النقد البناء تعبير يستخدم في الخطاب العربي المعاصر ليسلب من النقد كل فاعلية ويجعله متواطئاً مع استمرار التخلف الراهن.
النقد أول إشارات الانطلاق لتغيير الواقع المتخلف، ولهذا السبب ينبغي له أن يكون جذرياً يصل إلى الأسس التي يقام عليها بناء الواقع بأسره ولهذا السبب أيضاً ينبغي له أن يكون شاملاً يطول كل مناحي الحياة. وهذا النقد المطلوب يطلق عليه في العادة اسم النقد الهدام. ففي المحافل وعلى صفحات الجرائد وفي أجهزة الإعلام تصب اللعنات على النقد الهدام ويتهم أصحابه في العادة بتهم ثلاثة: الجحود فالناقد نسى فضل الدولة أو الحكومة أو أساتذته فيما وصل إليه. وثانيها هو التشاؤم حيث أن الناقد الكئيب والمكتئب يريد أن ينقل نظرته السوداوية إلى المحيطين به بالرغم من أنهم مزودين بالأمل وكلهم إقبال على الحياة. والتهمة الثالثة هي الاستسهال حيث أن الناقد لا يريد أن يكلف نفسه مشقة الفحص والتمحيص والدراسة الموضوعية ويقرر هدم كل شيء.
في مواجهة النقد الهدام يرفع كبار المسئولين شعار النقد البناء. ولعلنا نلاحظ أن هذه الكلمة يكثر استخدامها لدى ذوي المناصب الكبيرة وممثلي السلطة. فبعد أن يعلن أحد هؤلاء الكبار أنه طوال حياته كان ديموقراطياً لا يضيق بالرأي الآخر وأنه واسع الأفق يدرك أهمية النقد في إحداث التطور لا ينسى أن يؤكد أنه يقصد النقد البناء وليس النقد الهدام أو التجريح.
ولو حاولنا تحليل خطابهم لنقف على سمات هذا النقد البناء التي تسمح لنا بتمييزه عن النقد الهدام لوجدنا أنهم يميزونه بسمتين رئيسيتين: أولهما أنه نقد موضوعي لا يذكر السلبيات وحدها وإنما يذكر الإيجابيات أيضاً، وثانيهما أنه لا يكتفي فقط بإبراز المشاكل ولكن يقدم الحلول أيضاً. وهاتان السمتان كفيلتان بأن تنزعا من النقد كل فاعلية. فبالنسبة للسمة الأولى التي تفرض ضرورة ذكر الإيجابيات تفترض أن الناقد يصحح أوارق إجابات الطلاب في الامتحان أو عضو لجنة تحكيم يمر عليه المتسابقون أو أعمالهم وعليه أن يتسم إزاءهم بالإنصاف. إن النقد يختلف عن التقييم. والناقد إنسان يعاني أو يتحدث باسم من يعانون وليس دوره على الإطلاق ذكر الإيجابيات. فهذه الإيجابيات، إن كانت موجودة، ستجد من يتحمسون لعرضها والإشادة بها والمبالغة فيها. وحتى وإن لم تكن موجودة سوف يكون هناك من يختلقونها اختلاقاً بدافع النفاق والوصولية أو خداعاً لتكريس الشرعية. ولا تفتقر الإيجابيات على الإطلاق إلى جملة أو جملتين يقولهما الناقد في آخر خطابه أو مقاله بزعم الموضوعية، بل على العكس سوف يكون لذكر هذه الإيجابيات دوراً سلبياً لجدوى النقد.
فلو أخذنا على سبيل المثال كتاب quot;مقال في الحكومة المدنيةquot; للفيلسوف الإنجليزي جون لوك وهو الكتاب الذي يحمل على الملوك الذين يقيمون شرعية حكمهم للشعوب على أساس الحق الإلهي ويبين مظالمهم ويفند مزاعمهم واعياً إلى ضرورة أن يكون الشعب هو مصدر السلطة وأن يكون رضاه هو أساس الشرعية. لو افترضنا أنه في نهاية هذا الكتاب ذكر لهؤلاء الملوك بعض الإيجابيات كأن يقول إنهم خلفوا تحفاً معمارية عظيمة مثل القصور والكنائس أو إنهم استطاعوا حماية أوروبا من هجمات الأجناس الأخرى. لفقد نقده كل قوته ولما كان له هذا الأثر المعروف في إطلاق مسيرة الديموقراطية والعلمانية في أوروبا.
ومن هنا نأتي لفحص السمة الثانية التي تميز النقد البناء في خطابنا الثقافي وهي ضرورة تقديم الحلول عند الحديث عن المشاكل. وكلنا نعرف أن تقديم الحلول من شأن الخبراء والمختصين. أما النقد فهو مفتوح لكل مواطن. ولا ينبغي للإنسان حتى يشكو من صعوبة المواصلات أن يكون خبيراً في التخطيط العمراني، كما أن ولي الأمر الذي يلاحظ تدهور مستوى التعليم لدى أولاده أو المثقف الذي يريد أن يحذر من سوء عاقبة هذا التدهور التعليمي على مستقبل البلد ليس ملزماً بالعكوف على النظريات التربوية لاقتراح حلول يمكن للوزارة تطبيقها. وهكذا فهذه السمة الثانية التي تقتضي تقديم حلول عند إبراز المشاكل هدفها في حقيقة الأمر إسكات الأصوات وسلب حق النقد من المواطنين.
إن المواطنين في المنطقة العربية اليوم لا يطالبون بتحقيق الجنة على الأرض وليست مطالبهم نابعة من ميل إلى الطمع أو الترف. إنهم فقط ينظرون حولهم إلى باقي خلق الله ويشعرون أن قد آن الأوان لتتوفر لهم الحدود الدنيا من حياة إنسانية كريمة تليق بهم كبشر مثلهم مثل الآخرين. ولكن هذا المطلب البسيط يحتاج إلى الكثير والكثير من النقد الهدام.
التعليقات