمكانك أن تطلع على المجازر التي ارتكبها البلجيكيون بحق الأفارقة من خلال زيارة هذا الموقع المرفق، وليكن بمعلومك أن البلجيكيين لم يعتذروا بعد على مجازرهم، رغم أن عدد ضحاياهم قد تخطى الخمسة عشر مليوناً).
ومن (ديد إند) وصلتني رسالة يصرخ بها صاحبها بأعلى صوته: (من يهمه أمر بلجيكا حتى تكتب عنها) وعندما أخبرته بعدد الرسائل التي وصلتني حول بلجيكا، وزودته ببعضها، أرسل لي رسالة ثانية يشرح بها رسالته الأولى ويقول: ( أنا آسف.. ولكنني أحببت أن أعلمك أنني من المعجبين بكتاباتك، وخاصة عندما تتطرق لمواضيع المرأة والحرية وما شابه.
نحن كعرب، يجب علينا أن نعيش حاضرنا، ونحضّر لمستقبلنا، أي أن علينا أن نتخطى الماضي، فالماضي مات، والمستقبل هو المستقبل.
لقد عشت أياماً حلوة في أوروبا، أنا الآن في الولايات المتحدة الأميركية، زرت خلالها البارات، الملاهي الليلية، ورافقت العديد من الفتيات. كما أنني زرت بلجيكا، التي أكرهها كبلاد، لأن كل ما فيها ميت، وشعبها يكره العرب، هذا كان في التسعينات (1998).
المهم أن نتكلم عن مشاكلنا، وكيفية حلها، إذ أننا، كعرب، ما زلنا عاجزين عن مماشاة العالم، وقد لا أستبعد محونا عن وجه الأرض. لذلك أرجوك، ككاتب ذكي، ذي أسلوب رائع، أن تضم صوتك إلى أصوات الدكتور شاكر النابلسي، والدكتور كمال نجار، والسيد ف. نمري وغيرهم.. فهؤلاء هم كتّابي المفضلون).
وإذا كان (حيدر) و(يدي إند) قد ثارا علي كوني ذكرت اسم بلجيكا، فلقد ثار الأخ عماد مهدي ثورة مضادة، إذ اعتبرني قد قللت من شأن بلجيكا، وإليكم ما كتب: (لقد قرأت بالصدفة على موقع إيلاف ما كتبته عن بلجيكا، وأرى فيه الكثير من الغرابة والتناقض، فقد بدأت مقالتك وقد حكمت على المملكة البلجيكية بأنها.. مضجرة!! ثم عطفت وأنت تذكر زيارتك للغراند بلاس، وسجادة الزهور الشهيرة بروعتها، والمباني الرائعة في بروكسيل (على حد قول المرحومة داليدا)، وحكمت عليها بالضجر، ولم ترَ منها شيئاً حتى الآن. فهل سمعت بفينيسيا الشمال أو مدينة بروج وأبنيتها التاريخية الشهيرة، ومنها (بيل فورت)، أو هل رأيت مدينة (أنتويرب)، ولا أدري لماذ يأخذ العرب الإسم الفرنسي رغم أن سكانها ناطقين الفلمنكية وهي لهجة هولندية، وهل رأيت مدينة (أوستندة) أو ما يسمى لديهم مدينة (كنوكة هايست) أو مونت كارلو بلجيكا.
ثم لماذا أنت متضايق لهذا الحد من اختيار بروكسل عاصمة للإتحاد الأروبي؟! ألا تعرف أن أحد الأسباب الرئيسية لاختيارها هو أن لغاتها الرسمية ثلاث، فهل وجدت بلداً أوروبياً آخر فيه ثلاث لغات رسمية يقدر أن ينافس بلجيكا ما عدا سويسرا؟!
وفي النهاية، أرجو أن تصحح وجهة نظرك حول بلجيكا، فهي تستحق الكثير رغم صغرها، ولا أدري ما سبب تأثر العرب الدائم بالدول الكبرى، واستهانتهم بالصغرى، فهل يرجع هذا إلى تأثرهم بتقاليدهم الشعبية زمن القبضايات، أم حبهم الكبير للقوة والسلطة؟).
الشاعر شوقي مسلماني رمى علي سؤالاً سريعاً في رسالته الأسرع: كيف تكون بلجيكا مضجرة وهي تحتفل كل عام بالزهور؟
الدكتور صفوت رياض قال: ان ما كتبته عن بلجيكا يذكرني بمهرجان الزهور الذي يقام كل عام في العاصمة الأسترالية كانبرا. والظاهر أن الدكتور رياض أخصائي بالمجاري البولية، وإلا لما سألني بدعابة إذا كان البول النازل من حمامة الطفل ذا طعم أو رائحة.
أما الدكتور عبدالله عقروق، فلقد فجّر مقالي بعض ذكرياته الحميمة، ولا أجد ضرراً من إطلاع القراء عليها: ( ذكرتني يا أخي شربل أيام بدأت دراستي الجامعية في الدانمرك عام 1954، كنت طالباً آنذاك، في كلية فريدنسبرج، إذ ذهبت بصحبة بعض الزملاء بطريقة (الهيتشايكينغ) الطريقة المفضلة عند الطلاب للتنقل والسفر، إلى بلجيكا، وقضينا هناك أسبوعاً كاملاً بكلفة أربعة دولارات في اليوم، بين منامة وأكل وشرب، كنا أعضاء فيما كانوا يسمونها بيوت الشباب، وكانت المنامة مع استعمال الحمام والمطبخ لا تتجاوز الدولار الواحد. كنا نقضي سهراتنا في البارات الجميلة، وكان لكل واحد منا على الطاولة ما يقارب سبعة فتيات، فلقد عانت بلجيكا من خسائر بشرية هائلة أثناء الحرب العالمية الثانية، وخاصة من الذكور، مما جعل عندهم نقص في صفوف الرجال، فلقد كانت بلجيكا (طاسة التصادم) في الحرب، ومنيت بخسائر ذكورية لا تعد ولا تحصى.
مقالك حرّك بعض الذكريات الحلوة، مما جعلني أفكر بالذهاب ثانية لأستقي من حمامة الولد..).
وقبل أن أختم مقالي أود الإعتذار من الذين لم أتمكن من نشر رسائلهم، ومن الذين نشرت رسائلهم أيضاً، فالغاية تبرر الواسطة، وغايتي من كل هذا أن أثبت للقارىء أن أدب الرحلات ما زال ساري المفعول، ومرغوب كأغنيات نانسي عجرم.. رحم الله ابن بطوطة، فلقد علمنا السفر، ولكنه أوقعنا برسائل القراء وبالف سين وجيم.
التعليقات