شعوب قليلة جدّاً تلك التي حِيكَ عنها هذا القدر من الأساطير والخرافات مثلما حيكَ عن الغجر، فالغموض الكثيف الذي يكتنف أصلهم يتجلّى بشكل واضح في التسميات العديدة التي أطلقتْها عليهم الشعوب التي جاوروها أو مرّوا بها في ترحالهم الأبديّ نحو أرضٍ لن يجدوها أبداً. في الأنجليزية يسمّونهم Gypsies، وبالألمانيّة Zigeuner، في الروسيّة Tsigani ، وفي التشيكيّة Cikani وتُلفظ : Tsigani.
أكتسبت هذه التسميات المتقاربة دلالاتها الصوتية والتاريخية ـ لو عدنا الى الأصول ـ من سوء فهم تأريخي والتباسٍ معرفيّ يردّ أصلَ الغجر الى طائفة Athinganoi، بالأغريقية: الذين لا يُلمسون، وهم طائفة فارسيّة تتكوّن من السحرة والعرّافات كانت قد قدمتْ الى هيلاس Hellas اليونانيّة في القرن الثامن الميلادي.
فرضيّة أخرى لا تقلّ إنتشاراً عن سابقتها تفيد بأنّ الغجر هم اليهود الذين طُوردوا من مصر عبر الصحراء، إلاّ أنّ هذه الأسطورة لها جانبها الأفتراضيّ المعاكس المثير للفضول فعلاً. الإفتراض يقول إنّ الغجر هم أنفسهم المصريّون الذين قاموا بمطاردة اليهود في الصحراء وتاهوا أثناء المطاردة وما زالوا تائهين الى الأن...
الباحث أيان هانكوك Ian Hancock،الأختصاصي في شؤون الغجر يؤكد أن: Gypsy (غجريّ) جاءت من كلمة: Egyptian (مصريّ) وكانت تُطلق قديماً على من هو منتم للبلاد الحارّة أو على كلّ ما هو شرقيّ أو إسلاميّ . بعض قبائل الغجر إستعملت فعلاً هذه التسمية Egyptisk (مصري) لتحديد هويّتها، ففي مقدونيا اشترطت أحدى المجموعات الغجرية قبل بضعة سنين تسجيل أبناءها باعتبارهم (مصريين) لتحديد هويّاتهم القومية في السجلاّت الحكومية.
أماكن أخرى من العالم أعتقد فيها الناس أنّ الغجر جاءوا من القارة المفقودة أطلانطيس، لكنّ الأعتقاد الأوسع الشائع في أذهان عموم الناس هو أنهم لم يكونوا شعباً "حقيقيّاً " أبداً، بل عصبة من المتشردين والمجرمين قامت بصبغ جلودها بعصير الفواكه ليكتسبوا اللون القهوائيّ الذي يحملون، إضافة الى أنّهم يتحدّثون لغة خاصة بهم أوجدوها بأنفسهم كي لا يطّلع أحد على أسرارهم.
في القرون الوسطى كان الأوربيون يعتقدون بأنّ الغجر مؤمنون وأصحاب حقّ مثلما هم حتى أنّ بعض القبائل الغجريّة المترحّلة كانت تحمل معها أذنا خاصّاً من البابا نفسه يبيح لها إقامة معسكراتها حيثما شاءت. لكن حينما أُكتشف فيما بعد أن هذا الأذن كان مزوّراً إنقلبت الأية وصار يُنظر إليهم كمجموعات كافرة تهدّد المسيحيين . الكثير منهم أعتقد أنّ الغجر كانوا جواسيساً، للتتار في البدء ومن ثمّ للأتراك، ومن هنا جاءت تسمية الغجر بالتتار. فمثلاً ما زالت تحمل إحدى مترادفات Tatar باللغة النرويجيّة معنى كلمة "غجر".
في إجتماع الرايخ الألماني عام 1497 حُدّد الغجر كجواسيس للأجانب، حاملي طاعون وخونة للمسيحيّة. وظلّت هذه اللعنة ضاربة بخناقها عليهم في جميع أنحاء أوربا بكلّ ما سيصاحبها من إذلال وتعذيب بشع وبيعهم كرقيق في أسواق النخّاسين. ولم تنته هذه اللعنة ـ هل إنتهت حقّاً؟ ـ إلاّ بمحرقة الهولكوست النازيّة على يدي هتلر، محرقة ذهبَ ضحيتها نصف مليون غجريّ، بأغانيهم ورقصاتهم، بملابسهم الملونة وأقراطهم الفضّية، بعرباتهم وخيولها الهزيلة.... ضحايا لن يسأل عنها أحَد ولن يطالبوا لهم بتعويض ولا حتى بشبرٍ واحدٍ من وطنٍ قوميّ بمساحة مقبرة.
لكن كيف سيتم التخلص من اللعنة؟ زعماء الغجر يودّون تسمية أخرى للخلاص نهائيّاً من هذه اللعنة. ففي عام 1979 أقرّت أحدى مؤتمرات الغجر المقامة في سويسرا تسميه Rom للغجريّ و Roma للجمع، أما لغتهم الأساسيّة فسيسمونها بالرومانيّة Romani !.
لا يستطيع أيّ كان لومَ الغجر على هجر تسميتهم الأولى وانتحال تسميةً تمتّ الى شعب آخر من أجل الخلاص من تبعاتها المرّة، فمفردة "غجر" كانت محمّلة على الدوام بمترادفات سيّئة لا تشرّف أحداً. فقد التصقت عبر التأريخ، في أذهان الناس، بالمتشردين واللصوص، بالشحّاذين والسحرة وقارئات الكفّ، حتى أنّ العديد من الكلمات السيئة التي تزخر بها بعض اللغات ترجع بجذورها الى كلمة "غجر". ففي اللغة السلوفاكيّة يعني الفعل Ciganit : الكذب، وفي التشيكيّة والسلوفاكيّة شيء عاديّ جدّاً أن يُقال (مخادع مثل غجريّ!)، أما عندنا فتحمل كلمة "غجر" ومترادفاتها المحليّة : الكاوَليّة (في العراق) والنـَوَر (في مصر وبلاد الشّام) مدلولات لا أخلاقيّة تنوب مناب الشتيمة للشخص المراد إهانته، شتيمة عادة ما تُطلق لوصف أصحاب الأخلاق المنحطّة والفئات الرذيلة في المجتمع...
بعض المثقفين الغجر والباحثين يعتقدون أنّ تلميع كلمة "غجر" أو إعادة تأهيلها، إن صحّ القول، أفضل بكثير من التخلي عنها وانتحال هويّة أخرى لا تمت لهم بصلةٍ لا من بعيد ولا من قريب. الأختصاصي الصربيّ بشؤون الغجر راد أوليك Rade Uhlik قام بخطوة كبيرة في هذا الأتجاه من خلال جمع أغانيهم وإصدارها في بيوغراد عام 1982 تحت عنوان: أشعار الغجر Ciganska poezija ، شاحناً هذه المفردة من جديد بدلالاتها الشعريّة، معيداً أيّاهم الى حضيرة المخلوقات البشرية التي تغنّي عواطفها وخوفها، هواجسها وآلامها، أعراسها وقصص غرامها المنقعة بالدم. مستعملاً كلمة "غجر" بشكل عامّ ولاعباً على كلمة Rom: رومانيّ، بين فترة وأخرى كمرادفٍ لها، وفقط حينما يريد أن يشير بذلك الى الغجر المنحدرين من رومانيا.
المقال في الأصل جزء من مقدمة لديوان الغجر الذي سيصدر قريباً.
التعليقات