بعد ستة و ثلاثين عاما من الحكم المطلق
هل ينجح العقيد القذافى فى العبور بليبيا نحو العالم الجديد؟ 3/2
تناولت فى الجزء الأول من هذه المقالة تطور السياسة الأمريكية تجاه ليبيا فى المرحلة التى دشنتها مبادرة العقيد القذافى بالتنازل عن برامج تسليحه الغير تقليدية نهاية عام 2003، وما نتج عن ذلك من تسليط ألأضواء فى واشنطن على الملف الليبى من كافة جوانبه واستعرضت، ما اعتقدتها، الأهداف الرئيسية للسياسة الامريكية تجاه ليبيا فى هذه المرحلة.
وكذلك تأثير تصاعد اهمية تحقيق "التحول نحوالديمقراطية" فى المنطقة العربية مع بدء الولاية الثانية للرئيس بوش على السياسة الامريكية تجاه ليبيا، وعلى ترتيب الخطوات التى صار لابد و ان يتخذها نظام الحكم فيها من اجل التطبيع.
كما رصدت بداية ظهور لغة جديدة فى واشنطن تتحدث عن امكانية ان تكون ليبيا " نموذجا" للأخرين فى العالم العربى ليس فقط فى تخلصها من اسلحة الدمار الشامل و لكن ايضا فى تبنيها للتحول السلمى نحو
" الدولة الديمقراطية الحديثة"، وكيف استندت هذه اللغة على خصائص جيوسياسية تؤهل ليبيا لذلك الدور ، وعلى أهمية ليبيا" كرأس جسر" ضرورى ومتاح لأعطاء مثال عملى لنجاح تعاون امريكى عربى من اجل التقدم و التحديث يساهم بقوة فى دفع النظامين الأقليميين فى وادى النيل و شمال افريقيا، حيث يعيش ثلثى العرب، نحو الأصلاح السياسى، ويزيح كذلك بشكل انقلابى الشكوك الرائجة فى المنطقة تجاه الولايات المتحدة ودعواتها للديمقراطية.
وبين انهاء كتابةالجزء الأول والبدء فىاعداد الثانى سافرت الى واشنطن تلبية لدعوة كنت قد قبلتها مسبقا، حيث جمعتنى المناسبة مع واحد من مسئولى الملف الليبى فى الأدارة، و مع تداعيات الحديث وجدت نفسى أساله " ماذا سيكون رد فعلكم ان خرج علينا العقيد القذافى بمبادرة حقيقية و متكاملة وفوريه للتحول نحو الديمقراطية، ؟"، " كيف ستكون استجابتكم لذلك ؟" اجابنى و بدون تفكير " مبادرة متل هذه سوف تحلق فوق رؤوسنا جميعا لكى تذهب مباشرة الى المكتب البيضاوى فى البيت الابيض و تحط مباشرة امام الرئيس الذى سيتولى الرد عليها، اليس هو من يدعوا الى نشر الديمقراطية فى المنطقة و ينتظر النتائج؟" فسألته من جديد " و كيف تعتقد سيكون رده ؟" اجاب" لن اجيب نيابة عن الرئيس و لكنى اتذكر انه قال فى مجال تعليقه على مبادرة ليبيا للتنازل عن اسلحة الدمار الشامل فى ديسمبر 2003، انه اذا اختار الليبيون الأصلاح السياسى فاننا سنساعدهم على ذلك".. ألامر الذى اضاف الى ثقتى بأن قراءتى فى الجزء الأول لطبيعة الحظة الراهنة فى العلاقات الأمريكية الليبية كانت موضوعية الى حد معقول.
الا ان ذلك وحده لايجيب على السؤال الذى بدأنا به وهو" هل ينجح العقيد القذافى فى العبور بليبيا نحو العالم الجديد؟"حتى و ان كان ينقلنا خطوة مهمة فى الطريق للأجابة عنه، فالمؤثر الخارجى، الأمريكى فى هذه الحالة، ومهما بلغت سطوته لن يصنع وحده الاحداث فى الساحة الداخلية، انما هو يتفاعل مع عناصر تلك الساحة و بشكل جدلى لخلق المسار الذى تكون عليه الاحداث، وهولا يستطيع تجاوز تضاريسها او تجاهل حقائقها التى ترسخت عبر مراحل تكوينها السياسى.
