.. بعد ذلك أُفضلُ الحديث بـ "الجلفي" العراقي. سأبتعد قليلا عن لغة القانون. سأنسى أربع سنوات جامعية في كلية القانون والسياسة "كلية الحقوق" في بغداد 74 ـ 79. عندما كانت حقا كلية تعّلم الحقوق والقوانين قبل أن يحولها البعث الفاشستي، مع غيرها من الصروح العلمية العراقية إلى ميادين مغلقة انتهى بها الأمر إلى الجهل والفقر العلمي في غاية مدروسة لإرساء صفة التخلف على سمات هذا الوطن والمجتمع الذي هو مصدر النور للآخرين. سأنسى تسريح الدكتور إبراهيم كبة، الوزير الكفء في حكومة عبد الكريم قاسم للاقتصاد، وموته الغريب. سأنسى تسريح الدكتور هاشم الطعان، الحقوقي العراقي البارز. سأنسى مقتل الدكتور البعثي اللامع يونس العزاوي وحرقه في شارع فلسطين، سأنسى تهميش شخصية قومية بارزة كالدكتور وميض نظمي وهو عميد الكلية. سأنسى اللواء خير الله طلفاح ورئيس المخابرات العراقية برزان التكريتي عندما كنا طلابنا في ذات المراحل الدراسية. سأنسى المواطن العراقي مجيد علي الراضي محافظ القادسية عندما كان يغش في الامتحانات وطرده الدكتور هاشم الطعان من القاعة. سأنسى محمد أحمد حسن البكر الطالب في المرحلة الدراسية الثالثة الذي مات في حادث سيارة على طريق بغداد ـ تكريت وكأن أبوه رئيسا للجمهورية العراقية. سأنسى كل ذلك التاريخ القديم، لكن الذي أريد الاحتفاظ بذكراه دائما هو الأمل الحقيقي بعراق سالم وسليم رغم جميع هذه الحالات التعسفية التي أقحمت نفسها، وأقحمت موروثاتها المتخلفة بوجه العراق الحديث. وكان جليا أن يشعر المواطن العراقي، مهما كان موقعه في المجتمع، بالخوف والرهبة والاعتداء السافر على حقوق الناس والمواطنين بعد المذبحة التي أرتكبها صدام حسين "السيد النائب" بحق جمهرة من كادر حزب البعث العربي الاشتراكي تحت ذريعة "العمالة لسورية" تموز عام 1979.
أصبح ذلك من التاريخ الآن. كيف؟ ولماذا؟
كانت مادة "الدساتير" من المواد التي درسناها ونحن طلاب في الكلية. بالإضافة إلى مواد تختص بالشأن الدولي، كمادة "المنظمات الدولية" و "القانون الدولي" وغيرها من المواد التي لم أعد أتذكرها الآن.
الذي كان يستهوينا، نحن طلاب المعرفة، هو الإطلاع على العالم. على دساتير العالم، على قوانين العالم. وبشيء من الحياء والخجل كنا ننظر إلى الواقع الذي نعيشه تلك الأيام. إذ أن المسافة الفاصلة بيننا وبين العالم المتمدن قانونيا من حيث حقوق المواطن المنصوص عليها في الدساتير الأخرى تُثير السخرية. كيف لا نشعر بذلك والسيد عزت الدوري وهو بمنصب نائب رئيس الجمهورية، والحاصل على شهادة المتوسطة العامة بغير جدارة من الدولة، ولم يكمل المرحلة الإعدادية بسبب الكفاح الحزبي، قد قال للصحافة ووسائل الإعلام العراقية حينذاك: "نحن دولة لها تقاليد خاصة". وكان يشرف شخصيا على قص الشعر الطويل للفتيان وصبغ سيقان الفتيات بالقطران في شوارع العاصمة بغداد.
بعد قليل استولى حزب البعث الاشتراكي على جميع مرافق الدولة واقنيتها وروافدها الحيوية. لقد تم ذلك في نظام دكتاتوري قمعي مجرم لا يعرف القانون ولا يعرف الحرمات ولا الحقوق الخاصة بالمواطن. فهل نتجه في ظل العهد الجديد إلى مصادرة هذه الحقوق مرة أخرى؟ باسم القانون هذه المرة؟

