اللاعنف في الإسلام (6)
في علم النفس حينما تكون القوة مركزية تولد الإكراه تلقائيا، كما يقول الفوضويون(Anarchist)، وهي تسمية خاطئة وترجمة غير دقيقة، والأفضل أن تسمى المجموعات التي لاتؤمن بالدولة، فهم يرون أن الدولة الحالية تمثل الإكراه، وكل إكراه خطأ، وقليل من السلطة يعني القليل من الفساد، والسلطة المطلقة تعني الفساد مطلقاً، وحين تستخدم القوة للإكراه يمكن أخذ الطاعة من الناس كما في دول المخابرات الثورية في العالم العربي، ولكنها طاعة ممزوجة بالخوف والكره، وهكذا فالإكراه ولد الكراهية، وهي تقود تلقائيا إلى محاولة إعادة الاعتبار للذات المسحوقة فتتلمظ إلى القوة، وهكذا فالقوة دخلت في حلقة معيبة معكوسة متواصلة مترابطة المفاصل على النحو التالي: قوة ـ إكراه ـ خوف ـ طاعة ـ كراهية ـ قوة ـ إكراه وهكذا؟؟
وعبادة القوة يقود تلقائيا إلى عدم إمكانية ولادة مجتمع ديموقراطي يؤمن بتبادل السلطة السلمي، وهي مشكلة الثقافة العربية الحالية.
والآن إلى الدليل العلمي وهو بحث يجب أن يوسع أيضا ولكن خلاصته هي أن القوة عبر التاريخ كانت في رحلة تضخيم بدون توقف، فمذهب ابن آدم الأول الذي بدأ رحلة القتل بالحجر تطور ليصل في النهاية إلى سقف القوة، حيث ولد على الأرض القنبلة الهيدرجينية المحمولة على صاروخ وترفع درجة الحرارة كما يحدث في باطن الشمس مائة مليون درجة سنتغراد. وهذا التطور المرعب قاد إلى مفارقة عجيبة هي أنه لم يعد بالإمكان حل المشاكل بالقوة لأنها نهاية اللاعبين فلم يعد هناك منتصر في الحرب، وهذا التطور في القوة كان عجيبا غريبا أدى إلى لجم القوة، فقد أنهت القوة القوة على غير ميعاد. وبذلك تحقق حلم الأنبياء النظري حاليا، ولم تنفع كل المواعظ والكتب المقدسة في البرهنة على هذه الحقيقة، كما في نظرية الانفجار العظيم، فقد تعب الفلاسفة في تفسير الكون حتى جاءت نظرية الانفجار العظيم وأعطت الجواب أن العالم بدأ قبل 15 مليار سنة، وهذا الكلام هو الشعار الذي أرفعه بوابة العلم ـ السلم. ومن الغريب أن يأتي السلم من أتون القوة، ولكن هكذا يتطور التاريخ، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال.
وبذلك انتهت الحرب من التاريخ، وماتت مؤسسة الحرب، ولم تعد الحرب تشن إلا بين المتخلفين أو لتأديب المتخلفين. وفي حرب العراق وإيران التي امتدت أكثر من الحرب العالمية الثانية كان يمد الطرفين ثلاثين دولة، وأدرك الجميع أن الحرب يمكن أن تبدأها ولكن نهايتها ليست في يدك، ومن بدأ الحرب فقد باع نفسه لعالم الكبار، الذين يملكون التقنيات ولا يستعملونها فيما بينهم، وهو أمر عجيب يحدث في العالم، ويشي بعمق الأزمة الأخلاقية في العالم التي تمارسها الدول الصناعية، ولم تعد الحرب تقع بين دول الشمال الأوربي بعد أن خاضوا وجربوا كل أنواع الحروب الدينية والقومية والعالمية، وحاول بونابرت توحيد القارة بالمدفعية، وهتلر بالبانزر، ولكن لم تتوحد إلا بشعار السواء، بدون ألمانيا فوق الجميع؛ بل ألمانيا مثل الجميع، ومات نابليون في جزيرة تذكر بجهنم مسموما بالزرنيخ، ومات هتلر منتحرا مضاعفا بالرصاص والسيانيد مع عشيقته ايفا براون في قبو الاستشارية في برلين.
