محمد الهاشمي
في شبابنا اليافع كان كتاب الاديب و الصحفي الكبير روفائيل بطي ( الادب العصري في العراق العربي)هو مصدرنا الذي نركن اليه في التعرف على شعراء وادباء العراق المعاصرين؛ وكان من بين الذين تطرق الى سيرتهم الادبية الشاعر القاضي المترجم محمد الهاشمي. وقد اعجبت بثقافة وسعة اطلاع هذا المصور البارع فحفظت له من شعره ابياتا تتجاوب مع احاسيسي ومشاعري آنذاك. في العطلة الصيفية من عام 1952 وكنت يومها في الصف الثاني من كلية الحقوق قمت بزيارة الى ابنة خالتي المرحوم نوري حسين الخلف الذي كان يسكن العمارة ( واصبح نائبا عنها )؛ فاصطحبني الى نادي الموظفين الذي كان يطل على نهر دجلة؛ وبينما نحن جلوس؛ اطل علينا شخص يتسم بالوقار والاناقة؛فلما صافحته عرفت بأنه الشاعر محمد الهاشمي ( الحاكم المنفرد في العمارة )؛ دار حديث المجاملات بيننا؛قلت له انني احفظ لك بعض الابيات الشعرية؛فبهت ولكن بلطف واستأناس قائلا؛ اسمعني؛ فأنشدته :
لا تدفنوا الدم بالتراب فأنه يجري لنصر الحق فهو مطهـــــر
بل فاكتبوا منه على اعلامكم كلما كنيران الفضا تتسعــــــــر
وكانت تلك الجلسة الادبية التي التأم شملها بحضور عدد من رجال القانون والادب العماريين آخر لقاء مع ذلك الشاعر القاضي. فلما عدت الى بغداد عكفت على قرآء بعض اشعاره ومؤلفاته المطبوعة آنذاك ومنها (عبرات الغريب ـ ديوان شعره الاول ـ سميراميس ـ ملحمة شعرية ـ؛ القضاء بين يديك؛ الابطال الثلاثة؛ ديوان المثاني... الخ ). وقد تأثرت كثيرا بملحمة سميراميس؛ وكنت اتمنى ـ وما زلت ـ ان يتحول هذا العمل الابداعي الى مسرحية شعرية تمثل امام الجمهور؛ لاحتوائها على على كل العناصر الدرامية التي تتطلبها المسرحية كالفكرة والحبكة والحركة الحوارية المتينة واللغة التأريخية الفصحى:
هون وحسبك مني انني أمرأة لايثقل التاج أحلامي ويلهين
نم مطمئتا فان الملك يشغلني عن احتفال بتحسين وتزيين
يكفي النساء عبير يدّهن به وليس الا عبير المجد يكفيني
حورية أنا لا غول نزلت بهم من عرش مردوخ ذي الخمسين او سين
ويشهدان بأني غير قانعــة حتى ارى مصر في ملكي الى الصين
فأملأ الارض من حرب ومن ظفر ومن سلام ومن فتح الى حين
جال الهاشمي العراق قاضيا فتلقفته المجالس القانونية والادبية والاجتماعية في كل ركن من المدن التي عمل فيها ( كركوك؛ كربلاء؛ البصرة؛ الرمادي؛ العمارة؛تكريت؛ ومسقط رأسه بغداد )؛ حيث استقبل بالفرحة والترحاب؛ وودع بالالم والحسرة على البعد والغياب. لقد كان الهاشمي في سلك القضاء كشأن لداته الكثر صنوا للعدل والنزاهة وميزانا للحق والمروءة؛ مبدأه القانوني هو المركز الأجل حيث يقضي بين الناس؛أما الادب فقد كان زينة لتلك الشخصية المتوازنة.
كان القاؤه الشعري من اعذب الصيغ المتفننة في اسلوبها المعبر عن الموقف والصورة الشعرية؛ وكانت حركة يده اليمنى تعطي المعنى تلميحا تمثيليا يقرب ما في البيت من ايحاءات تتواصل مع همسات الجمل الموسيقية التي نسمعها فنطرب لترانيم الاحاسيس قبل طربنا للانغام المجردة.