الاحتقان السياسي في مسودة الدستور

لا يجب بأي شكل من الأشكال أن يتم التعبير عن فحوى سياسية في نصوص دستورية. الدستور هو الضامن القانوني لحرية العمل السياسي وحرية تكوين الأحزاب السياسية والاجتماعية.
لا يجوز دستوريا وضع قائمة بماهية الأحزاب والمنظمات أو بفكرها وعقائدها. يصعب على القوانين الدستورية المعاصرة والديموقراطية حضر النشاط السياسي والمدني. ولم تنجح أكثر التجارب الدستورية تقدما في العالم، منها من ذاق شر الويلات من التجارب السياسية المريرة، كالأحزاب والمنظمات النازية في ألمانيا والفاشستية في إيطاليا، أن يتوصلوا إلى وضع قاعدة دستورية واقعية تحضر مثل هذه النشاطات. ترك الدستور الحرية للمواطنين عبر ممثليهم وحكوماتهم المنتخبة حضر مثل هذه النشاطات العنصرية التي تعتمد العرق والدين للتصنيف بين المواطنين.
عند مطالعة الفقرات الواردة في المسودة المعدة للدستور العراقي نقرأ، عدا عن حزب البعث، أسم المجرم صدام حسين. تلك هي مجرد ضحالة سياسية لا تليق بكتابة مواد دستورية. المواد الدستورية هي مواد أساسية. لا يخضع الأساس للماضي إلا بما يوجب وضعه كأساس. أما الحالات السياسية المتقلبة فتلك لا تُذكر في مواد الدستور. فضلا عن ذلك كله، كيف يتسنى لقانونين عراقيين كلفهم الشعب بوضع خريطة مستقبلية لتاريخه القادم، كيف بهم يجرءون على كتابة أسم مجرم مثل صدام حسين في وثيقة تاريخية مستقبلية حتى وإن كان من باب الذم؟ هذه القضايا السياسية والاحتقان الطائفي المذهبي بعيدة كامل البعد عن العقلية القانونية لكتابة الدستور. فقرة واحدة يجب أن يلخصها الدستور بدون أي رتوش:
•ضمان حرية تشكيل الأحزاب والمنظمات والنقابات على أسس ديموقراطية ومهنية.
هذا نابع من هاجس الاحتقان السياسي الذي مر به العراق وشعبة في المراحل الماضية. لا يجب أن ينعكس هذا الاحتقان في نصوص دستورية. إنما يجب وضع همزة وصل بين أحسن ما توصلت إليه الدساتير السابقة، منذ دستور الملكية عام 1925 مرورا بالدستور المؤقت للجمهورية العراقية عام 1959 حتى الدستور المؤقت لما بعد التغيير عام 1968.

(لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى). هكذا أوصى القرآن الكريم. أين هذه الكلمة الربانية من أناس يدعون الدين وهم يوغلون بالتفرقة بين الناس، بل بين المواطنين أنفسهم على أساس وهمي وخاص كتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية؟ المسلم الذي في البصرة ليس هو كما المسلم في الموصل. والمسلم في موريتانيا ليس كما هو المسلم في الصين. كفانا أنه مسلم. ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ هل سيحاسب الدستور العراقي القادم مَنْ يأخذ بصيغة زواج المتعة، أو الذي يقول بالقتل بحد السيف في المذهب الآخر؟ تلك أمور لا شأن للدستور ولا لمواده القانونية بها. تلك أمور ينظمها المفتون حسب شريعتهم وفتاواهم المحلية الخاصة بعيدا عن قاعدة الدستور الأساسية التي تضمن الحرية للجميع ولا تدع أحدا يسلط سيف بطشه وبطش عقيدته الفكرية أو السياسية أو الدينية على الآخر.
يقول قائل: لماذا تخاف الدين؟
لا نخاف الدين؛ الدين الحقيقي ليس مصدر خوف. بل هو مصدر طمأنينة. لكننا نخاف من جهلة الدين.
ما هو نفع أربعة عقود من الكفاح والقتال بالسلاح والكلمة ضد نظام استبدادي إذا تم تغييره بالنتيجة و"بضمان" فقرات دستورية مشوهة ستمنعني من الكتابة وستمنعني من القراءة وستفرض عليّ أنواع العبادة؟
ما هو شكل المستقبل عندما أرى حالي، أنا المواطن العراقي، كمواطن إيراني في الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي لا يتمتع بأية حقوق فكرية أو سياسية أو عقائدية؟ بل حتى لا تسمح له السلطات ارتداء قميص بنص كم، وعلى المرأة يُفرض الحجاب قسرا؟ ذلك عندما ينص دستور بلدي على ذلك من قبل ملالي يتزوجون أربع مرات بفتيات قاصرات باسم الدين والشريعة؟ ويحلون البغاء الشرعي تحت تشريع فقهي يُعرف بـ "زواج المتعة".
ما نفع دستور يُكتب في بنوده .. "العراق بأكثريته الشيعية"..؟ تلك هي مهزلة بحق. لا فرق بين مواطن ومواطن في بلد واحد سوى أن كان يتبع أكثرية أو أقلية. خصوصا عندما يتشدق الكتبة المتحذلقون بمبدأ "المساواة أمام القانون" من باب التورية. هذا عار قانوني ناتج عن احتقان ديني، بل طائفي بحت، ليس له سند دستوري في جميع دساتير العالم. الدستور يضمن حقوق جميع المواطنين على السواء ويجب ألا يميز بين أكثرية أو أقلية.

نعود للمرة الأخرى إلى القول أن الانتخابات التي جرت في كانون الثاني /يناير 2004 والتي أوصلت هذه القوى التي تزاد الشكوك بمصداقيتها ببناء عراق ديموقراطي يكفل الحريات العامة لجميع المواطنين بغض النظر عن ديانتهم وقوميتهم ومذاهبهم، هذه الانتخابات لا تعبر بالضرورة عن قبول المواطن العراقي ببديل أسوء من عهد الاستبداد الماضي. نحن نكافح هذه العنصرية الدينية والطائفية بشتى السبل. ولا نسمح بتكرار عهود الظلام العقائدي تحت مختلف المسميات والشعارات.
"لا" كبيرة للمسودة السوداء للدستور العراقي.
نعم لدستور وطني عراقي حضاري
أبعدوا رجال الدين عن صياغة الدستور. الدين لله والوطن للجميع.