قبل 47 عاما وفي أحد أزقة بغداد القديمة، كنا نتناول افطارنا عندما سمعنا صوت رجل يصرخ في الزقاق بعبارات لم نفهم منها شيئاً. خرجنا لنعرف ما الخبر واذا به العم جبار الزبال يبشر الناس بسقوط النظام الملكي وان ضباط الجيش الأبرار استلموا السلطة لانقاذ البلاد. غمرت الجميع فرحة
لا توصف. استمعنا الى المذياع والى اول بيان رقم 1 فتأكد لنا ما نقله العم جبار.. خرجنا الى شارع الأمين واذا بالمسيرات والهتافات. لم يصدق الناس انهم تخلصوا من نظام ارتبط بالاستعمار وبدا قوياً مستبداً في عيون الكثيرين وفقدت انتخاباته ومؤسساته مصداقيتها منذ زمن. وهكذا ولد يوم 14 تموز بعد انقلاب عسكري تحول الى ثورة بخروج الجموع الغفيرة ومساندتها للنظام الجديد.
وأذكر وانا طفل العاشرة كيف شاركتُ في موجة اخراج التلاميذ من ابتدائيات البنين والبنات للانخراط في مظاهرات الاطفال !! وكيف كتبتُ "الأشعار" وشاركتُ في ترديد الأناشيد وأداء فعاليات اخرى. كانت ثقتي كبيرة بما يجري حولي واجتاحتني آمال عريضة في غد أفضل. ولكن هذا الفرح الغامر لم يلبث ان التف بالحيرة ثم اجتاحه الغضب فخيبة الأمل فالفاجعة الكبرى...
حيث بعد فترة قصيرة، رفعت لافتات سوداء حزناً على الشهيد عبد الرسول سوادي، كما أتذكر، وعرفت ان هناك عراقيين يترصدون بالحافلات على طرق معينة خارج بغداد لاخراج ضحاياهم وقتلهم، ثم بعد فترة قصيرة، واثناء المشاركة في احتفالات الأول من ايار (عام 1959)، حاول البعض من العراقيين ايضاً ضرب المظاهرة عند الحيدرخانة، ثم أضرموا النار في حمامة السلام الضخمة عند وصولها الى باب المعظم. وعندما اردنا العودة من شارع الرشيد الى بيتنا كان علينا ان نعبر شارع الجمهورية ولكن البعض تمترس في منارة جامع (في عام 1959 !) قرب معهد المعلمات ليرمي جمهور العابرين للشارع برشاشته. ولم نستطع العبور الا بعد حوالي ساعة من المحاولات المتكررة. وكانت اول مرة أرى او اسمع بمثل هذه الاعتداءات الصارخة، لذلك اجتاحني الغضب كيف يمكن لعراقي ان يشرع بقتل عراقي آخر بدون اي معرفه بينهما وبطرق منحطة كهذه. واكتسب هذا الغضب فورته عندما نفّـذت مجموعة من مجرمي حزب البعث وفيهم صدام حسين محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم واتذكر كيف صُدمنا حينها وكيف كانت قلوبنا وقلوب الملايين تخفق بشدة مع اخبار من كنا نعتبره الزعيم الأوحد وابن الشعب البار.. الذي حملته جماهير بغداد وهو في سيارته، احتفاء به وفرحاً بسلامته.
أما خيبة الأمل فقد ولدت امام شاشة التلفزيون الذي اشتراه ابي خصوصاً لمتابعة الأخبار ومجريات المحكمة العسكرية الخاصة (محكمة المهداوي). واتذكر المشهد المحزن عندما اعتدى شاهد على المتهم والوزير السابق سعيد قزاز بأبيات أتذكرها لحد الآن، ولكن فيها من الاحتقار والابتذال ما يمنعني من سردها. المهم ان المتهم استنكر هذه العبارات فصرخ به المهداوي طالباً منه غلق فمه لأن هذا صوت الشعب. حينها أبدى والدي سخطه وافهمنا بان هذا يمثل خروجاً عن قواعد العدالة واعتداء لا يمكن تبريره في محكمة جديرة بهذا الاسم. فقدت هذه المحكمة مصداقيتها عند والدي. أما أنا فكنت لا أفقه الا القليل مما يجري فيها من صخب ومجادلات.. ولكن أحسست بخيبة أمل لأن والدي أدانها بعد ان كان متحمساً لها ثم توقف عن متابعتها. ولم أعد أتمتع بتلك الجلسات التي طالما أتى الجيران الى بيتنا ليشاركونا فيها كما هي العادة بين أهالي العراق في ذلك الوقت.
لكن هذه الخيبة ازدادت عند سماعي باستمرار استخدام الحبال من قبل عراقيين لسحل آخرين في الشوارع بعد ان كانوا يداً واحدة عشية 14 تموز المجيد. حيث صار سحل المعادين "لمصالح الشعب العراقي" أشبه بمسلسل مقيت. وأيضاً لما سمعنا عنه من أحداث مشابهة في الموصل وكركوك. اما على المستوى الفردي فقد صدمت بوصول اثنين من اقاربنا من احدى المحافظات هربا من الشرطة التي تريد القبض عليهم لأنهم شيوعيون. فبعد أن كانوا معارضين مضطهدين، ايام الملكية، ها هم يهربون اليوم من شرطة الشعب وفي ظل الزعيم ابن الشعب البار! واصبحت خيبتي اكبر عندما كنت اسمع والدي يعبر عن غضبه من مسلك الحكومة الملتوي ازاء الاحزاب السياسية والجماعات المتصارعة ويقول: ليت عبد الكريم قاسم يقرر هل هو مع الشيوعيين ام مع البعثيين حتى نقرر موقفنا لاننا نحبه ونريد الوقوف معه..
اما الفاجعة، فكانت يوم 8 شباط، عندما هاجمت قوى الغدر والهمجية وزارة الدفاع التي تحصن فيها عبد الكريم قاسم ومعاونوه وقد ارتكبوا بذلك خطأ عسكرياً قاتلاً. وكنا في العطيفية، اخذت موقعي لساعات طويلة على سطح المنزل لأعتصر ألماً وانا أشاهد الطائرات وهي تنقض على عرين الأسد. وكنا نراقب أيضاً وبقلق استمرار صورته على شاشة التلفزيون، الى أن سيطرت عليه طغمة عبد السلام عارف والبكر. هكذا عشت فاجعة لا أنساها لحد الآن، اذ شهدنا انتصار قوى الجهل والغدر التي أضافت الى سجل جرائمها التي ذكرت قسماً منها فصلاً جديدا دامياً لن يمحى من ذاكرتي أبداً، ولآ زلت أشعر بالأسى كل يوم 8 شباط على ما شهدته بغداد ومختلف ارجاء العراق من قتل واضطهاد واغتصاب وتعذيب، ثم انتشر الخوف في كل مكان...