فعلى الرغم من ان المؤثر الأمريكى كان المحرك الرئيسى وراء الأحداث التى نراها من" تبليسى" الى "بيروت" ومن" كابول" الى "القاهرة " الا ان تلك الأحداث جاءت مختلفة باختلاف التضاريس و الحقائق السياسية فى كل من نلك العواصم، ألأمر الذى يجعلنا نتوقع ان مسار الأحداث فى ليبيا نحو"الدولةالديمقراطية الحديثة" لابد وان يخضع هو ايضا لشروط الخصوصية الليبية التى ستكون الحكم الرئيسى فى نمط وكيفية الاستجابة للمؤثرالخارجى.
لذلك سأعمل فى هذا الجزء على القاء بعض الضوء على كيفية استجابة الساحة الليبية للدعوات من اجل العبور الى العالم الجديد خلال الفترة القصيرة الماضيه، سواء فى الشارع او من قبل الحكم، و اكتشاف المسافة التى تحركها الوضع فى ليبيا نحو الجسر محاولا تحديد احداثيات اللحظة الراهنة ومدى قربها او بعدها من موقع العبور.
أخيرا اود الأشارة من جديد ان ما احاول ان افعله هنا هو مجرد تفكير علنى بالقلم، او بلوحة ألأزرار.. لا أدعى له اكثر من ذلك.
بوش..لن يعطينا دروسا فى الديمقراطية
مع بداية "الاشتباك السياسى" مع الولايات المتحدة؛ذلك الذى دشنته مبادرة اسلحة الدمار الشامل فى ديسمبر2003، رفع بعض المسئولين فى طرابلس شعار "بوش.. لن يعطينا دروسا فى الديمقراطية" فى محاولة لتحصين النظام ضد التدخل الخارجى فى شئونه الداخلية على نفس طريقة باقى النظم ألأستبدادية العربية التى ترى ان ذلك لا يمس فقط بسياساتها ولكن ايضا بوجودها.
الا ان تلك التصريحات لم تكن كافية لأبعاد الداخل الليبى عن تداعيات هذا المؤثر الجديد الذى جاء ليتحدى العزلة التى فرضها النظام على البلاد منذ النصف الثانى للسبعينات، فقد كانت عزلة ليبيا عن العالم الخارجى ، ربع قرن من الزمان، هى الغطاء الذى جرت تحته كل الممارسات التى انتجت ألأوضاع التى نعيشها اليوم.
ففى ظل هذه العزلة تم ضرب القوى السياسية المستنيرة و انهاء ألأتحادات و النقابات المهنية و تجريد المواطن من كافة حقوقه السياسية عن طريق الغاء القوانين التى تحميه و سن قوانين تجعل حياته رهينة بمشيئة الحاكم، كما لوحق المعارضون فى الداخل و الخارج دون رحمة و ملئت السجون و المعتقلات بسجناء الرأى ونشط الجلادون فى غرف التعذيب، كماعقدت المحاكم الصورية التى ارسلت الناس الى الموت دون اعطائهم الفرصة للدفاع عن حقهم فى الحياة.
وفى ظل هذه العزلة ايضا تم افقار الليبيين و ضرب طبقة وسطى صاعدة من مهنيين وموظفين ورجال أعمال من خلال تجفيف مواردهم المالية عن طريق تجريم النشاط الأقتصادى الخاص وتجريدهم من ملكياتهم و خفض اجورهم الى خمس مستواها عام 1970 مما ادى الى استشراء الجريمة والنشاط الأقتصادى الطفيلى غيرالمشروع الذى ادى بدوره الى انتشار الفساد الأدارى و تفكك البنية الأدارية للدولة و انهيار كافة المؤسسات الأقتصادية والخدمية من تعليمية و صحية و امنية. وفى ظل هذه العزلة كذلك تم حرق الكتب واسكات المثقفين و منع اصدار الصحف و المجلات وتجريم الندوات الفكرية واغلاق المسارح مما ادى الى دخول المجتمع فى مرحلة معتمة تنحسر فيها قيمة المعرفة ألأنسانية والفنون و الآداب لحساب الجهل والخرافة و لتصبح ليبيا مرتعا لأفكار التطرف.
