ان صدور مسودة الدستور العراقي في الجريدة الرسمية، شكل مؤشرا على ان العراق يقف من جديد على مفترق طرق. فالدستور يحدد مسار نظام الدولة وآلية حكم الشعب لفترة زمنية غير محدودة وتكون له حرمة تمنع المساس به.والدستور هو البوصلة التي ستحدد فيما اذا ان العراق سائر نحو نظام ديمقراطي حقيقي، ام نحو نموذج لدولة لاتتجاوب وقيم العصر.
ولايسعني بالمناسبة الا ان الجأ للمقارنة بين حالة اعداد الدستور العراقي وبين تجربة وضع دستور لروسيا خلفا لدستور الاتحاد السوفياتي السابق في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين. فقد سارع الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين لاستثمار ظروف شاذة في البلد لسن دستوره، مستثمرا الفراغ السياسي الذي نشأ، لكي يشرع الية حماية سلطته بالدستور ويضع الاسس القانونية لها.وجاء ذلك في فترة عصيبة نصب يلتسين بها نفسه حاكما مطلقا على البلد، بعدما طرد البرلمان( المنتخب) بالدبابات. فعين بمرسوم منه الموالين له من المشرعين والساسة لسن دستور ليكون خيمة له يتظلل تحتها دون منافس، ويضع( في المواد التي تتعلق بالنظام السياسي للبلد) الاسوار الفاصلة من اجل ان لا تتجاسر يد التطاول على حكمه. فاصبح من الصعوبة اقالته من منصبه وفق الدستور، وهمش دولا البرلمان ومؤسسة القضاء والمحكمة الدستورية، وجمع بيده سلطات وصلاحيات قورنت بسلطات قيصر روسيا. ان دستوره تحول الى عقبة كأداء امام اقامة نظام ديمقراطي حقيقي في روسيا. وصوتت الجماهير الروسية المغيبة على الدستور دون ان تقرأه او تتعرف عليه.وكانها ليست هي المعنية به، وانما النخب الحاكمة وحسب. لذلك فالدستور الروسي وفر حماية قوية لاهل الحكم وخدمة مصالحهم.ولانه دستور وضع في حالة استثنائية، حالة من الفوضى، ظلت الشكوك تحوم حول شرعية السلطة التي وضعته (رغم انها كانت منتخبة)، وانه مازال مثار جدل لحد اليوم. ونسمع بين الفينة والاخرى اصوات تدعو الى اعادة النظر فيه، واخرى احداث تغيرات في هذه المادة او تلك. ولكن غريزة الحفاظ على الاستقرار والهدوء في البلد، وعدم جرها الى جولة جديدة من الصراع قد تلحق بها مصير الاتحاد السوفياتي السابق، تحول دون تورط النخب السياسية بتصحيح ما اقترفه يلتسين من اخطاء، وتتجنب اجراء تغيرات على الدستور المعمول به. علما بان الدستور الروسي من ناحية الصياغة والشكل بفوق بكثير نص مشروع الدستور العراقي.
ان الدستور العراقي بصيغته الراهنة محتوم عليه بالفشل، بالفشل المعنوي لانه لم يتجاوب واستحقاقات مرحلة ما بعد انهيار النظام الديكتاتوري، وثمة احتمال كبير انه سيفشل خلال الاستفتاء عليه وسيفشل في انه سيكون القاسم المشترك الذي سيجتمع عليه العراقيون . لذلك ليس امام الخبراء القانونيين والساسة المعنيين العراقيين في خارج البلد من سبيل الا المسارعة بعقد مؤتمر ذd صبغة دولية مكرس للنظر في مشروع الدستور، ورفع توصيات جادة للقيادة العراقية والمنظمات الدولية لاعادة النظر فيه، فتمرير دستور كهذا سيمهد حقا لسبيل نحو الهاوية، بطابع شرعي.
