حسن عزالدين



قد يبدو هذا التساؤل غريباً بالنسبة للبعض في عالمنا العربي بالرغم من أن المعطيات المتوفرة تؤكد انقسام هذا laquo;البعضraquo; في الإجابة عليه بين مؤيد لفكرة التخويف من روسيا ، وبين رافض لمنطقها.
لكن هذا التساؤل بات يشكّل على ما يبدو قاعدة ارتكازية لكل من أجبرته أو ساعدته الظروف لكي يخاف من روسيا، القوية تحديدا، وخصوصا بعض منظّري دول وسط وشرق أوروبا الذين قررت دورة التاريخ أن تضعهم حاليا في خندق مواجه لهذه الدولة العظمى، في وقت كانوا ذات يوم يحلّقون في فلكها الواسع.

ولأن المرحلة التاريخية الحالية تبدو في مشهدها العام وكأنها مخاض لمرحلة أخرى جديدة ليست واضحة المعالم بعد، فأن ما يصدر عن هؤلاء المنظّرين يعكس بلا شك طبيعة الفرز الإيديولوجي الخطير الذي بات سائدا في هذه المنطقة من العالم، والتي تصر صفوتها بكل ما أوتيت من قوة أن تستخدمه لكي تجذّر انتماءها الجديد للغرب، وتخلق الوقائع الجديدة على كافة المستويات السياسية والعسكرية والإيديولوجية.. وحتى الاجتماعية.

من هذا المنطلق فأنه قد يكون مفيدا الإطلاع على هذه التيارات الفكرية والإيديولوجية الجديدة والاستفادة من منطقها الذي قد يكون سلبيا أم إيجابيا لا فرق، وذلك بهدف توضيح رؤيتنا حول تطورات الوضع الأوروبي الآخذ بالتبلور شيئا فشيئا، وأخذ العبر منها.

ولستُ حالما بأي شكل من الأشكال أننا كشعب عربي سنتمكن من لعب دور مؤثر في ما يجري، لكن بما أن منطقتنا كانت ولا تزال تتأثر دائما بما يجري من أحداث دولية، وكانت ولا تزال محور التجاذب السياسي والعسكري بين القوى الكبرى، فأننا قد نجد أنفسنا مرة أخرى في أتون صراع جديد أو حجر على رقعته، دون أن نتمكن من أن نفعل الشيء الكثير.

يقول أحد هؤلاء المنظّرين laquo;إن روسيا باتت اليوم جزءا من العوامل الدولية المثيرة لعدم الاستقرار، وأن السبب الرئيسي لذلك يكمن في أنها قد تعافت بسرعة كبيرة جدا ومثيرة للشبهةraquo;. والمقصود هنا بالمعافاة هو أن روسيا التي خرجت قبل بضعة أعوام مثقلة بالتركة الكبيرة التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي السابق من ديون ومشاكل اقتصادية وما شابه، باتت اليوم تختلف كثيرا عن روسيا في بداية التسعينات.

حيث تمكّنت من استيعاب الصدمة في فترة زمنية قصيرة جدا ، وتحمّلت وزر الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة، وصمدت بشكل مثير للإعجاب حسب رأي كثيرين أو مثير للاستغراب حسب رأي بعض منظري أوروبا ، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم فباتت تزيح تدريجيا الغطاء الذي كان يسترها وتظهر للعالم بمظهرها الجديد.

ما يخيف كثيرين في وسط وشرق أوروبا ( وربما في غربها أيضا ) هو أن روسيا بدأت تظهر اليوم كدولة فائقة الثراء، وأن رئيسها بدأ يتعاطى مع باقي العالم بثقة كبيرة بالنفس منطلقا من إيمانه بحقيقة ما يختزنه الشعب الروسي من قدرات هائلة، وما تملكه دولته من آفاق استراتيجية لا يستهان بها.

