وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ . وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ . سورة الشعراء الآية 192 وما بعدها .

-1-
من المباحث التي شغلت علماء الدين في الطوائف التوحيدية - اليهودية ، المسيحية والإسلام - عموما والفرق والمذاهب الدينية داخل الطائفة الإسلامية خصوصا مبحث صفات الإله فقد أجمعوا على وصف الإله بالمتكلم ولكن أختلفوا جدا في فهم معنى ذلك وقد ( شغلت مسألة الكلام الإِلهي، و أنه ما هو، و هل هو حادث أو قديم، بال العلماء و المفكّرين الإِسلاميين في عصر الخلفاء، و حدثت بسببه مشاجرات بل صدامات دامية ذكرها التاريخ و سجل تفاصيلها و عرفت بـ محنة خلق القرآن ) جعفر السبحاني / الإلهيات ج1 ص189 .ونقصر الحديث عن الطائفة الإسلامية لأن الحدث الإسلامي هو الأكثر تأثيرا على ساحاتنا الاجتماعية والذي يحتاج إلى اشتغال مستمر لتفكيك إنغلاقاته الهائلة .

-2-
يذكر رجال الدين المسلمين تقسيمات مختلفة لصفات الإله ومنها ، صفات ذات الإله وصفات فعله ، والذي يميز بين النوعين أن الصفات الذاتية لا يصح إدخال حرف النفي والسلب عليها بخلاف صفات الفعل فصفات الذات ما تُتنزع من نفس ذات الإله وصفات الفعل ما تُتنزع من فعله . . فيمكنك أن تقول خلق الله كذا ولم يخلق كذا فتصبح الخالقية صفة فعل في حين لا يمكنك أن تقول علم الله كذا ولم يعلم كذا فالعلم صفة ذاتية للإله . وعلى ذلك فعندما نقول كلام الله فأين يمكن أن نضع صفة الكلام ؟؟ هل هي ذاتية للإله أم من صفة فعله ؟؟ فهل الله متكلم بذاته أم ليس بمتكلم بذاته بل خالق للكلام ؟؟

-3-
قالت المعتزلة والشيعة ( أهل العدل والتوحيد ) أن الكلام صفة فعل الله يخلق الكلام لأن القول بأن الكلام من صفات الذات يجعل الموصوف والصفة قديمان وهذا ينافي عقيدة التوحيدويذكرون في مدوناتهم الكثير من الأدلة التي تبين وجهة نظرهم ويلخصها نقلا الحديث المنسوب للإمام علي بن أبي طالب « يُخْبِر لا بلسان و لَهَوات، ويَسْمَعُ لا بخرُوق وادوات، يقول و لا يَلفِظُ... يقول لمن أراد كونه: كن. فيكون، لا بصوت يَقْرَع، و لا بِنداء يُسْمَع، و إنما كلامه سبحانه فِعْلٌ منه أنشأه وَ مَثَّلَهُ، لم يكن من قبل ذلك كائناً، و لو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً» وخالفتهم الاشاعرة والسلفية التي قالت بل صفة الكلام ذاتية وقديمة وأختلفت بياناتهم لمعنى ذلك يقول الإمام السلفي أحمد بن حنبل «والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أَنَّ القرآن مخلوق فهو جَهْمِيّ كافر، و من زعم أَنَّ القرآن كلام الله عزَّ وجل و وقف ولم يقل مخلوق و لا غير مخلوق، فهو أَخبث من الأول. و من زعم أَنَّ أَلفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة، و القرآن كلام الله، فهو جَهْميّ. و من لم يُكَفِّر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم) وحاولت الاشاعرة التمييز بين الكلام اللفظي والكلام النفسي - أنظر كتاب الأنصاف لأبي بكر الباقلاني أو المواقف لعضد الدين الآيجي- ولسنا هنا في مقام تحقيق تلك المقولات وبيان تفاصيلها بقدر عرض وجود الخلاف في مسألة لاهوتية .