وفي الختام سوف أحاول ضغط الأفكار ملخصة مرة أخرى على شكل كبسولات صغير: فاٍلاسلام يبني المجتمع ويصنع الدولة بطريقة سلمية بدون عنف، فهذه طريقة الأنبياء، وهي تختلف عن طريق الثورات الفرنسية أو البلشفية أو الأمريكية، وبعد قيام المجتع والدولة يصبح بإمكان الدولة وضع يدها على آلة العنف فتمارس وظيفتها الأساسية في توفير الأمن للأفراد بدون طغيان داخلي، ويكون حجم العنف من الشرطة والأسلحة والمؤسسات مثل الإطفائية في المدينة، فليس الجهاد بيد فرد أو تنظيم، كما أن الجهاد بمعنى القتال المسلح ليس لنشر الدعوة بل لرفع الظلم عن البشر، ومن يمارس الجهاد هي دولة راشدية وصلت إلى الحكم برضا الناس، وهذا يعني أن الجهاد بمعنى القتال المسلح لرفع الظلم عن الناس إذا حق أن يمارس في مكان في العالم فمعظمه يجب أن يكون الكثير التي تسمى دولا إسلامية؟
ليست وظيفة الدولة اضطهاد الناس بالمخابرات، وجلد ظهور الناس، وسلب أموالهم، وبناء مجتمع طبقي فرعوني يجعل الناس شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، بل بناء المجتمع المحرر من القوة داخليا، باستيلاد وخلق الإنسان الحر، فإذا حصل هذا فإن صيانة هذا النوع من المجتمع والدولة تتم بنفس الطريقة السلمية، كما فعل أبو ذر الغفاري في الوقت الذي رفع الكل السلاح في وجه الانحراف الأموي بمن فيهم الحسين كرم الله وجهه، فكان عليه أن يفعل كما فعل أبو ذر، ولايدخل المجتمع أزمة لم تحل حتى اليوم، فما زال الشيعة يضربون أنفسهم كل سنة بالسواطير والسلاسل ندبا وحزنا على الحسين، فتحولوا إلى طائفة حسينية، أكثر منها دينا نبويا ملة إبراهيم حنيفا؟ وهو كلام ثقيل على الشيعة، ولكن يجب أن يقال، ويمكن أن نسجل للخميني من الشيعة أنه قام بأعظم ثورة سلمية ضد الظلم، ليس على طريق الحسين بالسلاح، بل على طريقة الصحابة، فكان المتظاهرون يضعون الورد في فوهات بنادق الجنود، وانتصر الدم على السيف، وهي ليست طريقة حزب الله في لبنان التي اعتمدت القوة، فهي قد نجحت في طرد اليهود من جنوب لبنان بالتعاون مع آخرين، ولكن ليس بإمكانها ترسيخ الديموقراطية، ووجدناها في خندق واحد مع الطاغوت السوري، حتى منَّ الله على اللبنانيين أن تخلصوا من الجاندراما والمخابرات والذل.
وبعد قيام الدولة والمجتمع سلميا وصيانته سليما فإن هذا المجتمع المحرر من القوة، يحاول وضع يده في يد أي قوة عالمية عادلة، من أجل رفع الظلم عن الإنسان، أينما كان ومهما دان، ونتائج هذا أننا قد نضع ايدينا مع كافر عادل ضد مسلم ظالم.
وتبقى زاوية مظلمة لا بد من شرحها، فمثل المقاومة الفلسطينية التي لم تمش الخطوات الطبيعية في إنشاء المجتمع والدولة وولادة الإنسان المحرر من القوة، فهذه القوة تصادم قوة أخرى، وهو صراع يحدث بين قوى كثيرة في العالم، مثل صراع التماسيح والسباع في الغابة، وهذا لا علاقة له بمفهوم الجهاد الذي نتحدث عنه، ولا يوجد اليوم مجتمع إسلامي محرر من علاقات القوة، وتخلص من مرض المستكبرين والمستضعفين فيجب الانتباه لهذا.
ونقطة أخرى وهي أن هذا المجتمع المحرر من القوة على فرض تحققه، فإنه يدافع عن نفسه بقوة السلاح إذا لزم الأمر في العدوان عليه، وهو ما اختلط على الشيخ القرضاوي في تعليقه على جودت سعيد، فلا يوجد جهاد طلب ودفع، بل الجهاد هو بناء إطفائية حريق عالمية لنجدة المضطهدين في الأرض من أي دين وملة، وهو المشروع الذي اشتغل عليه إيمانويل كانت في كتابه (نحو السلام الدائم Zum ewigen Frieden) حيث تخيل ما يحدث اليوم من قيام جمعية الأمم المتحدة، لولا مجلس الأمن الإجرامي بحق الفيتو الذي فيه، ولو أن مجلس الجمعية يتحول إلى برلمان دولي عنده القدرة على تنفيذ القرارات، إذا لتحققت فكرة الجهاد، وتشكلت الدولة العالمية التي تفض النزاعات، وتوفر الأمن للجنس البشري، وتضع الحرب أوزارها كما تنبأ القرآن، كما فعلت الدولة للأفراد فلم يبق نزاعات، وإن حصلت فتتدخل الدولة وتفضها بالقوة، فهذا هو الجهاد الداخلي وذلك هو الجهاد العالمي.
فهذه هي مجموع الأفكار باختصار، ويجب تنزيل الآيات منجمة على هذا القانون الداخلي للقرآن. وبذلك تفهم آيات كفوا أيديكم، وآيات قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، وآية ولا تعتدوا إنه لايحب المعتدين، وآية لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين أن تبروهو وتقسطوا إليهم، وبهذه الصورة ينكشف الغطاء عن الوجه الإنساني للإسلام، ويفهم على شكل منطقي، وليس عدوانا من النوع الخطير الذي يطرحه القرضاوي وغيره، من جهاد الطلب وشن الحروب في الأرض. وهذا الكلام منطقي ومتماسك ومتوازن ويمكن التحدث به في أي مجلس دولي والدعوة له، كما فعل الفيلسوف الألماني كانط بمشروعه للسلام العالمي، وأهمية هذا الطرح أن العالم يظن أو يحاول فهم أن الإسلام دين حرب وضرب واغتيال وقطع للرؤوس، كما أن الكثير من الشباب المغفل والجاهل تنطلي عليه أفكار المتطرفين فيموتون في جبهات يظن أنه تدخله الجنة فيدخل النار التي وقودها الناس والحجارة.
التعليقات