حينما نخلص من قراءة مشروع الدستور العراقي لابد ان نشعر بالصدمة ونصل الى قناعة الى ان الصدفة لعبت دورها في التطورات التي اعقبت انهيار النظام الديكتاتوري، وان البديل الديمقراطي( الحقيقي) المطلوب لم يجد له سبيلا للسلطة في عاصمة الرشيد. لقد سُرقت الديمقراطية، او بالاحرى تم الاحتيال عليها. ويبدو انها استثمرت من قبل قوى (لاتؤمن بالديمقراطية) للاستئثار بالسلطة. وبالتالي قوى وكانها تعمل اساسا لاضفاء مفهوم ضيق على الديمقراطية، وتقزيمها نهائيا في ارض الرافدين. ان وصول قوى معينة عن طريق الانتخابات وحصولها على الاغلبية البرلمانية لايعني بتاتا انها تمتلك الحقيقة التاريخية، فالجماهير العراقية مازالت تحت وطأة تداعيات 30 عاما من الاستبداد والطغيان،وشبح الدكتاتور مخيم عليها، انها لم تتلمس طريقها بعد، تعاني من انفلات الامن وضبابية افاق المستقبل وانقطاع الكهرباء وشحة المياه الصالحة للشرب في قيض الصيف وتدهور مستوى المعيشة وتضيق بدولة تعيش تحت الانقاض. فهل يمكن سن دستور حقيقي وعادل وموضوعي في ظل هذه الظروف قطعا، كلا. الا اذا كانت النوايا صادقة والشعور بالمسؤولية عالي جدا، وثمة تجرد من "الانا" لصالح "النحن". ومن الصعب كتابة الدساتير في مراحل الفوضى والمنعطفات والتباس الامور، ومن الافضل ان تُسن في ظل اوضاع هادئة. ومن الجلي ان الوضع الناشب ترك اثاره الواضحة على النص الدستوري فجاء بلغة انشائية فجة في بعض موادها، وليست لغة قانونية صارمة ودقيقة. الدستور عادة يُكتب لوضع المبادئ العامة وليس لمتطلبات مرحلة عابرة ومؤقتة، او لصالح فئة او حزب او شريحة اجتماعية. ان الدساتير تكتب لمرحلة زمنية طويلة، وللشعب باجمعه ككيان واحد اته بسشترف المستقبل.انه مدعو لرص صف الامة لاوضع الفواصل وخطوط التقسيم.لهذا لايمكن الخوض في نصها في مفردات الحياة اليومية الراهنة التي ستناط بحسمها للقضاء في ضوء مبادئ القانون الاساسي (الدستور). كل هذه الامور يفتقدها مشروع الدستور العراقي. وكانه كتب على عجل وراء الكواليس مثلما كتب يلتسين دستوره، ولم يشرك في سنه وكتابته اكبر دائرة ممكنة من الاخصائيين والخبراء العراقيين فاضاع عليه الانتفاع من تجربة غنية. ولذلك فانه جاء وكأن جماعة راحت تصوغة بعجلة تحت جنح الظلام من اجل ان تضع الجميع امام الامر الواقع ولابد من اقراره.
ويتولد انطباع ان واضعي الدستور بشكله الحالي يراهنون دون ادنى شك، على ان المجتمع العراقي مازال مغيبا او مقصيا عن القرار السياسي، وان هناك فئة ركبت الموجة تستثمر ورقة مؤثرة بشخص "الحوزة العلمية" الموقرة التي تثق الجماهير بها، وسوف يصوت غالبية الناخبين في الاستفتاء على الدستور دون ان تقرأه او تعرف نصه، فهي ليست بحاجة لذلك مادامت "الحوزة العلمية" الموقرة قراءته واقرته عنها. ولكن هذا بعني السير بالعراق نحو طريق مسدود آخر. ان انفراج ازمة العراق تكمن في اعادة هيكلة الدولة، أي بناء مؤسسات جديدة وابعاد يد الماضي الجاثمة على العقول والمؤسسات. ولكن مشروع الدستور لايحدث الطفرة المطلوبه نحو افاق جديدة للعراق.انه يجمد تحرك العراق عند مرحلة زمنية فات اوانها.
- آخر تحديث :
التعليقات