كأننا فعلاً لا نتعلم من كل الخطايا والأخطاء، حين دعمت الحكومات الهوس الديني ظنا منها أنها بمنأى عن مخاطره، وأنها يمكن أن تستخدمه في ألاعيب السياسة وتصفية الحسابات، كما حدث في أفغانستان وفي الشيشان وفي كل مكان، وما أن انفض هؤلاء "المجاهدون" من مهامهم حتى انقلبوا على صانعيهم .
مر الأمر، أو لم يمر، لكن ما حدث أن أحداً لم يتعلم مخاطر اللعب مع الشيطان الأصولي، ومرة أخرى عاد لاعبو السيرك في شرقنا الأتعس إلى لعبة أخرى اسمها "المقاومة العراقية"، ولا أنسى الفزع الذي أصاب وجه زميلة صحافية عراقية كانت في القاهرة مؤخراً، بغرض التدريب بإحدى المؤسسات الصحافية، وما أن شاهدت مظاهرة تهتف لما يسمى "المقاومة العراقية" حتى أصابها الذهول، وحين جمعها لقاء مع عدد من الصحافيين المصريين أثارت الأمر متساءلة: كيف تؤيدون الإرهابيين الذين يعيثون فساداً في بلادي؟
وهنا تحول عدد لا بأس به من الحضور إلى عراقيين أكثر من العراقية، وراحوا يشرحون لها كم هي نبيلة تلك المقاومة، وكيف تدافع عما أسموه "شرف الأمة"، وكانوا عصبيين إلى حد يحول دون مناقشتهم بشكل موضوعي، ولم يستمعوا إليها حين كانت تؤكد أنهم لا يعرفون ما يجري هناك، وأن الناس ضد ما يهتفون لهم كالزرقاوي وأزلام صدام، لكن هيهات، كادت المناقشة أن تتحول إلى مشاجرة، حين بادر أحدهم إلى توجيه اتهام للزميلة العراقية بأنها ربما كانت ابنة أحد القادمين على دبابات أميركا، وهو ما نفته الزميلة بشكل قاطع، قائلة إنها لم تغادر العراق طيلة حياتها، وهذه أول مرة تسافر إلى الخارج، وأنها عايشت زمن صدام حسين، وتعيش وسط الطبقة المتوسطة في بغداد، وتعرف جيداً أن الناس يريدون إعادة إعمار بلدهم وينشدون الأمن، ولا يشجعون هؤلاء الذين يفخخون السيارات ويفجرون المنشآت، ولكن كانت تنادي بواد إزاء "المناضلين"، ممن شربوا حتى الثمالة من كأس التحريض اليومية في كل وسائل الإعلام المصرية
.....
منذ إطاحة صدام حسين، ظل الإعلام المصري الحكومي يروج ويباهي بما يطلق عليه "المقاومة العراقية الباسلة" في العراق، خرجت عشرات وربما مئات المانشيتات عبر صحف حكومية وأخرى ليست بعيدة عن دوائر السلطة، وثالثة من محترفي التحريض و"الجعجعة" تشيد بـ "أبطال المقاومة"،، الذين يمرغون أنوف الأميركيين والبريطانيين في العراق، وحين سئل أحدهم ـ وهو قومي عروبي تارة، متأسلم تارة أخرى، حكومي إذا احتكم الأمر ـ عن تفسيره لقتل عناصر الشرطة العراقية، قالها بالفم المليان عبر شاشة التلفزيون المصري "يستحقون، فهؤلاء عملاء للاحتلال"، وراح يُنظّر ويبرر ويتحذلق، بل ووصل الأمر إلى درجة أن وصف رئيس تحرير صحيفة حكومية ـ خلع مؤخراً ــ رئيس الوزراء العراقي إبان زيارته لمصر بالعميل وأوصاف أخرى أقل ما يمكن أن تنعت به أنها "بذيئة" ويعاقب عليها القانون، بل ووصل الأمر إلى حد تسيير مظاهرة مفتعلة قبل بداية الحرب في العراق، تصدر صفوفها نجل الرئيس المصري وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين، وبالطبع كان هذا من باب الخوف من ريح التغيير التي هبت بالفعل .
