ـ شفت اللي حصل لاصحابك quot;الزناجرةquot;؟
* يا عم بلاش قرف .. هيه المشرحة كانت ناقصة قتلى، دحنا ارتحنا من الوباء ده، يللا عقبال ما يرحلوا الصعايدة كمان بالمرة .
هذه مجرد جملة من حوار عنصري بغيض سمعته بين شاب quot;روش طحنquot;، وبائع بإحدى مطاعم الوجبات الجاهزة بحي quot;المهندسينquot;، بالقرب من موقع المجزرة التي ارتكبها أشاوس الأمن المصري بحق اللاجئين السودانيين الذين أتضح بجلاء ألا بواكي لهم، فحكومة الخرطوم مارست النخاسة بحق مواطنيها، منذ اللحظات الأولى للجريمة حين خرج مستشار الرئيس السوداني محجوب فضل، قائلاً إنه من حق الحكومة المصرية أن تعيد النظام وتفرض هيبتها كما هو حق كل سلطة في السيادة على أرضها، وأنه من حقها فضّ الاعتصامquot;، وتصريح كهذا كفيل بمحاكمة قائله في أي بلد متحضر، خاصة حين يصل عدد القتلى إلى 26 إنساناً، ناهيك عن عشرات المصابين، وعلى يد قوات نظامية وليس في حرب أهلية، ومهما كانت المبررات والبيانات، فلا يوجد ثمة منطق يمكن أن يبرر سفك دماء الأبرياء .
لا جديد تحت الشمس .. ولا القمر
الأمن المصري تصرف كعادته، ووفق خبراته quot;الأمن مركزيةquot; الكلاسيكية، وتراثه المملوكي العثمانلي، وبدا أن الغُشم المتعجرف منهج أبدي لا يتغير، وquot;الغُشمquot; تعبير من درر العامية المصرية البليغة، يعني افتقاد الحصافة، وتدني القدرة على تقدير الأمور حتى بالحد الأدنى من الحكمة، فجنود العمليات الخاصة يتصايحون (هع .. هع) كأنهم على أبواب عكا، وضباط أو بالتعبير الشائع quot;باشاواتquot; صغار متورمون غروراً، ازدانت أزياؤهم بكافة أنواع وأحجام الأسلحة النارية والبيضاء quot;لزوم البرستيجquot;، يتصرفون كطغاة صغار، بينما quot;الباشواتquot; الكبار يقفون على قارعة الطريق، لا يكفون عن الحديث عبر الهواتف الجوالة، يترقبون التعليمات القادمة من المديرية والإدارة والقطاع والوزارة، وبالطبع يتأففون من هذه quot;المهنةquot; وتلك الأيام السوداء، التي جعلتهم هدفاً لـ quot;اللي يسوى واللي ميسواشquot;، بينما لا يفوت أحدهم أن ينهر سائقه المجند لأنه تأخر على موعد quot;البيك الصغيرquot; في الدرس الخصوصي، أو quot;الهانمquot; في النادي .
...........
مواطن تلفزيوني من هؤلاء الذين يحتفظ بهم في quot;مكان ماquot; معدو ومخرجو البرامج في quot;تلفزيون الزيسquot; المصري، قد تجده أحياناً شاباً، وأخرى سيدة، وثالثة يرتدي الجلباب وهكذا حسب مقتضيات الحال، وفي تغطية مجزرة المهندسين كان المواطن quot;إياهquot; يرتدي هذه المرة ملابس quot;كاجوالquot;، وهي بالطبع من لوازم حي المهندسين، وما أدراك ما المهندسين، وشارع جامعة الدول العربية، الذي أصبح عنواناً على زمن quot;الوحدة التي لا يغلبها غلاّبquot;، ما علينا لنبقى مع الأخ المواطن التلفزيوني الذي عبر عن تأففه بحركة من شفتيه التقطتها الكاميرا بعناية، وانطلق قائلاً : quot;الناس دي بدأت تظهر بينهم أوبئة وإيدزquot;، واخد بالك عزيزي القارئ من كلمتي quot;أوبئة وإيدزquot; جيداً ؟، ألا تصدعنا وزارة الصحة ليل نهار بأنه حتى الطيور المهاجرة تخضع للفحص الطبي الدقيق، قبل أن يسمح لها بدخول البلاد ؟ .
