عام 1998، وأثناء مشاركتنا في مهرجان المربد للمرة الأولى، دعتنا جامعة المستنصرية، نحن مجموعة من الشعراء الفلسطينيين والسودانيين، إلى أمسية شعرية في حرم الجامعة. كانت عريفة الأمسية، هي الصبية الجميلة أطوار بهجت. وكانت آنذاك، في سنتها الدراسية الأخيرة، طالبة في قسم الإعلام، وأيضاً شاعرة.
قرأت أطوار قصيدة لها، على استحياء، في ختام الأمسية. وحين خرجنا، خرجتْ معنا، وركبنا السيارة جميعاً، متوجهين إلى فندق المنصور، حيث ينزل الشعراء العرب والعراقيون.
في الطريق، بدأت خيوط علاقة إنسانية رهيفة تربطنا بأطوار، هذه الفتاة الطويلة النحيلة ذات العيون الخضراء العميقة، خضرة السحر، وخضرة أرض الرافدين الخصبة.
شعرت للوهلة الأولى، وكأنني أعرفها منذ سنين. حتى تجرّأت فمازحتها، عن [الرفيق المناضل صدام حسين]، الذي ورد ذكره بالطبع، في تقديمها الإنشائي الحماسي، بين فقرة وأخرى من فقرات الأمسية.
ابتسمت أطوار بشقاوة محببة، وعقّبت: لا مفر! حين يصبح لكم دولة ورئيس، ستفعلون مثلنا!
في العام التالي، أو الذي يليه، وجدتها وقد صارت مذيعة في تلفزيون بغداد، مذيعة نشيطة ومتحمسة، تتقافز هنا وهناك، كما الفراشات، في أبهاء فندق المنصور ميليا.
كانت في أول سنة عمل، وكانت تحرص على لقاء الشعراء، وبالذات الضيوف منهم، لإجراء حوارات معهم، ما وسعها الوقتُ والجهد.
طلبتني للمقابلة، فشاكستها وزوّغت. اصطادتني في المساء، وألحّت على المقابلة، فانتحيت بها جانباً، وناشدت الشاعرة لا الصحافية فيها، ألا تفعل. فهمتْ أسبابي، دون شرح، فهي لمّاحة ومرهفة العقل والوجدان، لكنها اشترطت عليّ، أن نجلس مساء في قاعة الفندق، لنتكلّم في همومنا وشجون الشعر.
جاءت مساءً، برفقة الشاعرين عبد الرزاق عبد الواحد، والبصراوي جواد الحطاب، وهما أكثر شاعرين كانا مقرّبين لها، في ذلك الزمان.
تكلمنا طويلاً، وسألتني عشرات الأسئلة، عن حالنا وتفاصيل حياتنا اليومية تحت الاحتلال. وكيف نكتب، ولمن نقرأ من الأدباء العرب والعالميين.
كانت تسأل وتريد مزيداً من التفاصيل: تريد أن تعرف، عميقاً، كيف نعيش هناك. كانت تسأل كشاعرة لا كصحافية هذه المرة.
بعدها، جلستُ معها جلستين طويلتين، وأهديتها ديواني الأول، ومخطوطة ديواني الثاني. قرأتْ الديوانين، وجاءتني صباح اليوم التالي، وهي تنشد من أحدهما قصيدة في سطرين بعنوان quot;دعاءquot; هي.. [ يا مَن وهبتنا جهامة الأيام... هبنا بلاهة الأمل]! قلت لها، كنت أتمنى لو اخترتِ قصيدة أقل تشاؤماً! قالت: ومِن أين يأتي quot;التشاؤم الأقلquot;! إننا نعيش في الجحيم عينها. وإنك لترى حالنا وأحوالنا، أدباءً ومواطنين عاديين. لقد يأسنا من كل أمل يا عزيزي! ولا أظن حلاً في مدى قريب. فالكل ضدنا: العالم كله ضدنا، من صدام حتى أمريكا والعرب! فما ذنبنا نحن!
كانت تتكلّم بانفعال وحشرجة. لكأنّ كل مرحها وروحها المشاكسة، كانا مجرد قشرة رقيقة، تخفي تحتها كماً هائلاً من العذابات والآلام.
وفي آخر يوم من المهرجان، حين حانت ساعة الوداع، رافقتنا إلى درج الفندق الرخامي، حيث تنتظرنا سيارة السفر، فودّعتنا، وفوجئت بالدموع تغيم في عينيها الخضراوين الجميلتين.
آه كم أنت نبيلة ورقيقة يا أطوار!
لم أكن أتصوّر أنها على هذا المقدار من هشاشة المشاعر الإنسانية الدافئة. هذه الشاعرة المليئة بالمرح، والشفافية، مليئة، كعادة العراقيين جميعاً، بالأسى والشجن التاريخييْن أيضاً!
بعد ذلك، دار الزمان دورته، وقامت الحرب، ولم أر أطوار، إلى أن فوجئت بها ذات يوم، وقد صارت مراسلة لقناة الجزيرة الإخبارية.
كنت كلما جاءت على الشاشة، أتكلّم عنها لزوجتي، مادحاً جرأتها كصحافية، رغم خطورة عملها الميداني، في أرض حرب، كالعراق. ومتمنياً، في الوقت نفسه، لو أنها اكتفت بالشعر وعالمه النبيل، بدل هذا الخطر اليومي، على فتاة وشاعرة رقيقة مثلها.
انتقلت أطوار، بعد ذلك، من قناة الجزيرة إلى قناة العربية، وواصلت رسالتها كخادمة للحقيقة، وللمشاهد، بحيادية ومهنية يغبطها عليهما زملاؤها.
كانت محايدة، بالقدر الذي يسمح به سياقها وتاريخها، كعراقية وطنية أصيلة ضد الحرب.
إنما... كل هذا انتهى الآن، كما لو كان حلماً عابراً. وهاهي الأخبار السيئة، تنعي لنا أطوار، ذات الاسم الغريب، وذات الحضور الإنساني والثقافي والإعلامي اللامع. تنعيها وهي لم تكمل الثلاثين من عمرها بعد. وردة يانعة وشهيدة أخرى في محراب الصحافة والحقيقة. شهيدة كانت محبة للناس وللحياة ولعملها ولوطنها العراقي، وفوق ذلك، محبة للشعر والشعراء، كما هو شأن الشعب العراقي النبيل.
رحم الله أطوار بهجت العزيزة، بقدر ما أعطت لنا، وللحقيقة أجمع.
وليرحمنا نحن أيضاً، في هذا الزمن العربي السوريالي القميء. أقول قولي هذا، وزوجتي تشرق بالدمع، من حولي، غير مصدقة نبأ رحيل أطوار المزلزل والصادم. لكأنها ترى فيها، ذكرى أخيها، الذي سرقه السرطان وهو في ريعان شبابه مثل أطوار تماماً.
فوداعاً....................................
وداعاً يا نخلة وبراءة العراق، وداعاً أيتها الزميلة الراحلة...
- آخر تحديث :
التعليقات