سمحت الحكومة المصرية، بل ونظمت وحرضت على تسيير مظاهرات مناوئة للعراق الجديد، وراح الأراذل والسخفاء من "هتيفة الفضائيات" يلعقون جراح العراقيين ويحرضون على مزيد من عمليات الخطف والذبح والتفجيرات والعمليات الانتحارية، ويبشرون بالنصر المبين، وينعتون شعوباً كاملة كالأكراد والشيعة بالخيانة والعمالة والتحالف مع المحتل، وهناك أكوام من المقالات والبرامج والحوارات والتقارير المترعة بهذا التحريض اليومي، ولو شاء القارئ أو أي مسؤول أن نزوده بها فهي جاهزة وموثقة وموجودة في أرشيف الصحف والتلفزيون، وكلها تحريض فجّ على العنف في العراق، بزعم مساندة المقاومة، وحين تفعل هذا عناصر جماعة تاريخها ملطخ بالدماء، كالإخوان المسلمين، يمكننا أن نتفهم دوافع ذلك، لأن الإرهابيين أمثال الزرقاوي وابن لادن والظواهري هم أبناء الإخوان، مهما تنصلوا منهم ـ فهم لا يختلفون استراتيجياً، بل خلافاتهم تنحصر في الوسائل، والانتصار لهذه الجماعة أو تلك الحركة، لكن الجميع في نفس السلة، والخلاف في الدرجة وليس في النوع، وحينما يجعجع فلول القوميين بالهتاف والصخب عن المقاومة الباسلة، يمكننا أيضاً أن نتفهم ذلك، لأن هؤلاء تربوا في كيانات فاشية كمنظمة الشباب والاتحاد الاشتراكي، ولما يبارحوا بعد زمن الهتافات والشعارات، ويكاد أن يكون الزمن قد توقف بهم عند حقبة الستينات، حيث الإعلام التعبوي الموجه، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، بينما لم نعرف لهم معارك ولا انتصارات، بل قادوا الأمة من هزيمة إلى نكبة إلى نكسة إلى سلسلة من الإحباطات وجرائم الفساد، وما هذه الأنظمة الحاكمة التي يزعمون معارضتها الآن سوى الامتداد التاريخي للعسكر الذين يصلي فلول "القومجية" في محرابهم حتى اليوم .
لكن ـ وآه من لكن وأخواتها ـ حين تتورط دولة ، يفترض أنها محترمة وكبيرة في لعبة المزايدة على هؤلاء أو أولئك، لابد من وقفة، خاصة وأن هذه الحكومة صارت الآن هي المسؤول الأول عن دماء الفقيد إيهاب الشريف، السفير المصري ـ المذبوح ـ في العراق، إذ خرج علينا اليوم الاستراتيجيون القوميون والمفكرون المتأسلمون ليتهموا الحكومة بأنها هي التي دفعت بالسفير للذبح، وكأنه الدبلوماسي الوحيد في العراق، أو كان ينبغي الرضوخ لابتزاز عصابة الزرقاوي .
......
باختصار شديد القاهرة الرسمية تورطت في التحريض على العنف ظناً من مسؤوليها أنهم بمنأى عن هذا العنف، والآن كلي شغف لسماع رأي الذين حرضوا على الإرهاب المسمى زوراً بالمقاومة، بالطبع أعرف ما سيرد به الراديكاليون المتشنجون في صفوف الحركات الأصولية وفلول القوميين، فلديهم متهم جاهز هو الحكم الذي سيحملونه مسؤولية إرسال بعثة دبلوماسية للعراق، وسيحملونه مسؤولية كل ما جرى في العراق، وكأن مصر أو غيرها كان يستطيع منع ما جرى، أو إقناع صدام بأن يكون أكثر إنسانية واحتراماً مع شعبه وجيرانه والمجتمع الدولي، فلا يثير ضده العالم بأسره، أتفهم بالطبع منطلقات هؤلاء المؤدلجين الذين يضعون نصب أعينهم أفكارهم الأيديولوجية قبل أي واقع سياسي، وفوق أي اعتبار لمصالح العباد والبلاد، فهؤلاء أسرى تصوراتهم الذهنية، تماماً كما هو حال أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي، ولا يمكن بأي وسيلة من الوسائل إقناعهم بتغيير قناعاتهم، بل أفضل سبيل للتعامل معهم هو "التطبيق الصارم" للقانون الذي يحظر التحريض وتشجيع أعمال العنف، وتحبيذ الإرهاب، وهنا أدعو إلى تشكيل كيانات أهلية ترصد هذا التحريض وتكشفه، وترفعه لجهات التحقيق إذا لزم الأمر .