وفى ظلها رابعا.. تعاظم دور اللجان الثورية كأداة حكم تقوم بأرهاب الناس واجبارهم على قبول ما يصدر عن الحاكم، كما ترك لها المجال للتنكيل بهم فى غياب القانون والسيطرة على كافة مفاصل الحياة السياسية و الثقافية وألأمنية وألأعلامية فى البلاد، كما صار الأنضمام اليها المهرب الوحيد لتجنب الفقر، باعتبار اغضاء اللجان الثورية ممن" يقدمون خدمات للثورة"الذين استثناهم الكتاب ألأخضر من المصادرات ألأقتصادية التى شرع لها. فى ظل هذه العزلة اخيرا.. تم تقسيم المجتمع الليبى افقيا الى مستويين ؛
اغلبية ترزخ تحت خط الفقر، تعيش فى ظل انهيار تام للخدمات وندرة السكن، تفتك بها البطالة و الجريمة و المرض، محرومة من كل الحقوق و الحريات العامة تساق عنوة من خلال احتياجها الى عملية سياسية صورية لا يسمح لها فيها الا بالموافقة على ما يعرض وبتبجيل الحاكم.. والا فانهم يسجنون و يعذبون بل و يقتلون بلا حسيب ان اعترضوا.
واقلية متمثلة فى "اوليجاركية حاكمة" تتحولق حول الحاكم المطلق تتولى حماية النظام، مخولة بقمع باقى المواطنين و مداهمة بيوتهم و محال عملهم بل و سجنهم و تعذيبهم و قتلهم ان استحق ألأمر، تتمتع بحصانة تكفل لها الأستيلاء على المال العام والخاص وتبديده، تمنح العطايا مقابل خدماتها ألأمنية لتعيش فى عالم اقتصادى آخر على نمط "فرسان الملك" فى اوروبا او "المماليك" الذين عرفتهم الحقبة ألأقطاعية فى الشرق.
لذلك كان تحدى العزلة يعنى رفع هذا الغطاء ايذانا بمرور ضوء الشمس الى الأقبية المظلمة ووصول الهواء العليل الى الصدورالتى انهكتها روائح الجمود النتنة.
ولم يطل انتظار ذلك كثيرا.. فبعد اقل من ثلاتين يوما من اعلان مبادرة اسلحة الدمار الشامل زار السناتور "بايدن" ليبيا، وعلى الرغم من التعتيم الذى احيط به خطابه الذى القاه فى "سرت"- الذى اعتز بانى شاركت فى كتابته- فقد استطاع من خلال حديثه مع" العقيد القذافى" تحقيق نقطتين فى اتجاه انهاء العزلة ؛
ألأولى عندما نبهه الى ان الشأن الليبى الداخلى بل الديمقراطية وحقوق ألأنسان هى فى بؤرة اهتمام صناع السياسة ألأمريكية وليس اسلحة الدمار الشامل فقط، على اعتبار" ان النظام الذى لا يحترم حقوق مواطنيه لا يمكن ان يحترم حقوق ألآخرين".
و الثانية عندما اقنعه باطلاق سراح المهندس" فتحى الجهمى" الذى سبق و ان اعتقل لمطالبته بالأصلاحات الديمقراطية فى احد المؤتمرات الشعبية.
لقد حملت ألأيام الخمسة عشرة التى شهدت اطلاق "فتحى الجهمى" ثم اعادة القبض عليه، رغم قصر المدة، اربعة دلالات رئيسية ستؤثر فى مسار الأحداث فى ليبيا منذ ذلك الحين :
فهى قد اكدت للجميع تهتك غطاء العزلة نهائيا فى وجه الواقع الجديد، بعد ان عجز فى وقف التواصل اللحظى بين "البيت ألأبيض" فى جادة بنسلفانيا فى واشنطن و بين "فتحى" فى بيته فى شارع" الظل" فى طرابلس.