ولا يخفي هؤلاء قلقهم من حقيقة أن روسيا تمكنّت من التحول في غضون بضعة أعوام من دولة كان يصل حجم دينها الخارجي في العام 1999 إلى حوالي 177 مليار دولار، في حين باتت تملك اليوم - وفق الإحصائيات في أوروبا الشرقية - احتياطيا كبيرا من العملات الصعبة يصل إلى حوالي 8,413 مليار دولار.

كيف يمكن لنا، وفق مفهوم البعض ، أن نطمئن لدولة كانت غارقة بالديون وباتت اليوم تملك ثالث أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم؟ وكيف يمكن أن نأمن جانب دولة ارتفع ناتجها الاجمالي المحلي من 5, 10830 مليار روبل حتى العام 2002 ليقفز في العام الماضي إلى 1 ,26781 مليارا؟

لكن إذا تعمّقنا بتجرّد وموضوعية في هذه النتائج وأضفنا عليها نتائج مهمة أخرى تحقّقت في روسيا مؤخرا على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فهل أن الشعور بالقلق السائد لدى البعض في أوروبا يبقى منطقيا أم أنه مبالغ به كثيرا؟

وهل يحق لنا أن نقلق من الخطط التي ترسمها القيادة الروسية لتنمية اقتصادها ومجتمعها بشكل تدريجي خصوصا إذا علمنا من الإحصائيات الرسمية بأن هذه الخطط تمكنت، في الآونة الأخيرة على الأقل، من خفض عدد السكان الذين يعيشون ضمن أو تحت خط الفقر بمعدل النصف، أو أنها تمكنت من جذب استثمارات أجنبية هائلة بلغ معدل ارتفاعها خلال العام الماضي 5, 39 % ؟

أعتقد بأن جوهر الخلاف في كيفية تعاطي بعض منظري أوروبا الشرقية خصوصا مع روسيا يكمن في التجربة التاريخية التي مرت بها العلاقات الثنائية، والتي لا تزال آثارها ماثلة في نفوس كثيرين ممّن يصرون حتى اليوم على وضع روسيا في خانة لا تريدها الأخيرة لنفسها انطلاقا من حقيقة التغييرات الكثيرة التي وافقت على خوضها وأدّت في نهاية المطاف إلى رسم خارطة جديدة للعالم .

ويتبيّن من خلال التطورات الأخيرة التي تحفل بها السياسة الدولية بأن الخوف ينبع على ما يبدو من الواقع العسكري الجديد الذي بات يفرض نفسه على شكل تحالفات وأحلاف جديدة، حيث أن روسيا القوية اقتصاديا والمتماسكة اجتماعيا قد تستعيد دورها كقطب دولي مؤثر على الساحة العالمية معتمدة أيضا على ترسانتها العسكرية التي لا يوجد في العالم من يشكك بإمكانياتها وقدراتها الهائلة.

أنه إذا خوف من الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا مجددا على الساحتين الإقليمية والدولية، وقلق واضح من قدرتها على إعادة خلط الأوراق فيما يتعلق بالخيارات الاستراتيجية التي قررت دول وسط وشرق أوروبا تبنّيها. وينساق هذا القلق بطبيعة الحال على الدور البارز والمهم الذي يمكن لروسيا أن تلعبه مجددا في أماكن أخرى من العالم كانت في السابق ولا تزال ضمن laquo; البيئة الصديقةraquo; للنفوذ الروسي إن صح التعبير.

ما هو مطلوب منّا كعرب في خضم ما يجري هو الوقوف وقفة موضوعية لتقييم أهمية أي دور قد تلعبه روسيا في الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط، وهو دور قد يكون مفيدا بالنسبة للبعض ومضرا بالنسبة للبعض الآخر، انطلاقا من التجارب التاريخية الكثيرة التي تسمح لكثيرين بأن ينقسموا بين مؤيد لفكرة التخويف من روسيا (بصفتها الدولة الحليفة التي لم تكن قادرة على منع وقوع المآسي الكثيرة في منطقتنا)، وبين رافض لمنطق هذا التخويف انطلاقا من حجم التضحيات الكثيرة التي قدمها الشعب الروسي لمصلحة قضايانا الوطنية.