دروس 14 تموز
لايمكن حصر دروس التجربة بمقال، انما أذكر النقاط التي أراها أكثر أهمية في يومنا هذا :
1- ان الجيش عندما استلم السلطة باسم الشعب العراقي، أجهض بشكل غير مباشر التحرك الدؤوب للجماهير العراقية المطالبة بتخليص العراق من النفوذ الأجنبي وهنا حققت سلطة عبد الكريم قاسم نجاحاً كبيراً، ولكن هذه الجماهير كانت أيضاً مع الانتخابات الحقيقية لتمكينها من ايصال ممثليها الى البرلمان والحكومة، وهذا ما لم تحققه السلطة. حيث توهم الناس بحصول المطلوب ولكن الأمر لم يتعد استبدال دور الضغط والمعارضة للنظام قبل 1958، بموقع المتفرج والمصفق والمردد للشعارات وبموقع المعاناة من الحرب الدائرة بين الضباط الأحرار سابقاً ومن التطاحن الذاتي (بين الناس) ومن المشاكل التي بدأت تتفاقم مع تقدم الأيام والشهور. لعبت الأحزاب دوراً كبيراً في هذه التطورات السلبية، ولكن المهم أن هذا الحدث الكبير تحول تدريجياً الى تراجع في عملية البناء السياسي.
2- لا يمكن تاريخياً القبول بمنطق بعض المثقفين الذين يصطفون اليوم مع العملية الديمقراطية ويسمون انفسهم بالتيار الديمقراطي وفي نفس الوقت يدافعون عن سياسة الحزب الشيوعي أيام عبد الكريم قاسم. إذ يمكن ان نصف سياسة الحزب الشيوعي في تلك الفترة باوصاف عديدة، لكن الديمقراطية ليس من بينها بالتأكيد، لا على مستوى الفكر في الجرائد والمنشورات والخطب والشعارات ولا على مستوى الممارسة بالمظاهرات والشعارات وعمليات اقصاء الخصوم والتهديد حال التواجد في موقع القوة. ولا داعي لتذكيرنا بما فعله البعثيون فهؤلاء فاشيون وضربوا الشعب بشكل مباشر، لكن هذا لايكفي للحصول على صفة الدمقراطية.
3- ان تقديرنا لوطنية عبد الكريم قاسم ونزاهته وتفانيه لا يفقدنا القدرة على تشخيص ممارساته الفردية، حيث لم يكن صاحب برنامج بناء سياسي لهذا البلد، وهو الأهم لأن كل المكتسبات الاخرى يمكن ان تزول او تتلاشى بعد سقوط التجربة. لقد غُيبت الانتخابات ولم تقدم السلطة على خطوات واضحة لتثبيت مبدأ تحكيم الشعب، بل فرض قاسم نفسه كسلطة فردية في الأساس. فهو يُسلط محكمة عسكرية على الخصوم ولكنه يعفي عن أخطر المجرمين الذين أرادوا قتله ودمروا الوطن
فيما بعد، ويتحالف مع الحزب الشيوعي مرة ويطارد مناضليه مرة اخرى ويرحب بالملا مصطفى البارزاني مرة، ثم يحرك الجيش لضرب الأكراد عند حصول خلاف جدي معه، ثم يريد احتلال الكويت، بقرار فردي أيضاً. كان قاسم يدير الدولة العراقية كما يقود ربانٌ سفينته بالعين المجردة ومن دون ملاح.
4- - والأخطر من هذا كله ان عهد عبد الكريم قاسم شهد بداية تقليص كيان الدولة وتنامي مفهوم السلطة الحاكمة بالغلبة، فبعد فترة بداية البناء السياسي الذي شهدها العراق أيام الملكية، رغم كل المآخذ عليها، فتحت الممارسات الفردية الباب امام ممارسات دكتاتورية دمرت ثوابت المجتمع العراقي تدريجياً وأصبحت الحياة جحيماً لا يطاق، وصار العراقيون بعد أقل من ربع قرن، يترحمون على أيام الملكية، رغم عدم ايمانهم بها ومحبتهم لشخص عبد الكريم قاسم.. ولنأخذ أمثلة بسيطة ومعبرة عن تجاوز القانون والثوابت من قبل السلطة :
- تجاوز السلطة لقواعد النظام التربوي، فقرار الزحف أي إنجاح الطلاب بقرار سياسي فتح المجال أمام تدخل أكبر الى ان وصلنا الى منح الشهادات أيام صدام حسين التي منحت أيضاً الدرجات لتتجاوز معدلات البعض 110 او 120 على 100 !!
- المحاكم الخاصة، حيث لم يستفد منها قاسم لتصفية معارضيه ولكنه أضر بكيان العراق، حيث أصبحت المحاكم "الثورية" هي القاعدة الى ان وصلنا الى محاكمات صورية يُعدم بقراراتها خيرة
أبناء العراق دون أي رادع قضائي.

