عبدالله السناوي
لا يحق لأحد أن يتجاهل الانهيار الكبير، وغير المسبوق، فى المكانة الإقليمية لمصر، وتراجع أوزانها السياسية فى تفاعلات المنطقة الى حد الشفقة عليها والحزن على ما آلت اليه أم الدنيا، التى وصفها نابليون بونابرت بأنها أهم دولة فى العالم، أو المفتاح الاستراتيجى للسيطرة عليه. وبدت القمة العربية فى الرياض، بالأجواء التى احاطت بها، تكريسا صريحا للدور القيادى السعودى الجديد، وإعلاناً صامتاً فى ذات الوقت عن انهيار الدور المصرى، الذى كان ينظر اليه تقليدياً باعتباره اللاعب الرئيسى والمحورى فى تفاعلات المنطقة. وبدا الملك عبدالله بن عبدالعزيز متطلعا للعب دور الرجل القوى فى المنطقة، وبدا ان الإدارة الأمريكية مرحبة بهذا التطور وداعمة له، بل لعلها قررت تهميش الدور المصرى أكثر مما هو مهمش، ودفعه للخلف، وعزله عن قضيتى غزة خط الدفاع الأول عن أمنها القومى ودارفور مرتبطة بالمصير السودانى، وهى قضية أمن قومى أخرى لا يملك أى نظام حكم فى مصر تجاهل خطورتها وتداعياتها على شريان الحياة فيها. وبدت مداخلات القادة العرب أقرب إلى مبايعة قيادة الملك عبدالله، ونفض اليدين نهائيا من أية أدوار يمكن أن يراهن فيها على مصر ورئيسها.
1
أخذت وكالات الأنباء والصحف الدولية والفضائيات العربية فى فتح ملفات المنطقة انطلاقا مما قاله العاهل السعودى، وجرى الحوار العام على أساس ما قاله: بالموافقة او بالاعتراض، وصاحب ذلك كله تجاهل كلمة الرئيس المصرى، ولولا مطالعتها فى وسائل الإعلام الحكومية هنا، وبعض الصور التى التقطت للرئيس هناك، لربما تصورت ان مصر غابت عن القمة. ولكن الحقيقة انها شاركت بوزن سياسى هامشى، وحضور دبوماسى خافت، يعبر عن خياراتها الجديدة والمحزنة فى الالتحاق بالدور السعودى، الذى هو أصلا يلعب تحت العباءة الأمريكية، ومدعوما منها، ولكنه يحاول ان يوظف الفراغ الدبلوماسى فى المنطقة، المترتب على تراجع الدورين المصرى والسورى، الأول بالعجز الدبلوماسى، والثانى بالحصار الأمريكى، مصحوبا بانهيار كامل لدولة عربية محورية هى العراق فى الجناح الشرقى للأمة العربية، فى خطته للتقدم إلى قيادة النظام العربى منفرداً.
2
الفراغ الدبلوماسى فى المنطقة ترتب مباشرة على المأزق الاستراتيجى الذى وجدت الولايات المتحدة نفسها فيه بالمستنقع العراقى، وقد ترتب على الارتباك الأمريكى شل مشروعها فى المنطقة، بما دعاها الى إعادة رسم الأدوار فيها، بما يسمح بإحكام الحصار على إيران من ناحية، وتطويع المبادرة العربية للسلام وفق خطة تطوير معلنة لتطبيع واسع مع إسرائيل بلا ثمن سياسى من انسحاب من الأراضى المحتلة منذ عام 1967. وربما رأت الإدارة الأمريكية أن مقومات الدور السعودى أفضل لخدمة استراتيجيتها من الدور المصرى، فالوفرة النفطية تساعد فى تمويل ما يراد تمويله، والأساس السنى للمملكة السعودية، فى منطقة الخليج بالخصوص، يرشحها للعب دور مناهض لما تصفه الولايات المتحدة بالتمدد الشيعى الإيرانى، والمشاكل الداخلية السعودية أقل حدة مما تعانيه مصر المنهكة بانسداد خطير فى قنواتها الاجتماعية والسياسية. والقيادة السعودية تحاول ان تستفيد من المأزق الاستراتيجى الأمريكى، لاعبة تحت العباءة الأمريكية فى نفس الوقت، وتحاول أن توظف الفراغ الدبلوماسى بإطلاق مبادرات جديدة حول دارفور ومقديشيو، بالإضافة الى ادوارها فى العراق وفلسطين ولبنان، أى أن يتمدد دورها من المشرق العربى أو قلب الإقليم الى اطرافه، وهذه مهارة دبلوماسية لا شك فيها، وتعبر عن حيوية جديدة، غير أن نتائجها محدودة، وأفقها مسدود من ناحية واقعية، فللاعب الدولى الأمريكى حساباته فى السودان والصومال، والسعودية لا تملك تحدى تلك الحسابات، ربما تلتف من حولها قليلا، لكنها تظل تتحرك فى ذات الفلك وتعمل تحت ذات الأفق.