يقفز إلى قلب المشهد رجل تبدو على سيماه ملامح أعضاء الحزب الوطني quot;الحاكم من يومهquot;، لهذا مدّ يده بثقة في محاولة لانتزاع الميكروفون من المذيعة، لكن على مين يا حبيبي ؟، دي المذيعة quot;عليّة اللعبيّةquot;، تقتل ميه وألف مقابل التشبث بالمايك quot;العهدةquot;، فيكتشف أن quot;الحارة سدّquot;، ويكتفي بالحديث الهادر الذي يقطر حباً لمصر، وإيماناً راسخاً كأنه على ثغر من ثغور الإسلام، قائلاً quot;حدفوا الشرطة بأزايز الخمرة اللي بيطفحوها ليل نهارquot;، تهز المذيعة كتفها طرباً واستنكاراً .
تعليق من أحد المدونين على الإنترنت: (هما لاقيين ياكلوا لما يسكروا، الإعلام الحكومي عايز يظهرهم كأنهم شوية صيّع مايستاهلوش حتى الرحمة), وبالفعل لا يفهم المرء قصة زجاجات الخمر هذه التي بدا الإلحاح عليها واضحاً، سواء لدى المواطن التلفزيوني وبيانات الخارجية والداخلية، إذ رأيتها شخصياً ـ كصحافي ـ أنها كانت زجاجات فقط, ولعل quot;عم عبدو الأقرعquot; بائع الفول يضع الزيت والخل في زجاجات كانت ذات يوم سيدة مجالس الندماء، لكن حدث وتقلب بها الحال حتى استقرت على quot;عربة الفولquot;، وتابت وأنابت وأصبحت وعاء للزيت الحار بعد أن كانت قنينة لـ quot;أم الكبائرquot;، وهذا يحدث في كل مكان بمصر تقريباً .. من ثلاجة quot;أم بطةquot; حتى عربة quot;عبدو الاقرعquot;، فما سر الإلحاح الخبيث على قصة quot;إزازة الخمرquot;، خاصة في مناخ يتعاظم فيه الهوس الديني، حتى أصبح تجارة وشطارة ؟ .
............
لا يحق لعاقل أريب أن يعتب على سلوك الأمن، لأن quot;طول العمر العسكر عسكرquot;، ولأن الحكمة الشعبية العظيمة تنصح المرء بقطع ذراعه لو كان quot;عسكرياًquot;، كما لا ينبغي لمن كانت لديه بقايا ضمير حي، ألا يتوقع أفضل من هذه الأداء من تلفزيون تحكمه العائلات والهوانم والقرينات، ويتمدد فيه الفساد quot;كما يتمدد ثعبان في الرملquot;، ويهبط على رأسه بالمظلات أسراب الفرنجة بجنسياتهم البريطانية، وتتهم كبرى مذيعاته ورئيس اتحاده بتقاضي الرشاوى وquot;تسليك المسائلquot;، ويتفشى فيه المتزلفون وquot;كوافيرات الاستبدادquot;، حين يكون هذا واقع حال أي مؤسسة، فلا ينبغي أن نتوقع منها أكثر من تراث quot;وش البركةquot; وquot;درب طيابquot; .
