الجمعة: 14. 10. 2005


على هامش اعمال اليوم العالمي العشرين للشباب الكاثوليكي حول العالم التقى الباب بندكت السادس عشر بابا روما بقيادات الجالية الاسلامية هناك وقد دعا في لقائه الى ضرورة التعاون من أجل مكافحة الارهاب ومواجهة طرائقه المتوحشة في الاعتداء علىالانسانية ومحذرا من فتح ابواب الكراهية ومن جديد على العالم.

وقبل يوم من هذا اللقاء زار الحبر الروماني الكنيس اليهودي في كولونيا حيث أطلق دعوته والتي حملت «بعون الله يمكننا بناء عالم أكثر عدالة وسلاما يعيش فيه الجميع بالتساوي في الحقوق والواجبات«.

وبحال من الاحوال لا يستطيع احد ان ينكر المخاوف التي انتابت العالم الاسلامي غداة اعتلاء الكاردينال الالماني جوزيف راتزينجر الكرسي البابوي في ابريل من العام الجاري ولا سيما بعد ان أتى في بداية احاديثه على العلاقة بين اليهودية والمسيحية واغفل الاشارة الى الاسلام، لكنها مخاوف تبددت سريعا غداة اعلانه عن دعمه وترحيبه للحوار الاسلامي المسيحي بعد لقائه عددا من الرموز الاسلامية الذين شاركوا في حفل تنصيبه.

ومع العمليات الارهابية التي وقعت في العاصمة البريطانية لندن وفي ضوء التحذيرات المتتالية في ايطاليا عاصمة الكثلكة وقبلة الكاثوليك في العالم من وقوع عمليات ارهابية جديدة عاودت المخاوف من ان تكون تلك الاحداث حجر عثرة في طريق التصالح الذي بدأه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني مع كافة الاديان وعلى رأسها الاسلام وأكمل مسيرته البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. الا ان موقف البابا بندكت السادس عشر من هجمات السابع من يوليو جاء ليبدد تلك المخاوف ورفض اعتبار ما جرى هجمات ضد المسيحيين وأكد بيان حاضرة الفاتيكان على انها هجمات ضد الانسانية وبهذا الموقف دعا الحبر الروماني الى النظر ابعد بكثير من الرؤية المذهبية المتحزبة فاتحا الباب لكل الامم والشعوب لتواجه سويا تيارا يرى في الآخر الجحيم بعينه كما قال الفيلسوف الفرنسي سارتر ذات يوم. ومما لا شك فيه ان قضية الارهاب من القضايا التي اهتمت حاضرة الفاتيكان بتناولها الشهور القليلة الماضية في آخر وأهم الوثائق التي صدرت عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فيما عرف باسم «وثيقة عقيدة الكنيسة الاجتماعية« وهي التي على ضوئها يمكن فهم رؤية البابا بندكت ودلالات حواراته مع الجالية الاسلامية في كولونيا والذين يمثلون قطعا رمزا للعالم الاسلامي في كافة البقاع والاصقاع.

تقول الوثيقة «إن الارهاب باسم الله تدنيس وتجديف على اسمه القدوس فالارهاب يجعل من الله وسيلة على غرار الانسان لتحقيق اهدافه المجرمة. ويدين المستند الارهاب بقوة لأنه يزدري الحياة البشرية ولا مبرر له لكون الانسان هدفا وليس وسيلة لذا من حق الانسان ان يدافع عن نفسه من جميع اشكال الارهاب ولكن ليس بطريقة عشوائية وفارغة.

وقال البابا بندكت في لقائه بزعماء الجالية المسلمة في المانيا «يمكننا ان ننجح في ازالة الاحقاد من القلوب ومقاومة كل اشكال عدم التسامح من اجل الحفاظ على السلام العالمي«. لكن كيف يمكن ان نبلغ هذا في ضوء ما يسمى بالحملة العالمية ضد الارهاب والتي كثيرا ما تنظر للعالم الاسلامي وللاسلام نفسه كما فعل الكاتب والمفكر الامريكي المعروف (ادوارد لوتواك) على انه (لا فرق بينه وبين الارهاب) وان الارهاب هو مجرد وسيلة وان عدونا هو الاسلام، الاسلام العنيف، ولابد ان نتجرأ على تسمية الارهابيين باسمهم الحقيقي؟

تجيب وثيقة عقيدة الكنيسة الاجتماعية على التساؤل السابق بالقول ان الصراع ضد الارهابيين يقوم على احترام حقوق الانسان ومبادئ دولة القانون ومن هنا وجب تحديد المسؤولية بدقة لأن التهمة الجنائية شخصية وفردية ولا يمكن رميها على الاديان والامم والقوميات التي ينتمي اليها الارهابيون. وفي هذا المنطوق دافع بين واضح يشير الى ما انسحب على العالم الاسلامي وبصورة خاصة على الدين الاسلامي ولا سيما بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر اذ صارت تهمة الارهاب لصيقة ووثيقة بكل ما ومن هو اسلامي من أقصى الأرض الى ادناها.

والمؤكد كذلك ان منطوق الوثيقة الجديدة يتفق مع توجهات الفصل الخامس من دستور الكنيسة في العام المعاصر وهو احد دساتير المجمع السابق ذكره والذي يحمل عنوان «صون السلام وبناء جماعة الامم« وفيه: أن الاسرة البشرية تبلغ اليوم مرحلة حاسمة من تاريخ تطورها في هذه السنين وبالذات التي ما تزال الحروب تنهال علينا فيها مخربة تارة ومهددة تارة اخرى والانسانية اذ هي تتجمع شيئا فشيئا وتزداد وعيا لوحدتها في كل مكان عليها ان تنهض بمهمة لا سبيل الى انجازها الا اذا ارتد الجميع الى السلام الحقيقي بروح جديدة فالسلام ليس مجرد عدم وجود الحرب وهو لا يقتصر فقط على تأمين توازن القوى المتخاصمة كما انه ليس سيطرة استبدادية بل ان السلام كما وصف وبحق عمل عدالة وينبغي للسلام ان يتحقق على ايدي البشر الذين لا يكفون عن التطلع نحو المزيد من العدالة.