كما اكدت النداءات العفوية، العصبية والساخنة التى اطلقها" فتحى" من خلال ألأعلام العالمى على خطورة مرحلة الأحتقان التى وصلت اليها ألأمور فى ليبيا و عدم امكان استمرار التعامل معها بالأهمال.
كذلك جسدت احاديثه للقنوات الفضائية التى التقطها الليبيون فى منازلهم بطول البلاد و عرضها عالما جديدا صنعه ابداع ألأنسان فى مجال التقنية تتضاءل امامه امكانيات اجهزة القمع فى تكميم ألأفواه و سد ألآذان و عصب العيون.
و اخيرا و على الرغم من اعادة القبض عليه فان ابعاد" اللجان الثورية" عن الموضوع وتركه للشرطة العادية فى ظل اشراف النيابة العامة يؤكد ان اختيارات جديدة قد زكاها الواقع الجديد امام النظام.
اننى ازعم ان "فتحى الجهمى" واحداث قصته قد ساهمت بدور محورى فى اقناع "العقيد القذافى" بأن ليبيا قد دخلت عهدا جديدا تسوده حقائق تجعله مختلفا عما سبقه، ينبعى عليه التأمل فيها قبل تحديد كيفية التصرف،
فالأبواب التى فتحت لم يعد فى ألأمكان اغلاقها و الضوء الذى يدخل لابد وان يتسبب فى تفتح كثيرمن ألأزهار.
كما ازعم ان "فتحى الجهمى" قد مهد الطريق امام المجتمع الليبى بأسره، رغم الجحود، لكى يكون اكثر جرأة فى المطالبة بحقوقه، وانه كان المعول ألأول الذى انهال على جدار الرعب واحدث فيه شروخا ستؤدى فى النهاية الى انهياره بالتأكيد.
ومنذ ذلك الوقت اخذ الحراك فى المشهد السياسى الليبى يصنع حيوية سياسية، بطيئة و لكن متعاظمة، ليس لها سوابق منذ زمن طويل، فعدا عن ظهور كاتب من طبرق هو "عبد الرازق المنصورى" ينتقد فى مقالاته المنشورة على ألأنترنت النظام و اعتقاله من قبل السلطات، ظهرت العديد من المقالات التى تنتقد خنق الحريات و تدعوا الى مراجعة العملية السياسية، وبدأ المثقفون يعبرون عن افكارهم متخطين بذلك المصادرات التى تمارسها السلطات، و صارت بعض مواقع الأنترنت ملاذا لأولئك الكتاب الذين يريدون التعبير عن آرائهم بقدر معقول من الحرية.
بل ان احد كتاب اللجان الثورية و الذى كان مرشحا لكى يكون نقيبا للكتاب بدأ ينشر مقالاته التى تنتقد النظام بشدة فى احدى المواقع ألألكترونية، مما ادى الى قتله و التنكيل به فى جريمة لم يكشف النظام عن مرتكبيها بعد وان كانت الشواهد تدل على ان من ارتكبها هو من داخله.
كما شهدت النقابات و لأول مرة حالات تمرد ليس فقط على سطوة "اللجان الثورية" ولكن ايضا على امانة مؤتمر الشعب العام و قراراتها، كما حدثت و لأول مرة استقالات و امتناع عن الترشيح من قبل قيادات بعض تلك النقابات.
كذلك تحولت المناسبات ألأجتماعية الى ندوات سياسية مفتوحة تحدى الناس فيها خوفهم المعهود من اجهزة ألأمن و بدأوا يجاهرون بآرائهم تجاه السلطة و ممارساتها.
كما انتقلت هذه الحيويةالى الليبيين فى المنفى حيث بدأ العديد من العناصر المعارضة للحكم فى الظهور العلنى لأنتقاده فى المحافل السياسية ووسائل ألأعلام.
وخرجت قيادات تنظيم" ألأخوان المسلمين" فى ليبيا الى العلن لأول مرة متبنية منهج اصلاحى متدرج و مطالبة باطلاق سراح معتقليها فى السجون الليبية.
