"الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" (الشيخ المتصوف نجم الدين كبرى الخوارزمي)
-1-
في التراث الإنساني يمكن أن نلاحظ أن ظهور أي حركة دينية أو أجتماعية اصلاحية جديدة تواجه بعنف وقوة من قبل الإتجاه السائد والمهيمن الذي يعتبر المجموعات الخارجة عن نطاقه وهيمنته : جاهلية ، كافرة ، مهرطقة ، على غير الصراط المستقيم الصحيح والوحيد . هكذا نشأت البوذية كردة فعل ضد الهندوسية المغلقة والمسيحية وصفت نفسها بالمتممة والمصححة لليهودية (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس . ما جئت لأنقض بل لأكمل) والتي تفرعت- لاحقا - حسب الموقف اللاهوتي من التراث اليهودي وشرائعه إلى المسيحية والنصرانية ، في حين أعتبر الإسلام نفسه كعودة لصفاء الينابيع الإبراهيمية الاولى( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) وفي كل مرة يواجه الدين الغريب والجديد بنفس التهم فهو كفر وهرطقة ومروق عن الدين وضلالة وانحراف عن العقيدة الصحيحة الممثلة للإيمان ، والأديان الجديدة المستضعفة بعد أن تهيمن وتسيطر تستعيد نفس الآلية الإقصائية تجاه اي حركات دينية تختلف معها .
-2-
يطالب الدكتور محمد عبدالمطلب الهوني بتسمية المذاهب الدينية داخل الإسلام بالديانات فهناك الدين الشيعي والدين السني والدين الخارجي المنتميات للدين الأم وهذا الكلام غير سليم ولو عكس لأصاب فالدين ظاهرة واحدة له تجليات مختلفة فنفس الأديان - نحصر الحديث باليهودية والمسيحية والإسلام ألان - هي طوائف دينية أختلفت حول النبع الإبراهيمي الأم والتمثيل للعقيدة الصحيحة والتخاصم حول مخزونها الرمزي فاليهودية والمسيحية والإسلام هي طوائف تشبه السنة والشيعة والخوارج داخل الإسلام !! فبدلا من أن نحاول تضخيم المذاهب داخل دين ما إلى أديان مستقلة فالأصح أن ندرس الديانات كطوائف ومذاهب داخل الظاهرة الدينية الأصل !
-3-
في النزاعات الدينية اللاهوتية حاولت كل طائفة دينية أن تبرهن على أنها حاملة العقيدة الصحيحة وأنها الطريق الوحيد الممثل للنجاة في العالم الآخر وبالتالي فالخارج عن خطها هالك ومصيره الجحيم في الآخرة والإستعباد والإذلال والقتل في الدنيا وكم عانت البشرية جراء ذلك من حروب دينية وويلات مدمرة . وإذا كانت بعض الطوائف الدينية في العالم استطاعت أن تُعيد النظر بتلك القاعدة اللاهوتية التي تحتكر حق النجاة لنفسها فإننا كمسلمين لم نقم بأي دراسة نقدية لتلك القاعدة للتخلص منها وإحلال قاعدة لاهوتية جديدة محلها فالمسلم إلى اليوم يعتقد بشكل دوغمائي جازم أن الإسلام هو الطريق الوحيد للنجاة في الآخرة بل ونجد أن المسلم السني يعتقد أن النجاة له وفقط والمسلم الشيعي يعتقد أن النجاة له وفقط أنطلاقا من مقولة الفرقة الناجية !
-4-
الإله هو لجميع البشر وليس لطائفة دينية أو ملة أونحلة خاصة والنجاة ليست محصورة بطائفة دينية أو مذهب ما فكل إنسان يطلب الوصول إلى الإله بطريق وكل الطرق مؤدية إليه ومن جميل ما يذكره المؤرخون أن الإمام علي بن ابي طالب في طريق عودته من حرب النهروان أراد أن يغتسل فقال له اصحابه إن ها هنا خرائب كنيسة . فقال أحد جنده : مكان طالما أشرك الله به . فقال له علي : بل قل : مكان طالما عُبد الله به . فليس من مؤمن ضمن مختلف الطوائف إلا وهو يرغب بالوصول إلى الله و ما ثم دينٌ ، أعلى من دينٍ قام على المحبة والشوق لمن أُدين به كما يقول العارف المتصوف الشيخ محي الدين بن عربي الذي صاغ تلك الفكرة الرائعة شعرا :
لقد كنتُ قبلَ اليومَ أُنكر صاحبى * إذا لم يكُنْ دينى إلى دينه دانى
وقَدْ صار قلبى قابلاً كل صُـــورةٍ * فمرعى لغزلانٍ وديـرٌ لرهبــانِ
وبيتٍ لأوثانٍ وكعبـةِ طــــائـــفٍ * وألواحِ تـوراةٍ ومُصحفِ قُرآنِ
-5-
نحن كمسلمين عندما نطالب بتأسيس قاعدة لاهوتية جديدة لا تحتكر حق النجاة وتحصره في الإسلام فإننا ننطلق من تراثنا الذي يضم الجواهر والدرر الرائعة فالقرآن يقول( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )البقرة / 62 . وقريب منها ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) المائدة / 69 . وكذا : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل شيء شهيد ) الحج / 17.
يذكر محمد حسين الطباطبائي - أهم مفسر لدى المسلمين في العصر الحديث حسب فهمي - في تفسير ه (تكرار الإيمان ثانيا و هو الاتصاف بحقيقته كما يعطيه السياق يفيد أن المراد بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالإيمان ظاهرا المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الأسماء و التسمي بها مثل المؤمنين و اليهود و النصارى و الصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا و لا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، و إنما ملاك الأمر و سبب الكرامة و السعادة حقيقة الإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و لذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى و هذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة و الكرامة تدور مدار العبودية، فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسميه شيئا.... إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر ) الميزان في تفسير القرآن المجلد الأول : تفسير سورة البقرة آية 62 .
-6-
إن وجود القاعدة اللاهوتية الجديدة سيفتح الأفق أمام المسلمين للتخلص من الأحكام الموروثة والمبنية على القاعدة القديمة المولدة للكراهيات فنتخلص من شحنات مسلم وكافر إلى بلورة تقسيم المؤمنين إلى مسلمين وغير مسلمين ، ونتخلص من أحكام الطهارة والنجاسة لغير المسلمين وفتح باب المصاهرات بين المسلمين وغيرهم للطرفين الذكوري والأنثوي ومسائل الطعام والأغذية وسائر المشكلات التي تتحدث عن الردة والقتال التي تمتلئ بها مدونات الفقه المبنية على قواعد لاهوتية رثة وبالية لم يفتح الباب لإعادة النظر بقيمتها ودراستها بشكل نقدي يستثمر المنهجيات اللغوية والتأريخية والاجتماعية والدينية المعاصرة .
-7-
ختاما ينبغي التنبيه أن هناك نصا قرآنيا يقول ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) ومفردة إسلام في هذا النص لا تعني أسم الطائفة الدينية المسلمة التي تتبع تعاليم ووصايا النبي محمد كما يشير ائمة التفسير لذا اقتضى التنويه فهي تشمل مختلف الطوائف ممن اسلمت وجهها لله وأخيرا فإن ( لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم وتسعة وتسعون ليوم القيامة)كما ورد في أحاديث النبي محمد .
التعليقات