أما ما لا استطيع أن أتفهمه أن تندفع دولة ـ أي دولة ـ في اتجاه التماهي مع ذهنية الغوغاء وذائقة التطرف والجنوح للتعصب، فتزايد عليه، وتتصرف بازدواجية تثير السخرية، فهي تستقبل المسؤولين العراقيين وتجتمع بهم وتنسق معهم رسمياً، ثم تطلق عليهم "كلاب جهنم" من كهنتها الكتبة والإعلاميين باعة الشعارات والمحرضين ليشحنوا البسطاء عبر شاشات التلفزيون وصفحات الصحف المملوكة للدولة، وهنا أرجو ألا يخرج علينا "حملة المناشف" ممن يجيدون "حلو الكلام" ليحدثونا عن حرية التعبير، وكيف لا تتدخل الدولة في الصحف المسماة بالقومية، ولا في التلفزيون والإذاعات، فهذه أكاذيب ينفيها الجلوس أمام شاشة التلفزيون أو مطالعة صحيفة حكومية واحدة، فهي مازالت تراوح مكانها في زمن الإعلام الموجه والتعبوي والتحريضي، وتسيطر عليها الحكومة من الألف إلى الياء .
بقي القول إن من زرع حصد، ونحن زرعنا الشوك، زرعنا التحريض، ناصرنا القتلة وأطلقنا عليهم "مقاومين"، وسعينا لفتح "خطوط اتصال" معهم، ونصبنا أنفسنا وكلاء "للسنة العرب"، وعادينا الجميع في العراق، وراوغنا الحكومة الجديدة التي تتلمس طريقها، وسعينا لفرض وصاية عليها مع أطراف عربية أخرى، وكل هذا بسبب الخوف من ريح التغيير التي هبت على المنطقة منذ سقوط صنم صدام حسين، نعم أعرف تماماً أن القاهرة والرياض ودمشق وغيرها من العواصم لا تحب صدام، بل وتبغضه وتحتقره، لكنهم أيضاً يخافون من "المد والتغيير" القادم من هناك، من بغداد، ولهذا ينبري الكتبة والأفاقون في السخرية من ديمقراطية العراق الجديد، ويصفون القادة الجدد الذين انتخبهم الشعب بأنهم "أذناب الاحتلال"، ولكني .. هنا أذكر وأنبه وأسجل لوجه الله والتاريخ، أن العراق حين يتعافى لن يتسامح مع الأعراب الذين سخروا منه، ولعقوا جراحه، ووقتها أرجو أن يعي المحرضون أن العراق فلت من أيديهم، وصار أول دولة عربية تعرف معنى التداول السلمي للسلطة، وتحتكم لصناديق الاقتراع، ولا تعرف التزوير ولا التلفيق ولا القمع ولا الحاكم الملهم المؤبد الملتصق بمقعده حتى القبر، وستحترم حقوق مواطنيها، وتؤسس لدولة عصرية تتسق مع العالم، وتحصد ثمار الحسنيين، النفط والماء، وما الزرقاوي وصدام وأزلامهما سوى بثور في وجه العراق، ستخلف بعض الحرج والألم، لكنها زائلة لا محالة مهما طال الزمن أو قصر .
اللهم قد بلغت

[email protected]