3
الدبلوماسية السعودية نجحت بصورة صريحة فى عقد اتفاق مكة بين حركتى فتح وحماس، وانتزعت من مصر دورها فى رعاية الملف الفلسطينى، وربما تكون أيضاً قد اكتسبت أرضا أوسع فى المناورة مستخدمة المأزق الأمريكى فى العراق، بما دعا الرئيس الفلسطينى محمود عباس إلى أن يطرح فكرة ترؤس السعودية لجنة عربية مهمتها تفعيل مبادرة السلام دون أن يستشير مصر أو رئاستها أو يأبه لردود افعالها. وقد بدا فى بعض كواليس نظام الحكم هنا نوع من التململ من وراثة الدور المصرى سعودياً. الحديث المعلن أننا متفقان، ولا تناقض فى السياسات والخيارات، واننا ندعم الدور السعودى ونكمله والصياغة نفسها مهينة، وتستدعى إقالة صاحبها وزير الخارجية أحمد ابو الغيط، غير أن هناك فى الكواليس شكوكا ومخاوف وتسليما بانهيار الدور المصرى، ومع ذلك فلا يبدو أن هناك مراجعة او رغبة فى استعادته او إرادة سياسية تحاول ان توقف النزيف الدبلوماسى فى الأوزان والأحجام.
وعندما كان هنا خالد مشعل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس سألته بصورة مباشرة إذا ما كان أحد المسئولين المصريين عاتبه فى عقد اجتماع حماس وفتح بمكة لا فى القاهرة أجابنى بصراحة: إن وزير الخارجية أبو الغيط عاتبه بالفعل، مشيرا الى أن القاهرة كانت على علم بالاتفاق ونصوصه قبل ثلاثة أسابيع على الأقل من اجتماع مكة، ولم تعرض استضافة الاجتماع فى القاهرة!
وكانت إجابة مشعل مفاجئة، فعلى الأقل هناك من يعاتب، وليته يدرك ان انخفاض مستويات الكفاءة مرغت السمعة الدبلوماسية للبلاد فى تراب المنطقة. والأكثر إثارة أن عباس التقى فى دمشق قيادات من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قبل لقاء مكة بأسابيع، وكشف عن دعوة سعودية لاستضافة اللقاء، وتحفظت قيادات الجبهة الشعبية على المكان، واقترحت عقده فى القاهرة أو دمشق، وكانت إجابة عباس: هذا سوف يحرجنى.
وفى هذا الاجتماع الدمشقى تحفظت تلك القيادات على جدول الأعمال، واقتصاره على فتح وحماس، وكانت إجابة عباس صريحة وواضحة: سوف أراجع الأمريكان، واحاول تسويق ما نتفق عليه.
وكان هناك تصور بأن تستضيف مصر اجتماعاً آخر لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، غير أن المفاجأة أنها لا ترغب فى ذلك والكلام لقيادات فلسطينية مطلعة اعتقادا بان الولايات المتحدة الأمريكية تناهض الفكرة من أساسها، وهكذا تحرم الدبلوماسية المصرية نفسها من هامش مناورة حركة أو إطلاق مبادرات، لها قدر من الشعبية، او استضافة اجتماعات لها قيمة، رضت لنفسها ادوار الهامش، فأخذ الآخرون يدفعونها الى ما هو دونه، أو ربما الى الحضيض الدبلوماسى.
4
بدت قمة الرياض أقل فضائحية وأكثر تماسكًا من قمم أخرى سبقتها، وأخذت الدبلوماسية السعودية، ووسائل اعلامها، فى تسويق أدوارها الجديدة فى المنطقة على نطاق واسع، وبدت التغطيات الصحفية المصرية بذات مستوى دبلوماسيتها: فقيرة فى قدرتها على الإقناع بأن هناك دوراً مصريا مميزا، فالقاعدة الإعلامية- بعبارة بليغة للأستاذ هيكل: أنت لا تقنع الا بما هو مقنع. غير ان الدعايات السعودية المكثفة لا تعنى من نظرة واقعية ان قمة الرياض هى قمة التضامن العربى، أو قمة تاريخية لاستعادة الأمل، والأدق ان توصف بأنها قمة مهمة، تدشن دورا سعوديا قياديا فى المنطقة، وتنعى الدور المصرى فيها، ولكن قرارها الرئيسى بتفعيل المبادرة العربية لا قيمة كبيرة له، فإسرائيل لا توافق اصلا عليها، والكلام عن عدم تعديلها ليس انجازا، فالفكرة المحورية فيها: تطبيع كامل مقابل انسحاب شامل، وعندما تتحدث رايس أو أولمرت وبيريز عن انها تصلح أساسا للتفاوض، فالمعنى الواقعى ادخال تعديلات عليها وتقديم تنازلات عربية اخرى فادحة، وربما تطبيع العلاقات مع إسرائيل مجاناً وبلا ثمن سياسى.
