من يقرأ رواية quot;الجهلquot; لميلان كونديرا والتي تتحدث عن زوجين من تشيكسلوفاكيا، هاجرا إلى فرنسا بعد الغزو السوفييتي (الصديق) لبلدهما يرى كم هي الانظمة الشمولية متشابهة.. إذ يذكر في روايته والتي تبدو منذ عنوانها على ارتباطٍ شديد التعبير بالحالة السورية quot;مصيبة البلدان التي جئنا منها تقوم على الإنعدام الكامل للأملquot;.
ويبدو أن هذا التعبير هو سورياً بامتياز: فقدان الأمل .. الذي هو من يقود الافراد والشعوب نحو المستقبل إذ لولا الأمل quot;شو بتنكسر الارواحquot;: بفقدان الأمل لا نفقد حاضرنا فقط بل نفقد حتى المستقبل وهذا ما يبدو أنه الأشد كارثية وفتكاً من كل ما فعله النظام السوري بشعبه وبلده خلال حقبة مستمرة منذ اكثر من اربعين عاماً
وقد بدأ في السنوات الاخيرة يتجلى فقدان الامل بالهجر ة الجماعية نحو بلادٍ لم يسمع بها أحد.. هل يعلم أحد منكم ان هناك سوريين في دولة مثل ترينداد وتوباغو.
فلم يعد يقتصر الامر على الهجرة الزاحفة نحو البلدان المجاورة من لبنان الى الاردن الى دول الخليج الاخرى الى الهند!!
ان فقدان الامل هو ما يدفع الشباب السوري للمخاطرة بحياتهم عبر الفرار بقوارب الموت من لبنان وتركيا الى اقرب النقاط الاوربية، إنهم يبحثون عن الأمل بعد أن فقدناه في بلادنا التي أصبحت quot; كعظمة بين اسنان كلب quot; كما صرخ رياض الصالح الحسين ذات يوم يبدو أنه مستمر ولا يعلم أحد متى ينتهي.

ان كونديرا حينما يتحدث عن الزوجين المهاجرين في روايته يورد quot; ولأنّهم لم يملكو أدنى فكرة عن نهاية الشيوعية تصوّروا أنهم يعيشون بعد الغزو الروسي في المطلق من جديد، بحيث أن غياب المستقبل وليس عذاب الحياة الحقيقية هو الذي انتزع منهم قوّتهم، وهو الذي خنق شجاعتهم وحوّل هذه العشرينية الثالثة(68-88) الى زمن في غاية الجبن وغاية في البؤس.quot;

وهكذا يمكن ابدال الشيوعية الواردة في هذه العبارة بالبعث وابدال العشرينية بأربعينية لا زالت مفتوحة لينطبق هذا على بلادنا التي تم خطف مستقبلها وتدميره وليس جمعياً فحسب بل حتى على المستوى الفردي وأصبح أملنا هو الخارج سواء كان هذا الخارج ذهاباً إليه أو قدوماً الينا .. هل أقسى من أن نكون افراداً وشعباً مصيرنا معلقاً على ما هو خارجنا ولا نستطيع أن نملي عليه أو حتى نعرف متى سيبعث هذا الامل ..

هل هناك اقسى من هذا ؟ وتستمر الرطانة الوطنية بألف شكلٍ وشكل ولا ينتج عنها سوى فقدان الامل .. وهكذا نمضي مهاجرين في بلاد الله التي بدأت تضيق علينا وهكذا يكون الحنين الى بلادٍ مخطوفٌ مستقبلها، لعنة الغريب / المهاجر وبحسب كونديرا أيضاً فإنه quot;كلما اشتد حنينهم كلما فرغوا أكثر من ذكرياتهم، كلما كان عوليس يزدادُ نحولاً كلّما ازداد نسيانه. لأنّ الحنين لا ينشط الذاكرة، لا يبعث الذكريات، يكتفي بذاته، عاطفته، يمتصّه، كما هو حاله، عذابه الخاص quot;

يااااااااه يا عمنا كونديرا كم دونت عذابنا. فلا يقتصر الامر إذاً على خطف المستقبل والامل بل إنهم يسرقون ذاكرتنا حتى ذاكرتنا يا كونديرا !! إذن سأعترف أني لم أكن اتخيل قبل هذا إن النظام الشمولي يمكن له أن يسرق حتى الماضي حتى الماضي!!!
وإذ يذكر كونديرا السوري أيضاً أنquot; لا علاقة للانتساب الى الشيوعية بماركس ونظرياته، والمرحلة لم تفعل شيئاً آخر غير أنها لبّت أكثر الحاجات النفسية تنوعاً:(...) الحاجة للطاعة ...quot; فإنه يدمينا.. أي مرحلة يا كونديرا تلك التي تستمر نصف قرن وتجردنا من الأمل والمستقبل والذاكرة
هل بعد هذا يحق لنا ان نتحدث عن شيء اسمه وطن او حتى عن بلاد كما يناديها يوسف عبدلكي الذي هاجر ربع قرن وأيضاً الى فرنسا كما أبطال رواية الجهل
هل بامكاننا على المستوى النفسي الفردي بعد كل هذا أن نشعر أن هناك بلاد تخصنا
أن هناك بلاد لنا ذاكرة فيها، حتى ذاكرة!!
يجيب كونديرا السوري بضربة خاطفة وموجعة في الجهل التي تخصنا (قلْ لي، هل ما زال هذا البلدُ بلدنا؟)
[email protected]