فاجأ رئيس ولاية نيو ساوث ويلز السيد بوب كار أعضاء حزبه العمالي وسكان الولاية باستقالته، لا لشيء، إلا لأنه استمتع بالمناظر الخلابة، بعد يوم واحد قضاه هو وزوجته في أرجاء الطبيعة، بعيداً عن الحكم، وأحس، لأول مرة، أنه خسر الكثير من الأيام الطبيعية الجميلة طوال عشرين سنة قضاها في الحكم، وهذا ما لا يغفره لنفسه.
يوم واحد جميل وهادىء كان كافياً لأشهر زعيم عمالي بتاريخ أستراليا، وأطولهم حكماً، كي يقدّم استقالته، حتى لا يحرم بعد الآن من النزهات في أرجاء الطبيعة، فاضي البال، مشرق الوجه، وبعيداً، كل البعد، عن الأضواء وهموم الحكم. حياته الخاصة تأتي أولاً، بعد أن أعطى بلاده أجمل وأنضر سني حياته، أفلا يحق له التنزه والترحال من مكان إلى آخر دون إزعاج، أو دون مطاردة الصحفيين له؟ بلى والله.
هكذا يفكّر الرؤساء في الغرب، إذ أن رئاستهم وظيفة، متى ضجروا منها استقالوا، وفتّشوا عن عمل آخر. وكم ستكون دهشة القراء العرب قوية إذا أخبرتهم أن أحد الرؤساء الأستراليين (نيفيل راين) عاف الحكم من أجل تأسيس وكالة لتنظيف المكاتب، أي أنه أصبح زبالاً بعد أن كان رئيساً، دون أن يرف له جفن، أو أن تنقص قيمته الإجتماعية أو الحزبية، فالتجارة عند الغربيين أهم من الحكم، طالما أن الحكم لا يدوم، والتجارة باقية.
أما في دولنا العربية التعيسة، فالرؤساء لا يستقيلون من مراكزهم، ولو عمّت التظاهرات البلاد، وانتهك الدستور، وصاح مليون مواطن كفى، واحتجت جميع وسائل الإعلام وفندت أخطاءهم، هم متمسكون بالحكم، شاء من شاء، وأبى من أبى، لا تهمهم النزهات كبوب كار، ولا جمال الطبيعة، حتى ولا تأسيس تجارة كذاك الرئيس السابق، والزبّال الحالي بشرف ما بعده شرف.
منذ أسبوعين، زغردت الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وأقيمت الحفلات الغنائية الراقصة، ودبجت مئات المقالات الأدبية والسياسية والقصائد العصماء، حين أعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أنه لن يترشح للرئاسة في الدورة المقبلة، أي أن شهوراً طويلة ستنقضي قبل أن يصبح الوعد حقيقة، خلالها سيخلق الله للشعب اليمني ما لا يعلم، وها هي الأحداث تترى، والتظاهرات تعم البلاد، والمستشفيات تنوء بالقتلى والجرحى من الشعب الفقير، المغلوب على أمره، والرئيس ينتظر الإنتخابات القادمة، هذا إذا حصلت تلك الإنتخابات.
كان على الرئيس اليمني، لو كان جاداً، أن يدعو إلى مؤتمر صحفي مفاجىء، كما دعا بوب كار، ويعلن استقالته، عندئذ يحق لنا تمجيده وحرق البخور تحت أقدامه. بوب كار حاكم شجاع أما علي عبد الله صالح فمتردد وطامع بالحكم.. ولو لأشهر قليلة، هذا إذا صدق بوعده.
أما إذا تطلعنا صوب مصر، فنجد أن الرئيس حسني مبارك قد ناهز السابعة والسبعين من العمر، ومع ذلك فهو يطمع بست سنوات إضافية توصله إلى الثلاثة والثمانين، أو إلى القبر، لا سمح الله، دون أن يفكّر براحته، بصحته، بعائلته، بكتابة مذكراته أو بالتنزه في أرجاء الطبيعة الخلابة دون حرس أو مرافقين، صحيح أن الحياة حلوة، ولكن الحكم بنظره أحلى،أما يقول المثل: لو آلت لغيرك لما وصلت لك، فلماذا يسلمه لغيره على طبق من ذهب، طالما أن بإمكانه الاحتفاظ به إلى أن يأمر ربه.
عجيب أمر رؤساؤنا في الوطن العربي، نتعب منه ومن مناظرهم، ولا يتعبون منا، يريدون أن يحكموننا، ولو بالقوة، إلى أبد الآبدين، بينما الرؤساء في الغرب، فيتعبون من الحكم، قبل أن يتعب منهم، ويرتاحون من أعبائه قبل أن يريحهم شعبهم، أو الله تعالى.. هم يعرفون حدودهم فيتوقفون عندها، ولذلك يخلدهم التاريخ، أما رؤساؤنا فيخجل التاريخ من ذكر سيئاتهم.. وهل عند من يتمسك بالحكم حد الجنون من حسنات؟ بالطبع لا.
- آخر تحديث :
التعليقات