تذكرة :
أن الأوضاع الخطيرة التي تمر بها مجتمعاتنا اليوم لا تسمح بالاكتفاء بالذكريات والتباكي على ما مر من مصائب. وفيما يخص موضوعنا، فان أساس البلاء في العراق ان هناك، من جهة، من يقدس ثورة 14 تموز دون تقبل النقد الحقيقي لما جرى، ومن جهة اخرى، هناك من يعاديها ولا يحب ان يسمع عنها شيئاً. وهذا السلوك المتخندق مدان في العراق، كما في غيره، لأنه يمنع الفكر من أداء دوره في تنشيط العقل البشري وفي تحريك المجتمع نحو تبادل الآراء والتوحد على أساس فهم متقارب عفوياً، اي من خلال حركة ثقافية حقيقية في المجتمع إزاء الوقائع المختلفة. ويكون الفكر متقارباً لأنه موضوعي لا سياسي وقائم على نوايا حقيقية في المعرفة لا على التشبث بمواقف ايديولوجية وأحكام مسبقة.
ان التخلص من الطريقة السلفية الاقصائية التي نعاني منها اليوم في مجال الفكر الاسلاموي التدميري (اي السلفي الوهابي)، مطروح كقضية مصيرية منذ عصور القمع الأموي وصولاً للاستبداد العثماني. وفي الأزمنة الحديثة، حصل نفس الابتلاء مع الفكر القومي والفكر الشيوعي لأن ممارسة الاقصاء هي حالة اجتماعية-ثقافية وليست حكراً على جهة معينة. فرغم الاختلاف طبعاً في حدة الاقصاء وطرق تنفيذه، نجد تراث الأحزاب السياسية الحديثة والحداثية مليئة بممارسات الاقصاء لسبب أو آخر.
إن الوصول الى هذا الأساس المشترك (القائم على الموضوعية وتقبل الاختلاف) هو الذي سيخلصنا من الطابع المأساوي الذي نضفيه منذ القدم على اختلافاتنا في التقييمات والمواقف وهو الذي سيخلصنا من سرطان الفكر الاسلامي والثقافة العربية (القديمة والحديثة) المتمثل برغبتنا الدائمة والمَرَضية في اقناع الآخر برأينا، وإلا فهو.. خائن او متخلف او طائفي، او برجوازي صغير، او مرتد (يستحق القتل !)، الخ.

دكتوراه دولة في العلوم السياسية/ باريس
[email protected]

عبدالخالق حسين : قالوا عن الزعيم عبدالكريم قاسم


حسين كركوش: 14 تموز 1958

فالح الحمراني: 14 تموز: الثورة المغدورة

عزيز الحاج: 14 تموز: زعيم ظلمناه حيا ونفتقده اليوم

مصطفى محمد غريب: هل كانت ثورة 14 تموز انقلاباً عسكرياً...