-1-
وصفت الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف (إيلاف، 15/7/2005) الصمت العربي ازاء قتل العراقيين بأنه مخجل. وقالت الحوزة العلمية إن الصمت العربي المخجل إزاء مذابح الاطفال العراقيين يعيد شحن ذاكرة العراقيين مجددًا بمذابح أهل البيت. وإنه لمن المؤسف حقاً أن تدين المنظمات الدولية، وقادة وزعماء العالم هذه المجزرة الجديدة، ويصمت قادة وزعماء وأئمة وعلماء وبرلمانات ومنظمات جماهيرية عربية عنها، فلا تحرك ساكناً.
فلماذا تأمل الحوزة العلمية في النجف الأشرف، أن يحرك العرب شعوباً وحكومات ساكناً تجاه شعب العراق، الذي انتشر في أرضه وباء الإرهاب؟
وهل الحوزة العلمية الموقرة تعيش في اليوتوبيا العربية، أو في القرن الثاني أو الثالث والعشرين العربي، وليس في القرن الثامن عشر العربي الآن؟

-2-

ألا ترى الحوزة العلمية الموقرة، كيف ترتجف بعض الأنظمة العربية خوفاً ورعباً مما جرى في العراق؟ وكيف تتسابق على الصلاح والإصلاح السياسي ما وسعهم ذلك سبيلاً؟
فمرة يتحابون مع المعارضة ويأخذونها بالأحضان. ومرة ينسحبون من مناطق احتلوها لعشرات السنين. ومرة يعطون حقاً للمرأة كان مُعطلاً منذ سنوات. ومرة يقرون دساتير لم يكن معترفاً بها منذ الأزل. ومرة ينهون حروباً داخلية وأهلية ناشبة منذ سنوات طويلة، ويحتكمون إلى العقل والمصالحة الوطنية. ومرة يستنكفون عن الترشح لولايات قادمة أخرى. ومرة يعدّلون الدساتير لكي يصبح انتخاب الحاكم انتخاباً شعبياً تنافسياً وليس استفتاءً. وهذه الثورات السياسية الكبرى التي حدثت في العالم العربي خلال عامين فقط (2003-2005) بعد فجر العراق الجديد، كان لها أثر سياسي أكبر من الأثر الذي احدثته العهود السياسية العربية منذ عهد معاوية بن أبي سفيان وحتى عهد عبد الناصر. ولكن هذا الأثر السياسي انطمس واختفى. "فالقليل جداً يُسمع عن العملية السياسية ، التي لو قُدر لها النجاح لأصبحت هناك قيمة للحياة الانسانية. ولكن في ظل العنف والفوضى وانعدام القانون لا توجد قيمة لشيء حتى لبني البشر. فبعد الانتخابات التي تمت في يناير توقع الشعب العراقي ان يقدم له السياسيون شيئاً ما يُحسّن من حياتهم . ولكن الذي حدث أن هؤلاء السياسيين التهوا بالعراك حول الحقائب الوزارية، ودمج السُنّة في العملية السياسية، رغم أنهم قاطعوا الانتخابات. " كما قال ديفيد ثوارتون في مقاله ( القنابل تنفجر، والناس يموتون ، والساسة يتفرجون )، (نشرة "المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب" ، 21/7/2005).

-3-
هذا ما فعله العراق الجديد بالعرب، أيتها الحوزة العلمية الموقرة.
فكيف تريدين أيتها الحوزة الموقرة، من الحكومات العرب أن تنجد العرق من الوصوليين (وليس الأصوليين) الإرهابيين؟
فهم وصوليون أصوليون إرهابيون حقاً، عندما يمارسون الإرهاب في العراق لا بنية اخراج المحتل، ولكن بنية تثبيت قواعد المحتل. لذا، فهم يقتلون العرسان في أفراحهم، والمصلين في مساجدهم، والفقهاء في حوزاتهم، ورجال الأمن في مراكزهم ومراكز تطوعهم، والناس في أسواقهم، والطلبة في مدارسهم، والأساتذة أمام طلابهم، وممثلي الشعب في جمعياتهم، وواضعي الدستور في محاريبهم السياسية. وهم ضد الحرية والديمقراطية والانتخابات التشريعية والدستور.
فكيف نكون ضد الاحتلال، وضد كل هذه القيم النبيلة في الوقت نفسه؟

-4-
إنهم الوصوليون الأصوليون الإرهابيون أيتها الحوزة العلمية الموقرة.
والمثقفون العرب من يمين ويسار ووسط، هم في غالبيتهم ضد ما جرى ويجري في العراق من انعتاق ووفاق واتفاق.
بعض الأنظمة العربية، تريد أن ترى العراق يحترق كل يوم، وكل ساعة عن بكرة أبيه، حتى تقول لشعوبها المقهورة والمقموعة: أنظروا ماذا سيجري في بلدانكم فيما لو خُلعنا غداً كما خُلع صدام بالأمس.
معظم شيوخ الدين لم يدينوا قتلة الأبرياء في العراق الذي بلغ عددهم حتى الآن أكثر من مائة الف شهيد بريء (800 شهرياً). ولم يدينوا أعمال الوصوليين الأصوليين الإرهابيين الوحشية في العراق. بينما قامت قيامة الأشياخ تجاه العمل الإرهابي بسيارة مفخخة في الدوحة، وسارت المسيرات والمظاهرات. وقامت قيامة الأشياخ عندما اختطف وقتل السفير المصري في العراق ايهاب الشريف. وقبل ذلك كله، كانت غالبية العرب تصمت صمت القبور، حيال كل مأساة وجريمة قتل ترتكب في العراق.
بل إن الإعلام العربي الظلامي، كان يتسابق تسابق الضباع على الفطيسة، لكي تتصدر نشرات أخباره حوادث القتل والإرهاب في العراق. وأصبحت الصورة الأولى، والخبر الأول، والتعليق الأول في الإعلام العربي : مقتل 20، 30، 40، 50، 60، 70، 80، 90 عراقياً اليوم في بغداد، في الفلوجة، في المسيب، في كركوك، في اربيل، في البصرة، في النجف الأشرف، في الرمادي. ولم يخبرنا هذا الإعلام بالمقابل عدد المدارس التي انشئت، وعدد المستشفيات التي اقيمت، وعدد المعاهد التي جُهِّزت، وعدد المرافق التي شُغِّلت، وعدد الطرق التي مُهدت، وعدد الصحف والمحطات الاعلامية التي سُمحت، وعدد الانجازات المعمارية والتنموية التحتية الأخرى والمختلفة التي تحققت.