من هذا المنطلق تفهم دعوة البابا بندكت لحتمية تضافر الجهود بين الاديان ولاعلان جبهات موحدة ضد دعاة الظلام وطيور الاظلام وان البديل المتبقي هو ان يتعرض العالم لأعمال همجية تتصف بالضلال والتحلل من اي قيمة انسانية او مبادئ ايمانية لا تنفك ان تنقلب الى هجمات وحشية ضد الانسان والانسانية. وفي تصريحات البابا بندكت ذاتها رفض للعنف بكل مظاهره وهذا يعود بنا الى الوثيقة ذاتها والتي فيها ادانة واضحة لفكرة العنف المسبق والحروب الاستباقية التي تولد ردود فعل مغايرة تقود العالم الى المزيد من الصراع باسم الدين فتقول «ان اي هجوم عسكري او عمل حربي استباقي ضد اي دولة دون ادلة اولية على قيامها بهجوم وشيك يطرح تساؤلات سلبية على الصعيد القانوني والاخلاقي وان مثل هذه القراءات يجب ان تكون من خلال الهيئات المعنية دون غيرها وبناء على أدلة ودوافع صحيحة غير قابلة للشك.

والواضح ان ما جاء في الوثيقة يعد وصفا تفصيليا للحالة العراقية والتي كان الفاتيكان فيها خصما واضحا للولايات المتحدة ولا يزال بل ويرى ان العنف المستخدم هناك سيقود المنطقة والعالم الى جبهوية دينية من خلالها سيعمد البعض للتخطيط للمزيد من الهجمات التي تدمر ولا تعمر وتقضي على اي محاولة لبناء حياة يسودها السلام والعدل والسكينة.

وفي كلمات بابا روما كانت هناك حالة من التعميم حتى لا يفهم حديثه بأنه موجه للعالم الاسلامي دون بقية العوالم والعواصم المسيحية ان جاز القول. فهو يؤكد على اننا اذا استطعنا معا ان ننجح في مقاومة اية شكل من اشكال التعصب ومعارضة كل مظاهر العنف فسنصد موجة التطرف الوحشي الذي يهدد ارواح اناس كثيرين. وربما لا يعرف الكثيرون ان الفاتيكان في قراءته «للدفاع عن السلام العالمي« قدأحدث في الايام الماضية ثورة تزلزل اركان الامبراطوريات التي تستند الى الحق العسكري وليس الى الحق الادبي او الاخلاقي او الحق الالهي الوارد في النواميس والشرائع الالهية بتصريحه الذي جاء فيه ان كل جندي في القوات المسلحة ملزم اخلاقيا بالاعتراض على الاوامر التي تحرض على القيام بجرائم ضد حقوق البشر والمبادئ الانسانية ومسؤول مسؤولية كاملة عن الاعمال التي ينتهك بها حقوق الاشخاص والشعوب وانه لا يمكن تبرير هذه الاعمال بسبب الانصياع للاوامر العليا داعيا الى تفهم من يرفض استخدام السلاح لأسباب تتعلق بالضمير. وهذا بدوره يقلص مساحة الارهاب الدولي المستتر وراء مصطلحات استعمارية مستحدثة. والشاهد ان هذه القراءة اكد عليها البابا بندكت في لقائه بالجالية الاسلامية عندما تساءل كم من صفحات التاريخ التي تسجل معارك وحروبا شنت كان فيها الجانبان (الاسلامي والمسيحي) يرفعان اسم الله وكان القتال وقتل العدو يمكن ان يكون مبعثا لسرورهما. وما اوسع الهوة التي تفصل بين حاضرة الفاتيكان اليوم في عهد بندكت السادس عشر الذي يحمل رسالة حضارية قوامها الحوار ووسيلتها الوصل والتواصل وعمادها التعايش الانساني ومكافحة افعال الارهاب على كافة انواعها وبين المشهد الآتي من بعيد غداة الحروب الدينية التي دعمها البابا اوربان الثاني ذات يوم وقد كان الحضور الديني على الجانبين سببا في آلام ومرارة لا تزال عالقة في النفوس وان استحضار ذكراها الحزينة يجب ان يملآنا بالخجل لأننا نعرف جيدا الفظائع التي تم ارتكابها باسم الدين.

والحاصل ان هذا اللقاء التاريخي يؤكد من جديد على الرغبة الصادقة في بناء الجسور وهدم الجدران العازلة وان كان البعض قد تمنى على الباب زيارة مسجد في ألمانيا على غرار زيارته للكنيس اليهودي فربما تكون هذه هي الخطوة القادمة له في محاولته الجادة لتجسير الفجوات التي ملأتها الكراهية وتمثلت في قتل هنا وفتك هناك ولا يستبعد احد مثل هذه الزيارة ولا سيما بعد ان سجل البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الكبير مشهدا تاريخيا بخلع نعليه امام المسجد الاموي الكبير في دمشق كما ان البابا الحالي يؤكد ومنذ توليه مهامه على انه سائر على الدرب ذاته درب يوحنا بولس الثاني، درب عنوانه (أنت اخي وأنا أحبك).

كاتب مصري