لقد مرت على الهاشمي محن كثر فمن اليتم المبكروهو طفل؛ الى فقدان اعزاء من الاسرة الى غياب الشقيق الراحل رشيد الذي كان نموذجا يحتذى به في الشعر والقضاء قبل ان يتوارى خلف اسوار مستشفى الامراض العقلية ليقضي حياته الباقية مسجون الروح والفؤاد؛ كانت هذه الاحداث وغيرها قد حولت كثيرا من شعر الهاشمي الى شجن تلفه الكئابة والحزن:
الى كم انت تكتب بالدموع روايات عن الخطب الفجيع؟
على قلبي دموعك نازلات ألم تره يدق من الدمـــــــوع
كأن وقوعها حجرات نار أحر من الصهيرعلى الضلوع
دموع قد افاضتها عيون بها لليتم آثار الخشـــــــــــــوع
ولكن في شعر الهاشمي التماعات ( رومانسية ) في غاية الرقة والحنان كقوله :
زهرة في الحقل يوما سألت من فراش الحقل معشوقا صغيرا
ما الذي يلهيك عني جاعلا لك كالنجم اختفاءا وظــــــهورا
أفما انت رفيقي في الهوى أبدا ارشفك الثغر الطــــــــهورا
عبود الشالجي
كان اسمه يتردد كثيرا في مجالس بغداد الادبية الاجتماعية كمجلس ( القصاب؛ ومحي الدين؛ والسيد جاسم والهلالي؛والخاقاني... الخ ) كواحد من المحققين الادباء الذين يعتد بهم في التثبت من مخطوطات سدنة التراث والمبدعين فيه؛ كما كان يشار اليه بالبنان باعتباره احد المبرزين في بحوث الامثال والحكم والالفاظ والكنايات البغدادية؛وكان اول كتاب وقع بين يدي من انجازاته هو (أحوال بغداد في القرن التاسع عشر) المطبوع عام 1960 وقد افدت منه الى جانب ما ترجم من مصادر مهمة عن جوانب متعددة من احوال العراق؛ كان قد تصدى لها أفذاذ آخرون كفؤاد جميل؛ وسليم طه التكريتي؛ وجعفر خياط..
في التسعينات من القرن الماضي كان الشاعر المربي محمد حسين الشبيبي الذي كان يجاورني في حي الجامعة؛ قد طاب له ان يدعوني الى مأدبة عشاء يقيمها تكريما للشالجي العائد الى ربوع الوطن؛ فكانت فرصة ان التقي بتلك القامة المديدة في الادب والقانون.
كانت المأدبة تضم عددا من وجوه بغداد الاجتماعية المعروفة وكان الشالجي بما أوتي من براعة في الحديث والدقة في المعلومات والطرافة في العرض؛ قد أضفى على المجلس نكهة محببة من سمو النفس وكرم الخلق ما شجع الحضور على الاستزادة من حلو الحديث الخلاب؛ وكان هو لايبخل على مستمعيه بما كانوا ينشدون من شعر وحكم وامثال وذكريات. مكث الشالجي في بغداد فترة قصيرة من الزمن خلـــف وراءه رصيدا مسموعا ومخطوطا من ثقافته الموسوعية التي تعدت ما كان منشورا من آثار مطبوعة.
لقد دخل الشالجي ساحة القضاء وهو في قمة فتوته ونشاطه؛ بعد ان مارس المحاماة فترة من الزمن؛ اذ لم يمض على تخرجه من كلية الحقوق سوى خمس سنوات حتى عين قاضيا في الشامية ثم في ابو صخير فالنجف؛ثم الموصل حيث أبدى كفاءة عالية في ادارة الجلسات واصدار القرارات التي اتسمت بروح العدل والالتزام بنص القانون. لكن عشقه لحرية الرأي والبحث والتحقيق؛ كانت دافعا قويا لتركه الوظيفة العامة والعودة الى مهنة المحاماة حرا من قيود الالتزامات الرسمية التي لاتتلائم وطبيعةالانصراف للادب.
اصدر الشالجي كتبا فريدة في بابها توزعت على الاستقراء الادبي والتحقيق؛ ومنها موسوعات : العذاب؛ الكنايات البغدادية؛ جمهرة الامثال البغدادية ( وتقع هذه الكتب الثلاثة في 14 مجلدا )؛ اما التحقيق فقد شمل الفرج بعد الشدة ( 5 اجزاء ) ونشوار المحاضرة (8 اجزاء ) وهما للقاضي التنوخي؛ اضافة الى الرسالة البغدادية لابي حيان التوحيدي. لقد طبعت هذه الكتب اكثر من مرة ونالت التقدير العالي من الهيئات العلمية والاكاديمية العربية والاجنبية والنقاد؛ لما اتسمت به من براعة ادبية رفيعة المستوى في دقة االبحث وحسن الصياغة والسبك واشراق البيان اضافة الى ما كان يتطلبه هذا الجهد الكبير من الصبر والجلدوألاناة اثناء التجوال الشاق في مراجعة النصوص والبحث في الاصول والفروع؛ او التقاط الكلمات والتعابير من افواه العامة او المتخصصين في الكنايات والامثال والحكم وما الى ذلك. وبحسب اطلاعي الشخصي فما زال في خزانة الشالجي؛ من البحوث والدراسات والمقالات والذكريات غير المطبوعة ما يشكل رصيدا معتبرا في رفوف المعرفة الموسوعية الفريدة؛ مما يحمل الغيارى من افراد اسرته والباحثين في التراث والادب على نشره ليفيد منه هذا الجيل والاجيال القادمة.
التعليقات