-4-
القرآن الكريم خطاب الله ووحيه للبشر والتواصل بين الإله والأنبياء في عملية الوحي هو تواصل غير لغوي ، فعملية الوحي عملية غيبية والنبي الكريم محمد كانت تنتابه حالات خاصة عندما يتلقى الوحي على قلبه وبعد ذلك ينطق بالآيات القرآنية بلسان العرب ولغتهم وهذا ما وصفته السيدة عائشة زوج النبي (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً) وفي التراث الشيعي ( عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه ، قال: قلت لأبي عبد الله- الصادق- عليه السلام : جعلت فداك ، الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أنزل عليه الوحي ؟ فقال: ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلى الله له ، قال ثم قال: تلك النبوة يا زرارة ) . ويذكرون أن هناك وسيطا في بعض الأحيان بين الإله والنبي بظهور جبرائيل الحقيقي أو تجسده بشكل بشري وضمن سياق البحوث التراثية أختلف علماء المسلمين في عملية تلقي الوحي ، فهل كان النبي يتلقى العبارات والجمل بمعانيها وألفاظها أم أن النبي الكريم كان يتلقى المعاني الإلهية ليبينها للناس بلغة العرب أم يوجد حالات آخرى ؟؟ أهم الآراء التي ذكرها رجال الدين المسلمين في ذلك أربعة آراء :
أولا: النبي كان يتلقى الألفاظ والمعاني عن الله ( تارة بشكل مباشر وآخرى عبر جبرائيل والتلقي من جبرائيل ايضا تارة بالحقيقة الروحانية للملاك وآخرى بتجسده بشكل بشري).
ثانيا : النبي كان يتلقى المعاني الإلهية ليقدمها بصياغة تناسب العرب.
ثالثا : أن أمين الوحي جبرائيل كان هو من يقوم بعملية الصياغة للمعاني الإلهية بلسان العرب ليبلغها النبي للناس .
رابعا : إن كلا المعاني والألفاظ من إنشاء النبي الكريم

الرأي الذي أنتشر وسيطر على وعي المؤمنين هو الرأي الأول ، يقول محمد حسين الطباطبائي : ( فلا يعبأ بقول من قال أن الذي نزل به الروح الأمين إنما هو معاني القرآن الكريم ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )كان يعبر عنها بما يطابقها ويحكيها من الألفاظ بلسان عربي واسخف منه قول من قال : إن القرآن بلفظه ومعناه من منشئات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمى الروح الأمين إلى مرتبة منها تسمى القلب ) الميزان في تفسير القرآن ، تفسير سورة الشعراء ، آية 192 . ويمكن مراجعة تفاصيل هذه الاقوال التي بينها السمرقندي في كتاب تأريخ القرآن ص 28 / الدكتور محمد حسين الصغير محكيا عن البرهان للزركشي ج 1 ص 229 والاتقان للسيوطي ج1 ص 126.

-5-
حاول الدكتور نصر حامد ابو زيد أن يشير إلى رأي من قال أن القرآن الكريم هو صياغة النبي البشرية للمعاني الإلهية ونحن نتمنى أن يتم بناء وتعميق تلك الفكرة بتنظير لاهوتي ، فما أحوجنا إلى تأسيس قاعدة لاهوتية جديدة في هذا المضمار خصوصا وأن لها جذورا ضاربة في تراث الطائفة الإسلامية ومقولات فرقها ومذاهبها ولا يكفي أن نذكر أن هناك رأيا يقول بذلك بل الأجدى أن نعمل على تبني قاعدة جديدة والعمل على ترسيخها ونشرها فالباحث المهموم بنشر الوعي ك طبيب ( دوار بطبه ، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه ، يصنع ذلك حيث الحاجة إليه في قلوب عميٍ وآذان صم وألسنة بكم ) كما يقول علي بن ابي طالب . ويغلب على ظني أن القاعدة التي تقول بإلهية المعاني وبشرية الألفاظ الكاشفة عنها هي الأقرب إلى الترجيح في ظرفنا الحضاري الراهن فهي برزخ بين الآراء وأقرب إلى القبول والأنتشار وستفتح لكتابنا الكريم آفاقا واسعة عند التحليل لخطابه وتجذيره في التأريخ وتناول المشكلات المرتبطة بذلك بصورة سليمة وتزامنية خارج نطاق المغالطات التأريخية المنتشرة في الخطاب الديني التبجيلي الذي يقفز على التأريخ ولغته وحقائقه ويريد أن يزعم أن كل شئ وجد في القرآن !! أوالخطاب التشويهي المهاجم الذي يحاول إدانة القرآن والطائفة الإسلامية بمنجزات العصر الحديث فيحاول أن يلصق كل تهم التخلف والهمجية بهما !! وبينهما تضيع الجهود الرصينة.

-6-
ختاما هناك مشكلات كثيرة تتعلق بفهم معنى كلام الله والوحي وبالتالي نتيجة الوحي التي هي النص القرآني خصوصا مع وجود الآيات القرآنية الكثيرة إلتي تناولت هذه الأمور من جوانب مختلفة وقد أجاد الدكتور هشام جعيط في بيان ذلك في دراسته القيمة " الوحي والقرآن والنبوة " فلمن يرغب بالتوسع مراجعته وأخيرا فإن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته كما يقول النبي محمد.