عبدالمنعم سعيد


الأخبار المفرحة في منطقتنا قليلة، ولكن واحدا منها جاء مؤخرا وهو أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر قررت تشكيل لجنة لمراجعة برنامج الحزب المقترح للجماعة بعد الثورة التي قامت على البرنامج. والخبر مفرح مرتين، مرة لأن هناك من يؤمن بفضيلة المراجعة، ولو أن كافة التيارات السياسية المصرية والعربية آمنت بهذه الفضيلة لربما صلحت أحوالنا كثيرا. ومرة لأن الرأي العام والمثقفين أصبح لهم وزن في العملية السياسية بحيث باتت تقييماتهم وآراؤهم أكثر وعيا مما كان عليه الحال في الماضي، ورغم الشعبية الكبيرة لحركة الإخوان في مصر، فإن أحدا ليس على استعداد لإعطائها، أو أي تيار سياسي آخر، شيكات على بياض. ومهما كانت العواطف الدينية طاغية فإن الناس تعرف عن يقين أن الدولة الدينية وحكم رجال الدين هي أقصر الطرق نحو الاستبداد والفاشية على الطريقة الطالبانية السنية الأفغانية أو الطريقة الخومينية الشيعية الإيرانية.

ولكن المراجعة لبرنامج الإخوان لن تكون حقيقية ما لم يتعد الوجه الشائع للدولة الدينية والمتعلق بهيئة علماء الدين الذين تم إعطاؤهم سلطة فوق السلطة التشريعية فيما يتعلق بالأمور قطعية الثبوت والدلالة، وهي أمور مختلف عليها بين العلماء في مدى اتساعها وضيقها بين الفقه الشيعي والسني، وحتى داخل الأخير فإن هناك ظلالاً وتنويعات شتى. فحتى لو تم تقنين هذا الوضع دستوريا فإن الفتنة الكبرى سوف تقوم فى كل مرة يختلف فيها ممثلو الشعب مع علماء الدين الذين سوف يعبرون عن السلطة الإلهية في هذه الحالة بينما ممثلو الشعب يمثلون سلطة دنيوية أقل شأنا لأنها محكومة بالبشر أهواء ومصالح!

هذا الوجه الأول للدولة الدينية الإخوانية، على أي الأحوال، قد بات مستنكرا ومرفوضا من جماعة معتبرة داخل الإخوان سواء استنادا إلى الانتهازية السياسية التي ترى أن الحالة السياسية لا تسمح بمثل ذلك، أو بسبب التطور الديمقراطي والحكمة الليبرالية داخل الجماعة والتي تعرف تماما معنى أن الشعب هو مصدر السلطات، وان الدولة المصرية دولة تقوم على أساس المواطنة منذ أن عرفت عند نشأتها العصرية أن الدين لله والوطن للجميع. وهنا على وجه التحديد نصل إلى الوجه الثاني للدولة الدينية داخل حركة الإخوان والذي ينبغي على لجنة المراجعة أن تنظر إليه بإمعان وتدقيق. فما حدث خلال الأعوام الماضية هي أن الجماعة قامت بتجزئة الدستور المصري إلى جانبين: جانب توجد فيه المادة الثانية للدستور التي تقول بأن الدين الإسلامي هو دين الدولة، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وجانب آخر توجد فيه بقية مواد الدستور والبالغة 214 مادة. وجرى العرف داخل الجماعة على البدء بالجانب الأول ثم الانطلاق منه إلى الشريعة ونصوصها مع الإسقاط التام لكل ما هو موجود في الدستور بعد ذلك. وقد ظهر ذلك بشكل واضح عندما أقاموا هيئة العلماء لأنهم أسقطوا المادة الثالثة الدستور التي تقول بأن الشعب هو مصدر السلطات؛ وعندما وقفوا ضد حقوق البهائيين في حرية الاعتقاد، وضد المسلمين الذين يتحولون إلى الديانة المسيحية، في مخالفة واضحة لما جاء في المواد 40 و46 من الدستور المصري، وكلاهما تكفلان بلا لبس حرية الاعتقاد، كما تميزا ما بين الحرية الدينية وحرية المعتقد.

الوجه الثالث للدولة الدينية الاخوانية يأتي فورا كنتيجة منطقية للوجه الثاني، فلا تصير عملية التشريع غير واقعة بين بشر أعلم بشؤون دنياهم، يتبادلون المصالح ويبحثون عن الحكمة على أساس من الأغلبية والأقلية وكلاهما قابل للتغيير والتبديل مع الزمن والمصلحة والحجة؛ وإنما تصير عملية للإفتاء والفتوى والتفسير بين مذاهب ومدارس كل منها يعتقد أن الداخل فيها مؤمن والخارج عليها كافر. ويظهر ذلك فورا فى الباب الخاص بتطبيق الحدود في برنامج الحزب المقترح.