5
هناك تحديان رئيسيان أمام الدبلوماسية السعودية الصاعدة يكمن فيهما تأكيد الصعود ونقاط الضعف معاً. الملف الأول: العراق، فما هو مطلوب أمريكياً تبنى الأجندة الأمنية فيه، وضمان أمن الحدود من دول الجوار، وما يرتبط بذلك من دعم لأية إجراءات قد تتخذها الإدارة الأمريكية ضد إيران.
العاهل السعودى حاول أن يخفف من ضغط الولايات المتحدة على أدواره الصاعدة، وحاول أن يوظف مأزقها فى العراق ويأخذ لنفسه مساحة، فأدان العجز العربى، والطائفية، والاحتلال الذى وصفه بانه غير مشروع، لكن تلك المساحة لم تتحول الى سياسة أو مواقف جديدة تربط ما بين الانسحاب الأمريكى والترتيبات التى يمكن أن يشارك فيها العرب، وبدت اللغة مفارقة للوقائع، ولكنها حاولت أن توفر قدراً من المعقولية على مستوى الشكل الدبلوماسى، وهو حتى ما لم تحاوله الرئاسة المصرية.
والتحدى الثانى أمام الدبلوماسية السعودية: لبنان، فدورها سلبى هناك فى إثارة النزعات الطائفية. وبدا انها قد حرضت مصر على التورط فى الحرب على حزب الله سياسيا أثناء العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد لبنان والمقاومة فيه، وكانت لها أسبابها فى الإمساك بمراكز النفوذ فى لبنان وخدمة المصالح الأمريكية فى ذات الوقت. فماذا يمكن أن تفعل الآن فى الملف اللبنانى، مع تعقيداته الداخلية، مصحوبة بقرار أمريكى بعدم تسوية الأزمة فيه، قبل البت النهائى فى الخيار الأخير بخصوص التعاطى مع إيران؟! هذه طبائع أدوارها وحدودها، والمبالغة فيها قد تصلح للدعاية ولكنها لا تناسب فكرة التعرف الواقعى على الحقائق الرئيسية، وقد تختلف التقديرات هنا او هناك، غير أن هناك دورا سعوديا يصعد ودورا مصريا يبدأ فى الأفول.
6
أين مصر فى منطقتها..؟
إنه الغياب، وبدا أن مسئولين عرباً أخذوا يرددون بصوت مرتفع أن الرئاسة المصرية لا تدرك قيمة البلد الذى تحكمه، وقد سمعت من مسئول خليجى كبير أنه يستغرب الزيارات المتكررة للرئيس المصرى لدول الخليج، فمصر يجب ان تدرك مكانتها، والإفراط فى الزيارات لغير ضرورة دبلوماسية، أو ربما لأهداف لا علاقة لها بالمصالح العليا للبلاد، أو من لوازم الاستهلاك الإعلامى الداخلى، ينتقص من الصورة والدور معاً. وبدا المسئول الخليجى قلقاً على الاستثمارات الجديدة فى تلك المنطقة والمترتبة على الوفرة البترولية، وكاد وهو قومى عربى قديم أن ييأس من أية ادوار مصرية ذات قيمة فى صياغة أمن الخليج.
فعندما تنتظر طويلاً تلك الأدوار المصرية، ثم لا تأتى، بل تقول انها تتبع السياسة السعودية وتدعمها، فمن الطبيعى أن يلحق الذين راهنوا على مصر وتاريخها بالقطار الآخر، وحقهم مشروع، ولا لوم هنا على السعودية وأدوارها، مهما كانت الانتقادات والتحفظات. فما الذى تفعله مصر فى محيطها المباشر، وعند حدودها، أو فى أطراف المنطقة، أو فى قلب الخليج؟
فى دولة مثل البحرين، وعلاقتها بمصر مميزة تقليديا، أقصى دور نقوم به استشارات قانونية وإعلامية.. لا أكثر!.
وبعض تلك الاستشارات كارثية، مثل الدور الذى لعبه الدكتور رمزى الشاعر، أحد أركان مطبخ التعديلات الدستورية فى مصر، فى صياغة الدستور البحرينى.