كما ادى جهد عدد من قدامى معارضى النظام الى عقد اجتماع فى لندن حظى بتغطية اعلامية متميزة ضم العديد منهم، نتج عنه تكوين جماعة سياسية جديدة، لتكون ثانى اكثر الجماعات السياسية الليبية عددا بعد "ألأخوان المسلمين" تسمى بجماعة" المؤتمر الوطنى للمعارضة الليبية "، يدعو خطابها السياسى، ذو النزعة الملكية، الى ضرورة تنحى "العقيد القذافى " واقامة حكومة مؤقته تشرف على انتخابات عامة لجمعية تأسيسية.
كذلك شهدت العواصم ألأوروبية مظاهرات خرج فيها عشرات الليبين يطالبون بالحريات العامة و ينددون بممارسات النظام فى مناسبات عدة.
ولم تقتصر تلك الحيوية على الشارع بل انتقلت الى الحكم فظهرت فى البداية تصريحات من مسئولين فى النظام تتحدث عن" ان ليبيا على وشك الدخول فى عملية اصلاح شاملة على المستوى الداخلى " و"ان مهمة اللجان الثورية قد انتهت بعد انحسار الأخطار الداخلية و الخارجية التى كانت ليبيا عرضة لها فى الماضى".
ليتطور ذلك الى الغاء محكمة الشعب و بداية الحديث عن الغاء القوانين ألأستثنائية التى سنت لحماية الحكم.
كما قادت بعض الاجراءات ألأنفراجية الخجولة فى المجال ألأقتصادى لمواجهة علنية شهدها "مؤتمر الشعب" بين رئيس الوزراء" شكرى غانم" بأعتباره عراب للأنفتاح ألأقتصادى و بين نائب امين المؤتمر
" احمد ابراهيم" الحريص على تقديم نفسه كحارس للفكر الثورى و مانع للأنحراف عنه.
واخيرا ادت هذه الحيوية الى دخول" سيف ألأسلام" نجل العقيد القذافى الى الساحة بخطاب سياسى اصلاحى يتحدث عن مصالحة وطنية فى ظل دستور وعن استقلال القضاء و ضرورة وجود مجتمع مدنى يستطيع ممارسة دوره بمعزل عن تحكم الدولة.
وهكذا فخلال اقل من عشرون شهرا من الحراك الذى ادى اليه انهاء العزلة نجد ان حيوية جديدة بدأت تدب فى المشهد الليبى، تحمل كل خصوصياته، وتعمل من خلال حقائقه وتضاريسه السياسية و التقافية التى تكونت عبر المراحل السابقة.
نعم.. استطيع ان اجزم ان ليبيا بملايينها الخمسة قد بدأت تستجيب لنداءات العبور، وانها تتحرك ببطء و لكن بثبات نحو الجسر، بل اننى استطيع قياس المسافة التى تحركتها من خلال التعرف على ملامح طور جنينى من تعددية سياسية، لم يعد من الممكن اخفاؤها، بدأت تحل محل الثنائية ألأفقية التى فرضها الحكم المطلق خلال الربع قرن الماضى.
فقد انقسمت ألأوليجاركية الحاكمة تحت وطأة الواقع الجديد و حقائقه الى عدة اطراف سياسية تتباين مواقفها من الحركة نحو الجسر و من عبوره:
فريق ايديولوجى يتخندق فى شعارات المرحلة السابقة خوفا من التغيير و ما قد يسببه له من فقدان لسطوته وما يفرضه عليه من تقديم كشفا للحساب عن جرائم و مخالفات يعاقب عليها القانون، وهو ايضا يعرف انه لايستطيع تحقيق العمل السياسى ألا من حلال التفرد بالسلطة، و لذلك فهو يحاول مقاومة الحركة نحو الجسر.
كما برز ايضا الجيل الثانى لهذه ألأوليجاركية والذى بحكم عمره لم يشارك فى المرحلة السابقة و يرى الوضع بعيون الذى قدم الى هذا العالم و فى فمه ملعقة من الذهب، لذا فهو يريد ان يبدد كل ألأحتقانات و مشاعر الغضب من حوله لأنه لايريد وراثة اعبائها، وهو بذلك داعم الحركة بشرط بقائه على القمة او قربها على ألأقل.