لا عتاب على العسكر ولا على أسطوات الميديا الحكومية، لكن العتب على المصريين الطيبين، الذين كانوا دائماً أبعد شعوب المنطقة ـ ولعلي لا أبالغ إذا قلت والعالم أيضاً ـ عن تلك العنصرية الواضحة التي تعامل بها مواطنون مصريون عاديون حيال إخوة لهم، لن نقول في الجوار والنيل، بل لعلها الإخوة الإنسانية وحدها كانت كافية ذات يوم، حتى يقبل المصري الأروام واليونانيين والشوام والخلايلة وكل أجناس الأرض ذات زمن مضى، لكن يبدو أن أشياء جميلة كثيرة مضت معه، فبات المصري الذي كان أيقونة للتسامح، نموذجاً متعصباً، يكاد يفقد حكمته ويحتقن لأتفه الأسباب، تارة بسبب رواية، وأخرى بسبب شائعة عن مسرحية قيل أو أشيع أنها quot;تمس الإسلامquot;، بينما لم تتحرك شعرة في رأس المصريين حين احترق آلاف الأبرياء داخل قطار الصعيد، أو ابتلعتهم محرقة تسمى زوراً quot;قصر ثقافةquot;، ولم يرمش للشعب المصري الصديق جفن حين حكم على أيمن نور بالسجن المشدد، وكان يمكن أن يصدر الحكم مع إيقاف التنفيذ لرئيس حزب مصري معارض، وصل إلى المركز الثاني في سباق الرئاسة، ولا يزال يراودني أمل بأن يصدر الرئيس مبارك عفوا رئاسيا عنه، ولم يفجع الشعب الصديق من مهزلة هتك عرض سيدات على سلم نقابة الصحافيين والمحامينrlm;، ومرً quot;صفر المونديالquot; الذي ألحق العار بكل مصري كأنه برد وسلام، ألا يستحق هذا كله أو بعضه أن يعتب المرء على الشعب المصري الصديق، وهو ينزلق أخيراً إلى مستنقع العنصرية فيسخر مواطن عادي لا في العير ولا النفير من أشقائه السود ويصفهم بتعبير quot;الزناجرةquot;
.........
كان عبد الوهاب يشدو برائعة quot;النهر الخالدquot;، بينما أستعيد في خيالي صور متلاحقة، لأصحاب تلك الجثث وهم يمرحون في غابات السافانا وعند منابع النهر، قبل أن تدهسهم أحذية العسكر، وتلتهمهم أرصفة المدينة المتوحشة، التي أمست بلا قلب :
سمعت في شطك الجميل ما قالت الريح للنخيل
يسبح الطير أم يغني ؟، ويشرح الحب للخميل
وأغصن تلك أم صبايا شربن من خمرك الأصيل ؟
ويتدفق النيل عبر حواسي وهو يبكي أبناءه السمر الذين دهسهم أبناؤه السمر أيضاً، وكان عزائي في مدونة شاب مصري لم يزل قابضاً على إنسانيته، علّق على التغطية الإعلامية quot;الحكومصريةquot; قائلاً بغضب نبيل : quot;إللي غايظني إن إعلامنا ابن الـ (..) عايز يطّلع الضحية مذنب، فيقول إنهم حشرات ناقلة للوباء خمورجية، صيّع بيمارسوا الجنس على الناصية، قذرين يتبولون في الشوارع، متطفلين وبيشحتوا، وقال أيه كمان متبطرين على النعمة، بالذمة فيه أنتن من كده كلام ؟quot; .
ومن مدونة أخرى قال صاحبها صادقاً وصادماً في آن واحد : quot;أما موضوع مش نضاف والريحة، فالكلام ده كان فين لما يمشي في أي مدينة أو قرية مصرية لا تخلو من الزبالة المكشوفة، يبقى حقيقي الواحد ميعرفش يقول أيه، يا ترى إللي بيقولوا الكلام ده خرجوا بره المهندسين والزمالك قبل كده؟، شافوا أي حي طبيعي مش هقول شعبي ولا عشوائي، ولا نيلة متنيلة بستين نيلة، هسأل بس: هي الناس بتختار ظروف معيشتها المهببة؟، أنا شخصياً كنت أتمنى إني أتولد في فييناquot; .
خاتمة تفسدها الفصحى : quot;بس نقول أيه، ونعيد أيه .. يمكن أخطر ما في الموضوع كله، إن الكلام اللي من نوع (مش مسلم، ومش مستحمي، وأزايز خمرة)، بقيت أسباب كافية للقتل عند بعض المصريينquot; .
ولا حول ولا قوة إلا بالله
صلوا من أجل مصر
[email protected]
التعليقات