ولا أظن شخصيا أن هناك خلافا مع الإخوان على ضرورة تقوية الوازع الشخصي، ولا على وضع القوانين العادلة، أو زيادة كفاءة أجهزة الأمن، أو تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي الذي يقف سدا أمام الجريمة؛ ولكن كل ذلك أمر وتطبيق الحدود أمر آخر. وما جاء في برنامج الإخوان فيه قدر غير قليل من المراوحة في هذه القضية. فالبرنامج يقول على سبيل الحكمة laquo;أنه كلما اشتدت العقوبة اشتدت إجراءات إثباتها مما يتيح الفرصة للمتهم للإفلات من العقابraquo;، كما يستشهد البرنامج بأن الرسول ـ صلعم ـ كان يلتمس أبسط الأعذار لعدم تطبيق العقوبة حتى أنها لم تطبق كثيرا. ولكن المعضلة هنا أن المجتمعات الحديثة لا تريد لمجرم أن يفلت من العقوبة لأن ذلك جزء من النظام العام والحفاظ عليه وعلى أمنه، وربما كان ذلك هو ما دفع واضعي البرنامج مرة أخرى للبحث عن أسباب ـ لا مصادر لها سوى الإخوان أنفسهم ـ في التاريخ الإسلامي، وفى الدراسات الاجتماعية الحديثة ـ بما فيها الغربية ـ والتي تقول بضرورة تطبيق الحدود. هنا فإن الأمر يحتاج إلى اجتهاد حقيقي لأن الأمر لم يعد متعلقا بنا وبتاريخنا فقط، وإنما بات متعلقا بوضعنا في العالم وما تواضع عليه من ضرورة حماية الجسد الإنساني، فلا أظن أن أحدا سوف يكون على استعداد للتجارة معنا، أو الاستثمار في أراضينا إذا ما تم تطبيق هذه العقوبات.

الوجه الرابع للدولة الدينية يظهر فورا مما جاء في البرنامج عن laquo;وظائف الدولة الدينيةraquo;، ومن المدهش أن المثال الذي ذكر في هذا الصدد في برنامج الحزب المقترح قام على قرار الحرب باعتباره قرارا شرعيا، وهو ما أشرنا إلى خطورته الدينية والعملية في مقالين سابقين، إلا أن المسكوت عنه في البرنامج هو القرارات الدينية الأخرى التي على الدولة القيام بها. هنا فإن laquo;الشيطانraquo; وليس laquo;الإيمانraquo; هو الذي يكمن في التفاصيل، فالدولة الدينية التي ترى أن هدفها الأول هو خلق laquo;الإنسان المؤمنraquo; يعنى أن الدولة لن تكون معنية بوضع النظم والمؤسسات والقواعد، وإنما ستكون معنية بعملية قولبة الإنسان وإعادة صبه في صورة ملائكية. وفي التاريخ القديم، كما في التاريخ المعاصر، فإن مثل هذه الدولة تصبح في النهاية هي التجسيد الحي للفاشية والدولة الشمولية التي تقوم بقولبة الإنسان وصبه بطريقة لا تكفل له أبدا حرية للاختيار.

الوجه الخامس الذي على لجنة المراجعة إعادة النظر فيه، ويتعلق بمجموعة الرموز والشعارات التي ترفعها الجماعة في الحياة المدنية، والتي تبدأ من شعار laquo;الإسلام هو الحلraquo; ولا تنتهي بالسيوف المشهرة التي تحتضن القرآن وتقول للمؤمنين ـ أي الناخبين والمجتمع السياسي ـ أن يعدوا كل عناصر القوة كي يحاربوا أعداءهم. القضية الأساسية هنا في الدولة المدنية هي أن كل الأمور قابلة للسجال السياسي، والمخالفة الموضوعية، وهى موضوع للرفض والقبول؛ وكل ذلك تستحيل ممارسته مع هذه الشعارات الموضوعة لأنها تضع إيمان الإنسان في حالة من التعارض مع السلوك السياسي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه يعرض الكتب المقدسة إلى أهواء الدنيا وانحيازاتها، أما الناحية الثالثة فهي أن السياسة في المجتمعات تستبعد أول ما تستبعد السيوف وتضع مكانها الكلمة والحجة والمصالح العامة للمجتمع والدولة.