هو بلا شك يوم حالك ليس في تاريخ فلسطين وحدها، بل في المنطقة برمتها، وكنت ممن توقعوا بل وبشروا بألا مفر من وصول المتطرفين وتجار الأديان إلى السلطة، قبل أن تدرك شعوب المنطقة معنى الانحياز للهوس والتخلف والشعاراتية على حساب الديمقراطية أو بامتطائها، وهذا ليس حكراً على فلسطين وحدها، بل وفي الشام وفي مصر، وفي اليمن وفي ليبيا وباختصار في عموم بلدان المنطقة، وذلك حتى تذوق الشعوب هؤلاء الذين اختطفوا أحلامهم بوعود معسولة، وبعدها لن يسقط هؤلاء وحدهم بل ستسقط الرافعة التي تحملهم .. بل سيسقط بزنس السماء، وستنهار بورصة تجار الدين .. وسيكف الجميع عن تعاطي الجعجعة الفارغة .
وهنا ينبغي أن نفهم أننا ـ كمسلمين ـ لسنا وحدنا في هذا الكون، بل نحن مجرد أمة وسط عشرات الأمم، وحين ندرك هذا سنتوقف عن التصرف وكأن كوكب الأرض حديقة خلفية لنا نفرض عليه رؤانا، وأحلامنا quot;العبيطةquot; عن الخلافة والغزو والتاريخ الذي ولى إلى غير رجعة، وإلا فها نحن الآن على المحك .. وعلينا ـ كشعوب اختارت التطرف عنواناً لها ـ أن نتحمل ثمن خياراتنا ، فلنا أن نختار حتى الشيطان، لكن علينا في المقابل احتمال كل ما يفعله، فهذه معادلة بسيطة، أن يتحمل المرء ثمن خياراته .
نأتي إلى قراءتي الشخصية لما سيجري وهي متشائمة لأبعد حد استناداً إلى تجارب مريرة سابقة مع هذا الفصيل المراوغ من المتطرفين، فحماس وقادتها لا يفقهون في السياسة إلا قدر معرفتي باللغة الصينية .. فهي ـ كغيرها من المنظمات الإسلاموية الراديكالية ـ لا تجيد سوى لعبة الحشد والتأليب وتجييش المشاعر وترف النقد من بعيد، كالعوام على البر ... ولما يجد قادتها أنفسهم يوماً في لجة اليم .. وقد آن الأوان ليجربوا العوم، حتى لو أصبح الفلسطينيون حقل تجارب .. فلا بأس فهم اختاروا .. وعليهم تحمل ثمن خيارهم كما أسلفنا.
هناك أيضاً ثمة أسئلة ثقيلة تراود المرء عن نفسه ، ولا يمكن تجاهلها مأخوذين بنشوة النصر، ويتصدر هذه الأسئلة سؤال عن برنامج حماس بشأن إدارة الصراع مع إسرائيل، وكيف يمكنها أن تتفاوض معها دون الاعتراف بها، ثم كيف سيتحرك قادة حماس وهم ملاحقون داخل وخارج فلسطين، وممنوعون من دخول معظم دول العالم، فضلاً عن الملاحقة الإسرائيلية، هذه الأسئلة مجرد عينة من سيناريو يكتنفه الغموض، ولأنني لست من الحكماء الذين يؤثرون في مثل الحالات العمل بالمثل الانجليزي (دعنا ننتظر ونرى)، فقد راودني عن نفسي تصور، أتمنى من الله تعالى أن يخيب ظني فيه ولا يحدث، لكن للأسف كل الشواهد وتجاربنا المريرة والدامية مع الحركات الإسلامية لا تنبئ بغير هذا التصور الذي تؤيده عشرات الأدلة والقرائن والشواهد :
أولاً ـ ستنقطع كل المعونات العربية قبل الغربية، وسيتوقف سيل أموال البترودلار الذي تدفق سنوات، لماذا ؟ .. لسببين : الأول أن بلدان النفط تخشى على أنظمتها من أن تطالها quot;هبة الإسلام الراديكالي الإخوانجيquot;، والثاني أن هذه البلدان لن تغضب أصدقاءها في البيت الأبيض، وتدعم quot;منظمة إرهابيةquot; وفق تصنيف الغرب .
ثانياً : الاتحاد الأوروبي ـ وهو بالمناسبة أكبر مقدم للدعم المالي ـ سيوقف كل معوناته حتى تعترف حماس صراحة بإسرائيل، وتعدل ميثاقها، وتفكك جناحها العسكري ، ليس هذا فحسب، بل وتواجه وتلاحق كل أعمال العنف الموجهة من فصائل أخرى ضد إسرائيل، كما أعلن قادة أوروبا ذلك منذ اليوم الأول .
