في ثلاثينيات القرن المنصرم استطاع رسامٌ مغمور ومجهول الأب، من النمسا، أن يُقنع الشعب الألماني ذا الحضارة العريقة وأحد قادة الثورة الصناعية، أنهم أفضل شعب على وجه الأرض وأن سلالتهم أفضل سلالة عرفها التاريخ ويجب أن تظل هذه السلالة نقية الدم ولا تختلط بأي دم آخر يقل عنها شرفاً. ولأن الدم الآري هو أفضل وأنقى دم على ظهر البسيطة، يصبح منطقياً أن يسود هذا الدم جميع الدماء الأخرى التي هي بالضرورة أقل نقاءً منه. وفي سنوات معدودة استطاع هتلر، الفنان الفاشل، أن يوحد كل الألمان، بصرف النظر عن مستواهم التعليمي، خلفه وأصبح كالنبي بالنسبة لهم، وأصبحت أقواله كالأحاديث النبوية يتناقلها الشباب الألماني قبل الشيوخ، والنساء قيل الرجال. وأصبح كتابه "كفاحي" إنجيلهم. وفي ظرف وجيز أصبح الألماني ينظر إلى الشعوب الأخرى نظرة احتقار واضطهاد، خاصة إذا كان المنظور إليه ينتمي إلى فئة الملونين أو اليهود أو الحلبة Gipsy . وبما أن هذه الفئات تتكون من أفراد لا يرقون إلى مستوى نقاء الدم الآري فيجوز، بل يجب التخلص منهم بأي طريقة شاء الرجل الألماني. وعليه لم يتردد المهندسون وضباط الجيش والشرطة من بناء المحارق التي التهمت نيرانها اليهود والحلبة والملونين. ولم يتردد الأطباء الذين كانوا قد أقسموا قسم أبوقراط على ألا يضروا بالمريض أو يصفون له سماً يقتله، لم يترددوا في إجراء التجارب غير الأخلاقية على الأطفال من الأجناس المذكورة قبل إدخالهم إلى المحارق. والمشكلة في مثل هذه الحالات عندما يتبنى الشعب أيدولوجية معينة، تصبح هذه الأيدولوجية كالدائرة التي تتكون على سطح الماء عندما يُلقى فيه حجرٌ. تبدأ الدائرة صغيرة ثم تكبر وتكبر حتى تتلاشى كمية الطاقة الكامنة فيها التي ولّدها الحجر عندما اصطدم بسطح الماء. والأيدولوجية النازية لم تشذ عن هذه القاعدة، فبعد أن أحرقوا اليهود والحلبة وغيرهم من الأجناس الأخرى، التفتوا إلى الجنس الآري نفسه وقرروا أن يزيدوا في نقاء الدم الآري بأن يتخلصوا من المعتوهين والمشوهين خُلقياً أو عقلياً، فوضعوهم في مصحات وأجروا عليهم عمليات التعقيم الإجباري حتى لا يتناسلوا. والسبب الرئيسي وراء كل المآسي والمجازر العرقية أو العقائدية التي حدثت في التاريخ هو شعور فئة معينة من الناس بأنهم أفضل من غيرهم.
وإذا تمعنا في التاريخ الإسلامي نجد هذه النزعة ظاهرةً منذ بداية الإسلام. فالمفاضلة بين القبائل والأفراد والأنبياء والمساجد والأيام وحتى الأنبياء كانت وما زالت سمة ملازمة للإسلام. فرغم الأحاديث الكثيرة التي تقول لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالقوى، نجد أحاديث أخرى يتفق عليها أغلب الفقهاء تقول بتفضيل أجناس من الناس على أخرى وتفضيل بلاد على أخرى، فقد قال محمد بن عبد الملك الدقيقي قال سمعت يزيد بن هارون يقول سمعت عبد الله بن طاوس يقول سمعت أبي يقول قال ابن عباس يرفعه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) مكة آية الشرف والمدينة معدن الدين والكوفة فسطاط الإسلام والبصرة فجر العابدين والشام معدن الأبرار ومصر عش إبليس وكهفه ومستقره والسند مداد إبليس والزنى في الزنج. ثم استمر ابن عباس فقال قال رسول الله: "الأئمة من قريش وسادة الناس بنوا هاشم" ( تاريخ دمشق لابن عساكر، ج1، ص 295). فيظهر من هذا الحديث أن مكة والمدينة مفضلتان على غيرهما من البلاد وأن بني هاشم مفضلون على جميع الناس ويأتي بعدهم القرشيون عامة. ويؤكد هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، وغيرهم، وأن قريشاً أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش. وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم لمجرد كون النبي (ص) منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل."( اقتضاء الصراط المستقيم، ج1/373).
