الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة /
علي محمود الشيخ علي
كان مناضلا وطنيا صلبا؛ وأديبا ساحر العبارة؛ وخطيبا مفوها؛ قبل ان يعتلي منصة القضاء العالي في محكمة التمييز؛ ليجّود في تحرير القرارات القانونية؛ ذات الحيثيات المعتبرة والاسانيد المعللة المدللة التي لم تكتف بالنصوص ركيزة لها؛ بل اعتمدت على التبحر في التفسير والتوضيح والاستنباط كمنابع معرفة في جوانب الفقه من القانون. والذي يقرأ صفحة من مذكراته المنتظمة في كتابه (محاكماتنا الوجاهية) يرى صورة من المرافعات القضائية الحية كتبت باسلوب يقرب من السرد القصصي الحواري الوثائقي؛ فقد تناسق في يراعه مداد القانون والادب؛ فما عاد من السهل فصلهما عن بعض.
اعتقل وسجن اكثر من مرة بسبب نزعته الوطنية التي تجلت في انتمائه الحزبي او مواقفه الخطابية او مقالاته الجريئة التي برزت في الصحف التي اصدرها او التي شارك في تحريرها؛ كالاستقلال والرافدين وصديق الشعب وصوت العراق... الخ
انتخب الشيخ على نائبا في البرلمان اكثر من مرة واصبح وزيرا للعدل ثلآث مرات ووزيرا للمالية كما اشغل وظائف مهمة كان فيها صورة للكفاءة والنزاهة والادارة الحازمة. اما في المحاماة فقد كان من الشخصيات البارزة التي احتلت مكانة مرموقة في هذه المهنة الجليلة؛ لما اتسم به من علم قانوني واسع؛ ومهارة بارعة في طرح القضايا والذود عن طروحاته سواء من خلال دفوعه او لوائحه التي اتسمت جميعا بفصحاة تقترب من السهل الممتنع.
.في عام 1936 انظم الى الاسرة القضائية؛ حينما عين حاكما في محكمة التمييز؛ وبعد سلسلة من الاستيزارات وتقلد الوظائف العامة؛ كان الاعتقال والسجن لاسباب سياسية؛ ثم العودة الى محكمة التمييز عام 1953 كنائب لرئيسها ليمكث في منصبه لاكثر من خمس سنوات؛ حيث قام باعباء مهمته خير قيام؛ سواء برئاسة الهيئات الخاصة او الهيئة العامة او اللجان المنبثقة عنها. وبالرجوع الى ملفات تلك الحقبة؛ سيجد المتتبع الباحث عشرات من مشاريع القرارات او التعقيبات او الملاحظات او التحفظات التى سطرها بخط يده؛ كشهادة حية على كفاءته القانونية ورفعة بيانه الادبي؛ وقدرته على التبحر في اكثر من رأي قبل التوصل الى الصائب منه.
قال لي شقيقه المرحوم المحامي عبد الجبار الشيخ علي مرة ونحن في معرض التنويه والاشادة بنتاج هذا القاضي الاديب (لو اتيحت الفرصة لشقيقي ان يجمع كل خطبه البرلمانية؛ والسياسية؛ وكل مقالاته وبحوثه التي نشرتها له الصحف والمجلات؛ لكانت لدينا ثروة فكرية وثقافية على المستويين القانوني والادبي؛ ولكن الظروف كما يبدو لي لم تسعفه ولم تسعفنا نحن ايضا)
من الكتب التي طبعت له اثناء حياته (آراء في القضية العربية وذكريات عنها 1950؛ المعاهدات غير المتكافئة 1952؛ محاكمتنا الوجاهية 1966؛مذكرات وتعليقات الجزء الاول 1966) اما بعد رحيله في كانون الاول 1967؛ فقد تم طبع (مذكرات على محمود الشيخ علي؛ ـ تحقيق وتعليق الدكتور محمد حسين الزبيدي ـ 1985). والذي يتوجب ذكره ان مقالاته او تعليقاته وكذلك رسائله التي كان يبعث بها لاصدقائه الكثر؛ كانت تمثل بحد ذاتها قطعا بلاغية من الادب الرفيع.ومنها على سبيل المثال؛ وصفه لمجلس نواب 1934 بعد الاجتماع الاول بقوله : ــ
(انتهت الانتخابات فجاءت بشر ما تمنى به الاوطان؛.....وفي رؤوس اغلبية المنتخبين الجدد تتجمع الجهالة والغباوة؛ فانك اذا فتشت عن الثقافة والفهم بينهم؛ وأهتديت بسراج ديوجونيس؛ لما استطعت ان تجد لها اثرا الا في بعض الرجال الذين قرروا الاستقالة عندما يلتئم المجلس ويستقيم أمره...). ومن تعبيراته الدقيقة عما يدور في ذهن الشعب من ارهاصات عصيبة قوله في كتابه ــ محاكماتنا الوجاهية ــ (لا امل يرتجى من هذا النظام الذي ربط مصيره بمصائر الامبرياليين؛ وان لا طريق امام الشعب وقواه الوطنية سوى العمل على ازاحة هذا النظام بالقوة.) ومع ان هذا التعبير كان يمثل الرأي السائد عند كل القوى الوطنية الا ان انتقاءه بهذه الدقة والصياغة المكثفة المباشرة؛ دلل على المستوى العالي من الاحساس برغبات الشعب.
