جاءت اللجنة و ذهبت اللجنة، و اجتمعت اللجنة و اتفقت، ثم اختلفت و عادت فأتفقت، و قاطع السنة ثم عاد السنة، و احتج الاكراد ثم صمت الاكراد، و بعد مخاض تكبدت فيه اللجنة حياة اثنين من اعضائها، و جدل طويل شابه ما رافق تشكيل حكومة الجعفري اتت بالدستور المقترح، و يا ليتها لم تأت به، و لم تجتمع و لم تتفق و لم تختلف و لم تفقد من فقدت..
في بلد يعيش ازمة أمنية و اقتصادية و اجتماعية متفجرة، و تتلاعب به جميع اجهزة مخابرات العالم، و تنهش من لحمه كل الاسماء و الاشكال و الافعال، و يشمت بدماء شبابه و شيوخه جميع الاشقاء و الأخوة و الجيران، لا ارى موجبا للعجلة في صياغة دستور دائم و ما زال ابناء الوطن الواحد في صراع مخفي أو معلن، و ما زال المواطن بحاجة الى ما هو أكثر أولوية بكثير.. فما زالت هناك مشاكل الكهرباء و الماء و الوقود و الأرهاب و الجريمة و المخدرات و التدخل الخارجي و العبث الداخلي و الفساد الاداري و الدين المسيس و سيطرة الميليشيات على الشارع و غياب هيبة الدولة و الخدمات المتردية و تدهور قطاعات التربية و التعليم و الصحة و المياه و البيئة،و العجز عن النهوض بحملة الاعمار سواء بالامكانات الداخلية أو باموال الدعم الخارجي، و الفشل حتى في اعادة خدمات الطيران المنتظمة من و الى البلاد، و اختلاط الاوراق السياسية فلم يعد الوطن يعرف من هو العدو و من هو الصديق، و الغموض الواضح في التعامل مع الوعود السابقة لسقوط النظام السابق من قبيل التعددية و الديموقراطية، و غموض الموقف الاميركي و البريطاني و غيرها الكثير، و جميعها أولى بالحل و التسوية قبل تخصيص كل هذه الموارد لكتابة الدستور الذي يمكن أن يتأجل الى وقت لاحق يمكن عنده اشراك عقول قانونية حقيقية في صياغته في ظرف آمن و مستقر، تسبقه قراءة عميقة للدساتير العراقية السابقة و العالمية و حتى العربية التي تتشابه ظروفها و ظروفنا،و هو ما اشك في حدوثه، في ضوء ما قرأته في وثيقة هزيلة مهلهلة لغويا و قانونيا و موضوعيا ابتداء من ديباجتها و انتهاء بآخر فقرة منها.
بدأت كتابة مسودة الدستور وسط ضجيج اعلامي يتحدث عن "التوافق" و "الحريات" و الكثير من الوعود، بدون اشراك الإعلام و الصحافة و النخب العراقية و المثقفين و ممثلي فئات و طبقات الشعب المختلفة و قواها السياسية و المهنية، و بدون نقاش علني كما يجري في الدول المتحضرة (و في هذه الاخيرة عذر، فلسنا دولة متحضرة)، و اتسعت لجنة الصياغة و ضمت اعضاء جدد ، الا ان احدا لم يفصح عما يجري في تلك الكواليس التي علمنا بأن خلفها خبراء اجانب يساعدون في "الجانب الفني" من عملية الصياغة! ثم ظهر الوليد الى الوجود، معاقا ذهنيا و بدنيا، و بدا واضحا بأن الجهد المبذول في صياغته الركيكة لا يبرر كل هذا الضجيج و النفقات و الخسائر البشرية. لقد بدت المسودة متشحة بلون واحد و مصاغة من اتجاه سياسي واحد و لا توافق فيه و لا هم يحزنون، و بأن المطلوب هو تمريره عبر استفتاء بالفتوى، كما هو الحال في الانتخابات السابقة التي احتل فيه كتاب الدستور الجديد البرلمان و الحكومة بالفتوى كذلك..و النتيجة نسخة بديلة مشوهة من الجارة الايرانية تفتقد أية خصوصية عراقية أولا، و تفتقر الى كل الوعود السابقة عن الحرية المزعومة و الديموقراطية الآتية في بلد التعدد و الحضارات.
