لم يكن الملك فهد ملكاً عابراً في التاريخ السعودي في كل حقبه الثلاث، التي تمتد الآن لما يقارب من الثلاثمائة سنة . كان زعيماً استثنائياً بكل المقاييس، سواء من حيث التغيير النوعي الذي شهدته المملكة في عهده، أو قدرته السياسية الفذة على قيادة السفينة السعودية في أحلك المواقف وأقسى الظروف التي مرت بها الدولة السعودية إبان حكمه لها.
كان الملك فهد منذ أن تولى الملك خالد رحمه الله سدة الحكم، وتولى هو ولاية العهد، ونيابة مجلس الوزراء، أو السلطة التنفيذية في البلاد، وهو يضطلعُ بمهام إدارية عليا، استطاع من خلالها تأسيس (الدولة الحديثة)، المستقرة أمنياً، و اقتصادياً ، والنافذة سياسياً ، سواء على المستوى الإقليمي الذي تنتمي إليه، أو على المستوى العالمي الذي كانت المملكة تشكل فيه إحدى أهم الدول المؤثرة في الاستقرار الاقتصاد العالمي من خلال امتلاكها لما يقارب أكثر من الربع من احتياطيات العالم للنفط ، وكونها بالتالي الدولة الأولى الأكبر المصدرة للنفط في العالم. هذا إضافة على وجود الحرمين الشريفين على أراضيها، الأمر الذي أضاف لمكانتها الاقتصادية مكانة دينية وسياسية أيضاً، مما جعل (الرياض) في التحليل الأخير إحدى أهم العواصم المؤثرة في القرار بين العواصم العالمية.
ارتفاع أسعار النفط بعد حرب 73 أثناء عهد الملك فيصل رحمه الله، كان نقطة البداية للنهضة الاقتصادية والتنموية التي أينعت ثمارها إبان عصر الملك خالد ، وتولي الملك فهد مسؤولياته القيادية في السلطة التنفيذية، ومن ثم تنصيبه ملكاً على البلاد عام 82 م ، واستمرار عجلة التنمية الاقتصادية، أدى هذا الاستقرار إلى استقرار في المقابل أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وكان كل ذلك يعود إلى أن (الإستراتيجية السعودية) في صناعة القرار، سواء في الداخل أو في الخارج، تتم على أسس (تكاملية) بين الملك السلف و الملك الخلف، منذ عصر المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز رحمه الله . وكان (الشعار) الذي يرفعه الجميع : (نعم للتطوير، ولا للتغيير) . ثبات الإستراتيجيات في تاريخ المملكة، وتغيّر التكتيكات، على مدى عقود في المملكة، ومواكبة التغيّرات بتطوير الوسائل وثبات الأهداف، جعلَ المملكة (ظاهرة) فريدة في المنطقة، التي عرفت كل دولها تقريباً تحولات، (حادة) سواء في السابق بين معسكري اليسار واليمين، أو حالياً عندما أصبح (التمسح) بالقطب الواحد هو شعار المرحلة . راهنت المملكة على (إستراتيجية ثابتة) ، وراهن غيرها على تجارب أخرى، وثبت الآن أن رهان المملكة (الإستراتيجي) كان بمثابة الجواد الذي كسب الرهان، في حين خسر الآخرون .
عصر الملك خالد رحمه الله، وعصر الملك فهد بالذات، ارتبطا ارتباطا حميمياً (بالتنمية) . حيثُ عرفَ الإنسان السعودي نقلة نوعية عميقة في رفاهه الاقتصادي والخدماتي . فقد كانت البلاد تحتاج إلى بنية تحتية، من شأنها أن تكون الأساس للنهضة الاقتصادية التي كانَ الملك فهد رحمه الله يضعها نصب عينيه، فالحضارة أولاً و أخيراً اقتصاد. ودونما بنية تحتية اقتصادية قوية فليسَ ثمة حضارة . كانت هذه (معادلة) الملك فهدالتي كانت واضحة المعالم في ذهنه، وكانت هي بالنسبة إليه ليست مجرد (شعار) فحسب، وإنما ممارسة أيضاً . ولأن التحضر يبدأ من صناعة الإنسان، ولأنه كان أصلاً رجل (تعليم)، بدأ بتهيئة الإنسان السعودي لأسطورة التنمية التي كانت (حلمه) الأول . ففي عهده لم يبقَ قرية في أقاصي الصحراء، أو في أعالي الجبال إلا و وصلتها (المدرسة) وحلّ بين أهلها (المعلم) . وكان للتعليم الجامعي النصيب الأكبر أيضاً . ولم يكتف الملك فهد بالتعليم الجامعي في الداخل، وإنما فتحت الأبواب على مصاريعها للسعوديين للإبتعاث إلى الخارج، وبالذات إلى أمريكا و أوربا. وكان كل ذلك بالنسبة للملك فهد بمثابة حجر الزاوية للخطط التنموية الطموحة التي أدت فيما بعد إلى ما تشهده المملكة اليوم من ازدهار اقتصادي وخدماتي، قلّ أن تجد مثيلاً لها في المنطقة . ولعل مدينتي (الجبيل) و (ينبع) الصناعيتين، التي كانت إحدى منجزات الملك فهد، تشهد على ما أقول . يكفي أن تعرف أن (عوائد) مصانع هاتين المدينتين تربوا على (عوائد) إقتصاد كثير من الدول الناطقة بالعربية، بما فيها بعض الدول التي كانت توصف قديماً (بالتقدمية)!.
على المستوى السياسي أصدرَ الملك فهد أهم قرار مؤسساتي، دخلَ بالمملكة عصر المأسسة السياسية، وتوسيع قاعدة التمثيل الشعبي، من خلال إصداره النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الشورى ، ونظام المناطق . وكانت هذه القرارات بمثابة (التغيّر) النوعي و الجوهري في أسلوب وطريقة الحكم في المملكة . فقد وسع صناعة القرار، وأسبغ عليه صبغة (المشاركة الشعبية)، الأمر الذي سارَ بالبلاد خطوة مهمة وتاريخية نحو دولة المؤسسات.
وفي عهده واجهت المملكة أقسى ما تواجهه الدول في تاريخها من أخطار . ولعلّ الأزمة الأخطر كانت عندما (غزا) صدام الكويت، وامتدت قواته كوحش كاسر على حدود المملكة الشمالية، كان ذلك في2 أغسطس عام 1990 . فاتخذ القرار الأصعب و الأعظم والأهم في تاريخ المملكة، وقاد المملكة بهذا القرار الحكيم إلى بر النجاة والبقاء . وفي 1 أغسطس 2005 أغمض عينيه ونام ! .. وبين أول أغسطس 90 وبين أول أغسطس 2005 م تمتد 15 سنة بالتمام والكمال، بين القرار (الخالد) وبين ( لقاء ربه) مطمئناً على بلدٍ أحبها و أحبته، وعملَ لها فرفعهُ أهلها على أعناقهم .. استلم أمانتها حرة كبيرة شامخة، وسلمها ترفلُ في ثياب الصحة والعافية والأمن والاستقرار والشموخ والإباء.
فإلى رحمة الله أيها الخالد في القلوب إلى الأبد.
- آخر تحديث :
التعليقات