وما دامت قريش والعرب عامة أفضل من غيرهم من الناس فلا بد أن يكون دينهم أفضل الأديان. فالإسلام خاتم الرسالات السماوية وجاء ليظهره الله على الدين كله ولو كره الكافرون. ولكي يُقنع المسلمون أنفسهم بأفضلية دينهم على ما سواه زعموا أن التوراة والإنجيل دخلهما التحريف العمد من الحاخامات والقديسين ولذلك لم يعودا صالحين كأديان حديثة. الإسلام وحده نجا من التحريف لأن الله قال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ( الحجر 9). وتنكر المسلمون للتوراة والإنجيل وقالوا إنهما ليسا ذكراً، وبالتالي لم يحفظهما الله من التحريف، رغم أن القرآن يقول: "ولقد كتبنا في الزبور بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( الأنبياء 105). والزبور هو كتاب النبي داود، فلا بد أن يكون الذكر قد جاء قبله حسب مفهوم الآية. والذي جاء قبل الزبور هو التوراة. وقد يتساءل المرء: لماذا أنزل الله رسالتين وهو يعلم أنهما ليسا ذكراً وهو لن يحافظ عليهما؟
وبما أن الإسلام هو أفضل دين "إنما الدين عند الله الإسلام" فلا بد أن يكون نبيه هو أفضل الأنبياء عند الله رغم أن الله قد كلم موسى مباشرةً واصطفي النبي إبراهيم وجعله خليله، وليس هناك أقرب من الخليل لخله. وحتى النبي نفسه قال: "لا تخيروا بين الأنبياء" وقال كذلك: "ما ينبغي لعبدٍ أن يقول إنِّي خيرٌ من يونس بن مَتَّى" ( سنن أبي داود، الجزء الثاني، أول كتاب السنة، باب التفضيل). والقرآن يقول: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله" ( البقرة 285). ولكن رغم هذا نجد كتب السيرة والحديث مليئة بالأقوال التي تزعم أن محمد بن عبد الله هو خير من وطئ الثرى وهو أفضل الأنبياء عند الله وقد جمع الله له كل الأنبياء والرسل عند بيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج حتى يؤمهم في الصلاة. وابنته فاطمة هي سيدة نساء العالم، رغم أن الله قد اصطفى مريم ونفخ فيها من روحه لتأتي بعيسى. ولا ندري لماذا اختاروا فاطمة لتكون سيدة نساء العالم وأختها زينب كانت تكبرها سناً، ولها أخوات أخريات. ولكن هذه هي أيدولوجية المفاضلة التي لا تخضع للمنطق.
وبما أن الإسلام هو أفضل الأديان والمسلمون أفضل الناس، لا بد أن يكون يوم عطلتهم هو أفضل الأيام عند الله كذلك. ففي ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة، وحُذيفة رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((أَضَلَّ اللَّهُ عَن الجُمُعة مَنْ كان قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ السَّبْتِ، وكَانَ لِلنَّصارى يَوْمُ الأَحَدِ، فجاء اللَّهُ بِنَا، فَهَدَانَا ليومِ الجمعة فَجَعَلَ الجُمُعَةَ والسّبْتَ والأَحَدَ، وكَذلِكَ هُم تَبَعٌ لَنَا يَومَ القِيَامَةِ، نحن الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنيا، والأَوَّلونَ يَوْمَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لهم قبل الخلائِق)). ( ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدى خير العباد، ج1، ص 164). ويقول ابن القيم كذلك في حديث نبوي: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ " ( ص 20).