و عودة الى النص الذي اشبعه الزملاء نقدا و تشريحا، و بعد الديباجة الضعيفة الصياغة، يأتي اسم الجمهورية المستنسخ ايرانيا، فلا معنى لذكر اسم الدولة مقرونا بدين ما لم يكن النظام القائم فيها دينيا، و لا ادري ان كان اسم الدولة القديم "الجمهورية العراقية" (قبل ان يحوله صدام الى جمهورية العراق لعقد ذكورية معروفة) فيه انتقاص من الاسلام كدين و هل نحتاج في عهود الحريات و المساواة و دول المواطنة ان نشير الى دين الاغلبية في كل تفصيلة دستورية ابتداء من اسم دولة لشعب متعدد المشارب و الاتجاهات و الطوائف و القوميات، و لا سبيل لدولة عصرية تحترم شعبها و تلونه و تعدده ان تطلق اسما يحصر هويتها بدين من اديانها حتى و لو كان دين الأغلبية. فمسألة الأكثرية و الأقلية الدينية و المذهبية هي من مخلفات عصور الفتوحات و السيطرة الدينية و القومية و المذهبية على الشعوب، و قد تخلت أغلب شعوب العالم عن هذا النوع من التقسيم السياس يو الاجتماعي و استبدلتها بدولة المواطنة ذات الحقوق و الواجبات المتساوية بغض النظر عن الدين و القومية و الجنس.
و استمر هذا المفهوم الذي بدأ من الأسم عبر فقرات الدستور منحدرا الى "دين الدولة الرسمي" و هو ما اشبعناه نقاشا منذ سنوات ، فلا يعلم أحد كيف يمكن ان يكون للدولة الديموقراطية دين رسمي ، و ما هي الاديان غير الرسمية، و نصف الرسمية و ربع الرسمية.. فإن كان ذلك من باب العطل الرسمية و الاجازات و العياد، فمن الممكن ان تنظم القوانين ذلك على اعتبار الأغلبية الاسلامية في المجتمع، اما الدستور فيكفيه و يزيدة فخرا ان يذكر ان العراق دولة ديموقراطية يتمتع ابناؤه بحرية العقيدة و العبادة و الانتماء السياسي و الديني و ما الى ذلك، بدلا من ترك الباب مواربا لسحق الحريات الفردية و الجماعية تحت مسمى دستوري بات منقرضا، و كيف يمكن لقضاء عادل ان ينشأ في ظل "دين رسمي" للدولة نصف أو أغلب القضاء فيه يسكون شرعيا معمما لا مدنيا، كما رأينا من نماذج في النجف و الفلوجة. أما ادعاء النص باحترام الاديان الاخرى فهو الاخر من أيام الفتح و الجزية، فعلى الدستور النص بأن اتباع جميع الاديان متساوون في الحقوق في الواجبات، فلا منة من احد على احد في الوطن.
مشكلتنا ، نحن ابناء العربية، بأن لغتنا فيها من اللف و الدوران و المواربة الكثير، و ما اسهل صياغة الجمل الفخمة الشكل و الفارغة المعنى ، حيث يقول النص بأن هذا الدستور يصون الهوية الاسلامية للشعب العراقي ، كيف و لماذا ؟ لا نعلم، و هل هذا مدخل لمصادرة الفن و الادب و حتى العلم بأسم "صيانة الهوية" ، و من يا ترى سيكون مسؤولا عن هذه "الصيانة" ؟ و لم يكتف النص بذلك بل انحدر حتى الى الطائفية المقيتة الضيقة عندما يتحدث في نفس فقرة "الصيانة " عن الشعب العراقي و هويته "الاسلامية باكثريته الشيعية و سنته" و هي من أعجب فقرات هذا الدستور الغريب، و لم يسبق لأي دستور عراقي سابق ان انحدر الى هذا المستوى من تفتيت ليس للمواطنة فقط و انما الى تفكيك الدين ذاته مذهبيا. ثم قفز النص الى احتقار و تهميش آخر للمواطنة مقسما الشعب الى قوميات رئيسية و غير رئيسية (بما فيها القومية الفارسية!) مع ملاحظة ان الايزيدية و الصابئة ادرجا بدون "ال" التعريف تهميشا مقصودا ام غير مقصود، الله و اعضاء لجنة الصياغة أعلم.. اما مسيحيو العراق (ناهيك عن الاديان الاخرى) فلهم الله ، ، فلم يذكرهم النص حتى بنصف كلمة، و ان ذكر الكلدان و الارمن و الاثوريين و السريان كقوميات، متناسيا بأن هنالك مسيحيون من العرب و الاكراد و القوميات الاخرى في العراق.. و لمل هذا التعقيد الذي سيؤدي الى المزيد من التعقيدات كان يمكن حله ببساطة بالاكتفاء بذكر المواطن العراقي بدون اية اضافات، مما كان سيشمل الجميع، مثلما تفعل اية دولة تحترم مواطنيها..
اما اقحام المرجعية الدينية والعتبات المقدسة في الدستور فهي نكتة سخيفة تسئ الى المرجعية و لا تزكيها و تكرس وجودها السياسي الذي سيقود الى ولاية الفقيه سيئة الصيت أخيرا.. فالمرجعية تعني جزءا من الشعب العراقي و لا تعنيه كله، و لتا ادري كيف يسمح كاتبوا النص بكل هذا الاختزال للشعب العراقي في خانة مذهبية واحدة.