جعفر النقدي
في الاربعينات من القرن الماضي؛ وانا في متوسطة الكرخ؛ راجعت المكتبة العصرية لشراء كتاب (فقه اللغة للثعالبي) بناء على طلب استاذي الحاج عارف الوسواسي؛ للافادة منه في اغناء لغتي العربية؛ وما كدت اادخلها حتى التقيت برجل يجلس على كرسي مجاور لمنضدة صاحب المكتبة الذي لم يكن موجودا آنذاك؛ كان رجلا في الستينات من عمره؛ صبوح الوجه؛ تعلو ثغره ابتسامة لم تفارقه؛ سألني عن حاجتي؛ فذكرت له مطلبي؛ فطلب مني الجلوس لحين عودة السيد محمود حلمي؛ فلما جلست؛ راح يحدثني باستفاضة العالم عن فقه اللغة ومعناه؛ وفوائده؛ وتفاصيل محتوياته؛ ولما عاد صاحب المكتبة السيد حلمي وسلمني الكتاب المطلوبوجد من المناسب ان يعرفني بشخصية ذلك الجليل المتحدث قائلا (انه السيدالعلامة الشيخ جعفر النقدي ـ قاضي البصرة وهو في زيارة لبغداد)؛ وكعادتي سجلت الاسم والوظيفة وانا في شارع المتنبي.
مرت سنوات على ذلك اللقاء العابر وبينما كنت اقرأ الصحف عام 1951 واذا بي افاجأ بخبر رحيل ذلك العلم البارز والموسوعة الفكرية المتنقلة؛ لقد رثته الصحافة والنقاد والشعراء باحسن ما يرثى به النوابغ ؛ مشيدين بما تركه من آثار في التاريخ والفقه والشعر.
درس النقدي بجد وتعمق؛ اللغة العربية؛ نحوا وصرفا وبلاغة؛ وحفظ عيون الشعر؛ وآيات البيان؛ للقدامى والمحدثين؛ فقاده ذلك الى نظم الشعر مبكرا؛ وقد فتحت الصحف والمجلات الادبية ابوابها لنشر نتاجه الابداعي؛ كالغري؛ والبيان؛ والهاتف؛ والناس؛ والعرفان... الخ
فذاع صيته وبرز اسمه في الاوساط االادبية ومجالسها الاجتماعية اضافة الى بروز اسمه كاحد اعلام القانون وبخاصة ما يتعلق بالاحوال الشخصية.
تولى النقدي القضاء الشرعي سنوات عدة؛ كان اولها حينما عين في العمارة عام 1919؛ ثم تنقل في منصبه هذا في مدن اخرى كان آخرها في البصرة عام 1945؛ كما اشغل منصب العضوية في مجلس التمييز الشرعي الجعفري و في عام 1947 اعتزل الخدمة القضائية عند بلوغه السن التقاعدية. عرف النقدي بعلو مكانته الفقهية وعمق قراراته العادلة التي اتسمت بالالتزام بقاعدة التوازن المنصف؛ والتيسير في الافتاء وهو ما حبب الناس فيه وقربهم منه.ولو تسنى للباحثين في امور الفقه؛ الرجوع الى قرارته في احكامها الاولى او التميزية منها؛ لوجدوا فيها كنزا ثمينا من التراث الفكري القانوني الذي يستند اليه كمرجع اساس من مراجع الفقه.
ترك النقدي آثارا في مدح آل البيت الطاهرين ومآثرهم؛ كنزهة المحبين في فضائل أمير المؤمنين؛ وفاطمة بنت الحسين؛ وزينب الكبرى؛ اضافة الى الاسلام والمرأة؛ والدروس الاخلاقية؛ واباة الضيم في الاسلام؛ والانوار العلوية؛.... الخ وتقف الى جانبها عشرات البحوث والفتاوى الشرعية التي تعرف عليها رجال القانون من خلال النشر والتداول.
ولعل مطارحاته الشعرية مع شعراء جيله؛ ولعل ابرزها مع العملاق الجواهري والتي حفلت بها صفحات الادب في حينه وتناقلتها بعدئذ الكتب المؤرخة له؛ ما يمنحنا جميعا نفحة عطرية تعبر عن صدق الود والوفاء وهوما كان يميز ذلك الجيل بمزايا الوفاء و اواصر المحبة والصفاء : يقول النقدي: ـ
لو كان يألف قلب الصب سلوانا ما بات يصلى بأيدي الشوق نيرانا
او لم يكن ذاب وجدا في محبتكم لما تعذب بالاشجان ألوانـــــــــــــا
حملتموه هموما لو تجشمهــــــــا ثهلان دكت على الغبراء ثهلانـــا
مقدمات على دعواه أنتجــــــهـا قياسها مدمع الاجفان برهـــــــانـا
انسان عيني جرى دمعا فأغرقني وربما اغرق الانسان؛ انسانــــا
التعليقات