وبما أن الإسلام هو أفضل دين عند الله فكذلك يكون المسلم أفضل عند الله من غير المسلم. ولهذا السبب لا يُقتل المسلم بكافر لأن النبي قال: "لزَوَالُ الدّنْيَا أهْوَنُ عَلَى الله مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ". ( تحفة الأحوذي للمباركفوري، كتاب الديات، 943). فإذاً الدنيا كلها لا تسوى رجلاً مسلماً واحداً. ولهذا السبب يجوز للمسلم قتل غير المسلم واستعباده وبيعه في سوق النخاسة وإلزامه بدفع الجزية إذا لم يسلم، ومنعه من إشهار طقوس دينه مثل الناقوس على الكنائس أو إشعال النيران التي كان يعبدها الزرادشتيون. ويقول محمد بن سعيد القحطاني في كتاب ( الولاء والبراء في الإسلام ) ما يلي: "وما اتفق عليه الصحابة والفقهاء أن أهل الذمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإذا كان هذا اتفاقهم فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها؟ وقد قال عمر رضي الله عنه: " إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم" رواه أبو الشيخ الأصبهاني ورواه البيهقي بإسناد صحيح. ( ص 334). وما دام المسلم أفضل من الكافر فيجب على المسلمين عدم توظيف النصارى أو اليهود في أعمالهم كما أمر الخليفة عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري عندما سمع أنه قد كان له كاتب نصراني: "لا تكرمهم إذ أهانهم الله ولا تعزهم إذ أذلهم الله، ولا تدنيهم إذ أقصاهم الله" ( الولاء والبراء، ص 369). بل يجب إظهار العداوة لهم " التصريح للكفار بالعداوة واجب كما احتج خالد بن الوليد على مجاعة بأنه سكت ولم يظهر البراءة كما أظهرها ثمامة واليشكري. ( الولاء والبراء ص 279). وإذا أظهر المسلمون العداوة للكفار فلا بد أن تتبعها الحرب ويتبع الحرب قتل الكفار وإبادتهم "وقال نوح ربِ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا" ( نوح 26-27)
أليست هذه نفس الأيدولوجية النازية التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية؟ ولكن المشكلة أن المسلمين لا يناقشون هذه المواضيع على أمل أن تزول المشكلة من تلقاء نفسها إذا تجاهلها الإنسان. ولكن في الأعوام القليلة الماضية تعمد قادة المسلمين إخفاء هذه الأيدولوجية عمداً وصرحوا بأن الإسلام يحترم الأديان الأخرى ويرحب بالحوار بينها، وعقدوا عدة ندوات للحوار بين المسيحيين والمسلمين في مصر، أعقبها حوار بين المسلمين واليهود في المغرب، ثم أخيراً حوار بين المسلمين واليهود في قطر قاطعه الشيخ القرضاوي والبابا شنودة وعدة شخصيات إسلامية أخرى لأن دولة قطر كانت قد قدمت الدعوة لبعض الحاخامات الإسرائيليين لحضور المؤتمر ( إيلاف 29 يونيو 2005). وطبعاً فكرة الحوار بين الأديان ما هي إلا تمثيلية هزلية يقوم بها بعض المشايخ تحت الضغط الأمريكي، إذ ليس في مقدور المسلمين التخلي عن الأيدولوجية النازية المذكورة في أقوال السلف. ولكن نستطيع أن نقول إن الشيخ القرضاوي قد أظهر شجاعةً أدبية نادرة بمقاطعته للحوار، ليس لأن الحاخامات الإسرائيليين كانوا من المدعوين، ولكن لأنه يعرف في قرارة نفسه أنه لا يمكن له أن يساوي بين الإسلام واليهودية ويحاورهم محاورة الند للند لأن ذلك يستدعي إلغاء أحاديث وآيات عديدة لا يمكن أن يتجرأ أحدهم بالقيام به.
التعليقات