الجانب السياسي
لا عجب و ان لا يحتوي النص بتاتا على مصطلحي "الديموقراطية" و "التداول السلمي للسلطة"، فمن كتب النص انما كتبه لسلطة معينة لا توجد هذه التعبيرات في قاموسها. فلا تداول لسطة قائمة على الحق الالهي و فتاوى الأئمة و الشريعة الاسلامية، و لا يسمح مثل هذا النظام لجماعة اخرى ان تأتي الى السلطة فتهدم ما بناه.. اما الديموقراطية فلا داعي لذكرها لأن كاتب النص قد ذكر الانتخابات، و الانتخابات في ذهن هذه الايديولوجيا هي كل الديموقراطية و منتهاها..
و بالطبع، و بالرغم من ذكره الاسلام مصدرا رئيسيا للتشريع، فانه يعود و يذكر بأن الشعب مصدر السلطات جميعا، و هذا دليل على جهل أو تجاهل كاتب النص بأن هذين المفهومين لا يتفقان ، ففي فقه الاسلام السياسي فإن القرآن و السنة هما مصدر السلطات ، اما في الانظمة الديموقراطية فهو الشعب و برلمانه و قانونه الوضعي و في هذا مؤشر على تجميع العبارات كيفيا و بدون تمحيص لدى كاتب النص، الذي يعود و يذكر العراق جزءا من الأمة العربية و الاسلامية.. و هذه العبارة هي الاخرى موضع جدل كبير، فالانتماء العربي قد صبغته الايديولوجيا البعثية و الناصرية بطابع سياسي ، كما صبغت الايديولوجيا الايرانية و السعودية مسألة الانتماء للأمة الاسلامية بطابع سياسي ايضا كل على طريقته. فان تكون جزءا من الكيان الجغرافي و اللغوي العربي شئ، و ان تكون ملتزما سياسيا تجاه "الأمة العربية" وفق الايديولوجيات القومية شئ آخر ، و هذا ما ينطبق على الأمة الاسلامية كذلك. و كان من الاحرى بكاتب النص ان يتجنب هذا الاشكال في هذه المادة والمواد التالية بالاستناد الى فقه المصلحة و يعرّف العراق بأنه دولة تقيم علاقاتها بالعالم على اساس المصلحة الوطنية و ووفق القوانين و المعاهدات الدولية الى اخر الحديث عن السلم و التعاون.. الخ.

المرأة
و من المتوقع ان يتجاهل كاتب النص، نظرا لطبيعته السياسية و الدينية، اي حديث عن ميثاق الأمم المتحدة أو الاعلان العالمي لحقوق الانسان و غيرها من الصكوك الدولية بل و ذهب الى ابعد من ذلك حين يقول بأن العراقي يتمتع بالحقوق الواردة في المواثيق الدولية بما لا يتعارض مع احكام الاسلام!! و لا أراه يشير الا الى الاعلان العالمي لحقوق الانسان و ما يخص حرية العقيدة بالذات، و بالتأكيد الى مساواة المرأة بالرجل في الاعلان و معاهدات اخرى مثل اتفاقيات مكافحة التمييز و العنف ضد المرأة. و في الواقع فإن ما فشل فيه عبد العزيز الحكيم اثناء ترؤسه لمجلس الحكم المؤقت في محاولة تمرير قانونه سئ الصيت للاحوال الشخصية بسبب ردة الفعل النسوية العراقية و قرار بول بريمر ، قد عاد كاتب النص محاولا تشريعه دستوريا عندما حدد حق المرأة و مساواتها بالرجل باحكام الشريعة الاسلامية حصرا، و في هذا ما يغني عن أي جدل في الموضوع.
لقد اصر النص و بسماجة احيانا على اقحام الدولة الدينية في كل شأن خاص و عام ، فيذكر بأن الدولة ترعى الأسرة، و "تحافظ الدولة على طابعها العراقي الأصيل القائم على المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والوطنية"، اما كيف تحافظ الدولة على الطابع الديني و الاخلاقي للاسرة ففي هذا كلام و كلام.. بالاضافة الى عبارة "الآداب " التي تقفز في النص هنا و هناك والتي تحتاج الى تعريف. و للجانب القانوني و الجمعية الوطنية و الاقاليم حديث لاحق..
ان واجب العراقيين المتنورين جميعا، من مختلف الملل و النحل و الاتجاهات ارسال هذه الوثيقة ، ان تم اقرارها، الى القمامة و العمل على تناول مسالة الوطن بمزيد من الجدية قبل ان يسبق السيف العذل و نقرأ الفاتحة على العراق.