-5-
أصبح "طابع الدمغة" العراقي على الخطاب العراقي، هو دم الأبرياء، وجثث الشهداء من الأبرياء من الأطفال والنساء.
أصبح الإرهاب في العراق شرعياً بل من صُلب الشرع.
ولكن أي شرع؟
إنه شرع بعض فقهاء الدين، وليس شرع الإسلام. فقد أصبح الإسلام اليوم ومن قبل كذلك إسلامين اثنين: إسلام محمد عليه السلام النقي الإنساني، وإسلام فقهاء السلاطين والوصوليين الأصوليين الإرهابيين من الأصوليين المرهبين. فقد ارتبط الإسلام بالفقهاء والسلاطين المتسلطين ، وتحوّل إسلام محمد عليه السلام، إلى خيمة واسعة لقرارات السلاطين ومراسيم السلاطين وحريم السلاطين، وأصبح السلطان حامي الخيمة والفقهاء حرّاسها. وأصبح الإسلام هو كل ما يخرج من تحت هذه الخيمة، وما عداه كفر وزندقة وردة.
أصبحت هيئة علماء السُنّة العراقية، هيئة علماء الإرهاب الوصوليين. والدليل، أنه لو عُرض على رئيسها الشيخ حارث الضاري رئاسة الجمهورية العراقية الجديدة بدلاً من جلال الطالباني، لخلع العمّة والجبّة وجرى على أربعٍ لكرسي الرئاسة. واعتبر الإرهاب ارهاباً، والقتل جريمة، والخطف اغتصاباً، والمقاومة نصباً واحتيالاً. ولكن ما أن اغتال الارهابيون ثلاثة من أعضاء صياغة الدستور السُنّة حتى انسحب باقي أعضاء السُنّة، بدلاً من أن يتحدوا الموت والإرهاب ويثبتوا في مقاعدهم التشريعية الرفيعة.
محا معظم المثقفين والإعلاميين العرب صورة دجلة والفرات من خارطة العراق، ووضعوا بدلاً منها صورة نهري الدم والموات.
محا معظم المثقفين والإعلاميين العرب صور نخيل العراق الباسق، وصور قامات النخيل، ووضعوا بدلاً منها صور الزرقاوي والصفراوي والحمراوي وقوافل الشهداء الذين يسقطون كل يوم من الشعب العراقي الجبار.

أصبح المثقفون العرب خمس فئات:
1. فئة تُعبّر عن رأيها بحرية، وتجد نفسها في زنزانة اعادة التأهيل التابعة لقائد الأمة ورمز نضالها. وهذه أقل الفئات عدداً.
2. فئة تُعبّر عن رأيها بحرية وشجاعة وبسالة، وتجد السكين تندس في ظهرها أو رقبتها (نجيب محفوظ) أو الرصاصة تمزق جسمها (فرج فودة، حسين مروة، مهدي عامل) أو تُعلّق على المشانق (سيد قطب، محمود طه) أو تقدم للمحاكمة ارهاباً وتخويفاً (صادق جلال العظم، سعد الدين ابراهيم، أحمد البغدادي).
3. فئة تتراجع عن أفكارها وقيمها ومبادئها جبناً وخوفاً من بطش الغوغاء، وحفاظاً على حياتها (طه حسين، خالد محمد خالد، سيد القمني).
4. فئة متعاونة مع السلطة للحصول على مناصب ومراتب. وهذه هي غالبية المثقفين العرب اليوم.
5. فئة هاربة ومنفية في بلاد الغربة، بعيدة عن أهلها خوفاً من البطش والقتل. (نصر حامد ابو زيد، أحمد صبحي منصور، أحمد أبو مطر، وآلاف من المثقفين العراقيين والسوريين واليمنيين والليبيين والمغاربة).

-6-
لا أحد يُنكر أن صمت قبور العرب تجاه العراق ليس سببه كله العرب.
فلا أحد يُنكر أن السياسيين العراقيين الحاليين، يتحملون جزءاً كبيراً من مآساة العراق الآن.
ولا أحد يُنكر أن السياسيين العراقيين منقسمون على أنفسهم عرقياً ومذهبياً، ويواجهون مهمة خطيرة وعويصة في نفس الوقت، وهي ايجاد إطار سياسي للسلام .
فكلما طال تسويف هؤلاء الساسة، وكلما تفاقم خلافهم، واشتد صراعهم على كراسي الحكم، تجرأ الأصوليون الوصوليون الإرهابيون على توجيه المزيد من اللطمات للجميع. وهذا سيدفع الائتلاف ليتساءل هل يستحق العراق كل هذا الالتزام المُكلف مادياً وبشرياً؟
وهنا تقع الكارثة التي ما بعدها من كارثة.

[email protected]