ثالثاً : لا أتصور أن الدول العربية فضلاً عن أوربا وأميركا تستقبل أبو هنية أو أبو القعقاع أبو جلامبو كوزير للخارجية، بل لن تمنحه تأشيرة دخول أساساً، وبالتالي فإن حلم الدولة ذاته تراجع إلى المربع صفر ، وستتصرف حماس على أساس المكابرة، وتعلن استغناءها عن العالم، وتفرجنا كيف ستطعم هذا الشعب، وكيف ستؤمن رواتب موظفيها ونفقات مؤسساتها، بل وكيف ستحتفظ بتلك المؤسسات أصلاً ؟ .
رابعاً : كل هذا ولم نتحدث بعد فيما ستفعله إسرائيل، وأتوقع أنها تفكر من الآن في حرب شاملة تعيد من خلالها احتلال كافة المناطق، وسيحدث هذا وسط صمت دولي وعربي تام، بل وبدعم من تحت الطاولة ومن فوقها إذا لزم الأمر، لكن هذه المواجهة لن تكون إلا بعد أن تتورط حماس في عنترياتها مأخوذة بنشوة النصر ، ومتمترسة خلف الدهماء .
خامساً : أعزي الشعب الفلسطيني الصديق في أعز ما يملك، وهو حريته، فاعتبارا من اليوم الذي يشكل فيه قادة حماس حكومة ستكبل حياة الفلسطينيين بآلاف القيود ، وستصادر حرياتهم العامة والشخصية، وسيطارد شبانهم وشاباتهم ويطلق الرصاص على أي شاب وفتاة يسيران في عز الظهر كما حدث على شاطئ غزة، وستقتتل الفصائل كما حدث مراراً بين شهداء الأقصى وحماس، وحتى بين الجهاد وحماس .. وستتعاظم الفوضى إلى حد العبث وأجواء العصابات .. وسيرحل من يستطيع من الفلسطينيين من الداخل فرارا بأرواحهم، وطبعاً انسوا الفنون والأدب والمسرح والغناء وأي نوع من الإبداع فكله حرام ، وستصبح (حماستان) مثل طالبان .. وسيقاطعها المجتمع الدولي ويحاصرها، وسيتشكل واقع جديد يعلم الله وحده ملامحه ومعطياته، لكنه بكل تأكيد لن يكون أفضل من الواقع الراهن .
سادساً : أما على صعيد السياسة الداخلية فبالطبع لن تكون هناك معارضة ولا من يحزنون ، لأن من يعارض حماس سيجري تصويره بأنه يعارض الله شخصياً، ومن ينتقد حماس سيقال إنه ينتقد الإسلام، وعموما إذا كان الشعب الفلسطيني الصديق قد عاقب فتح على فسادها وترهلها، وهذا بالمناسبة درس لجميع الأنظمة العربية، غير أن الفلسطينيين بخيارهم هذا فقد وضعوا تجار الشعارات على المحك، والآن أتصور أن حماس في مأزق كبير فهي لا تستطيع من هذه اللحظة أن تختبئ خلف السلطة، فقد تغيرت قواعد اللعبة، وصارت حماس هي السلطة، وبالتالي فهي مسئولة عن تطبيق شعاراتها، وها هي الفرصة أمامها لتنفذ ما كانت تطالب به quot;سلطة أوسلوquot; من مهام .
أخيراً .. دعونا نحصي من الآن عدد الشعارات التي ستسقط من عمائم quot;حماستانquot;، ولنستعد لرؤية مشهد عبثي جديد في شرق أوسطنا المثير، حين يجلس قادة حماس يفاوضون جنرالات إسرائيل على طاولة واحدة، لنحرم من الآن فصاعداً من سماع معلقات وموشحات المقاطعة ومصطلحات العدو الصهيوني الذي سيتناولون معه quot;الكوشيرquot; على غذاء عمل وجلسة مفاوضات .
وفي نهاية المطاف، وبعد أن تدفع أطراف كثيرة ثمناً فادحاً، فلن تكون تجربة حماس سوى محطة فاشلة جديدة للإسلامويين المتطرفين على درب تجربة الترابي في السودان، وطالبان في أفغانستان وغيرها من التجارب الدامية التي لم تخلف سوى الدمار وأنهار الدم .
أبشركم .. الأسوأ قادم وبيننا الأيام .
والله غالب على أمره
[email protected]
مقالات ذات صلة
د. شاكر النابلسي: حماس تواجه العالم
د. سلمان مصالحة: ملاحظات حول نتائج الإنتخابات الفلسطينيّة
فاخر السلطان: هل حركة حماس ستبقى حماس؟
د. أحمد أبو مطر: فوز حركة حماس: إنتصار أم مأزق؟؟













التعليقات