كما برز من هذه الأوليجاركية فريق برجماتى حقق ثراءه من خلال المرحلة السابقة ونتيجة لها دون ان يتورط فى ارتكاب جرائم كبرى و استطاع الصعود اجتماعيا من خلال تراكم الثروة الى نمط مرفه من الحياة لم يعد يحتمل الشعارات الثورية التى اصبحت ألآن تهدد رخائه، لذلك فهو يريد الحركة نحو الجسر و لكن فى ظل نفس السلطة التى اتاحت له تكوين الثروة.
و برز اخيرا منها فريق من التكنوقراط غير منشغل بالسياسة، يعلم من خلال مداركه ان العبور الى العالم الجديد لم يعد اختيارا، لذلك يريد ان يكون جاهزا لتبوء المراكز القيادية عند العبور، لذلك فهو يدفع تحو الحركة و لكن دون التورط فى البحث جديا فى البعد السياسى للآليات التى تعيق الحركة.
اما من صفوف المحكومين فقد برز مثقفون فى الداخل و الخارج يدعون الى ضرورة قبول كافة الوان الطيف السياسى مع اختلافاتها فى العملية السياسية و الأنتقال سلميا الى نموذج تعددى ديمقراطى على النمط الغربى، ولا يمانعون فى ان يتم العبور من خلال تغيير سلمى فى النظام الحالى.
و كذلك تيار سياسى اسلامى يدعوا الى ألأصلاح و قبول التعددية فى ظل قيم و ثوابت سياسية اسلامية،
وهو فى ذلك يرحب بالحركة و لكنه يضع تحفظات على العبور من خلال مفاهيم سياسية تستند الى التفسير الدينى للتاريخ.
و اخيرا طرف سياسى يرى ان الحل يكمن فى نهاية هذا النظام، واستحداث بداية جديدة تقوم على الأفكار العامة لدستور المملكة الليبية، و هو بذلك مع الحركة و لا يرفض ضمنيا العبور الى العالم الجديد.
ينبئ ألأنتقال السريع من بنية ترسخت خلال ربع قرن الى هذا الطور الجنينى من التعددية بان ليبيا من خلال استجابتها الداخلية لنداءات العبور، قد قطعت نحو الجسر مسافة كبيرة، وان وتيرة الحركة فى ألأسابيع القادمة ستكون اسرع، ذلك ان القوى الدافعة نحو التغيير تزداد قوة عن تلك المقاومة له.
" ان جذوة الحرية فى ألأنسان هى اقوى ما فيه وهى تزداد قوة اذا صارت جماعية، اما اذا دعمها انصار الحرية فى العالم فانها تصبح غير قابلة للهزيمة".
كما يبدوا العقيد القذافى و كأنه يريد لهذه القوى ان تتصارع بعيدا عن تدخلاته المباشرة، ألأمر الذى عبر عنه عندما لم يلق خطابه فى ذكرى سبتمبر، حتى لا يضطر للصف مع ألأفكار ألأصلاحية التى جاءت فى خطاب نجله"سيف ألأسلام"، او مع التمترس ألأيديولوجى الذى عبر عنه" احمد ابراهيم" فى مؤتمره الصحفى، وهو ألأمر الذى سيزيد من الحيوية السياسية التى لابد وان تتصاعد وان تكتسب المزيد من الحراك و المشاركة الشعبية اذا تمسك هو بحياده ألأختيارى تجاه هذا الصراع.
لذا.. و فى الجزء الثالث لابد وان نبدأ فى محاولة استشراف المرحلة القادمة، ليس فقط استجابة للفضول و لكن ايضا لمحاولة "وضع خطة للعبور" تسهل الوصول الى الجانب ألآخر بسلام، بمشاركة كل ألأطراف، و دون دفع مستحقات ليس من الضرورى اثقال كواهلنا بأعبائها.
يتبع..
اعتمدت كثيرا فى متابعة الوقائع على "تقرير منتدى ليبيا للتنمية البشرية" الذى اشكر جميع من شارك فى اصداره على جهدهم الممتاز.
التعليقات