كلفه الملك بوضع دستور يكرس الملكية الدستورية، ولكنه وفق قواعد اللعبة المصرية فرغ الدستور البحرينى من فكرة الملكية الدستورية، وأحالها الى شكل هزيل، يضفى صلاحيات مطلقة على أدوار الملك الدستورية!. وكانت تلك الخبرة المصرية فى ترقيع الدساتير مادة تندر فى الحراك السياسى البحرينى.
7
بدا الحوار طويلا وممتدا بين رئيس عربى وعدد من ضيوف سياسيين تربطهم به علاقات وثيقة، وأخذ الرئيس يشرح بنوع من التفصيل المستجدات الخطيرة على الساحة العربية، والتى تحيط ببلاده بالذات وتهدد دورها المحورى فى محيطها، ثم روى قصة مثيرة لضيوفه معتقداً أنها تكشف الحقائق الجديدة فى المنطقة، وتراجع هيبة النظم العربية إلى حدود محزنة فى معادلات القوة وحساباتها. فقبل بعض الوقت التقاه موفد أمريكى خاص، ناقلاً رسالة من الرئيس الأمريكى جورج بوش، تضمنت أربع أو خمس نقاط أو مطالبات بشأن قضية حساسة أريد بها عزل هذه الدولة العربية عن محيطها الإقليمى القريب، ووضع نظامها السياسى تحت المقصلة الأمريكية.
وأخذ الموفد الخاص يردد فحوى الرسالة نقطة بعد أخرى، أو مطلبا بعد آخر، فسأله الرئيس العربى عما إذا كانت الرسالة مكتوبة، حتى تتسنى دراستها والرد عليها وفق الأعراف الدبلوماسية الدولية. وكانت الإجابة مباغتة: نعم.. ثم أخرج ورقة بدا انها مكتوبة بخط يده وعلى عجل قبل أن يلتقى الرئيس مباشرة، لعله أراد أن يذكر نفسه بها أكثر من أن تكون وثيقة دبلوماسية تودع أرشيف الرئاسة فى تلك الدولة، فتلك أمور لم تعد تعتنى بها الإدارة الأمريكية فى التعاطى مع الدول العربية، وبلا استثناء واحد بحسب نص تعبير الرئيس العربى.
وبعد أيام قليلة، وأثناء زيارة للعاصمة الروسية موسكو.. وفى لقاء مع رئيسها فلاديمير بوتين، بدا الرئيس العربى مندهشاً وحزيناً فى نفس الوقت عندما أخذ يطلعه بوتين على نص رسالة من بوش حول بعض القضايا المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، وتخص بلده بالذات، فلم يكن نص الرسالة غريباً عليه، وبدا حزنه منصرفا الى الشكل الدبلوماسى من انها مكتوبة على ورق مصقول ومختومة ومغلفة بعناية، ولغتها تراعى وزن الدولة الروسية ومقام رئاستها، كأن تقول: أرجو ان نلفت نظر فخامتكم إلى..... أو نطلب مساندتكم فى... وكان استنتاج الرئيس العربى أن التدهور قد وصل الى حد الاستهتار الكامل وبلا استثناء واحد، بأبسط القواعد الدبلوماسية ودون أدنى مراعاة للياقة فى التخاطب مع الرئاسات فى المنطقة.
8
كانت تلك قصة موحية فى دلالاتها لما آلت اليه أحوال النظام الإقليمى العربى. ولم تكن مفاجأة أن تلتقى وزيرة الخارجية كونداليزا رايس عددا من وزراء الخارجية ورؤساء الاستخبارات العرب فى أسوان قبل القمة العربية مباشرة. بدا الاجتماع، معلنا عنه، مثيرا وغريبا، فقد جرت العادة طوال عقود طويلة مضت أن مثل هذه المشاورات أو الإملاءات تجرى قبل القمم العربية فى الخفاء، ولا يعلن عنها، بل كانت تعطى مساحة سياسية للدول التى توصف بانها حليفة للولايات المتحدة فى أن تزعم استقلال ارادتها السياسية، ورفض الضغوط عليها، والتزامها بالمصالح العليا لبلادها، حتى لو تناقضت مع المصالح الأمريكية. أما الآن فلا شيء من ذلك، والإدارة الأمريكية غير مكترثة بحفظ ماء وجه النظم التى توصف بانها حليفة ومعتدلة.
9
والمثير فى هذا السياق أن رايس عندما تحدثت عن خيبة الأمل الأمريكية فيما يجرى فى مصر بخصوص التعديلات الدستورية، اخذت بعض الصحف القومية تلقنها الدروس فى استقلال القرار المصرى بصياغات مختلفة يلخصها عنوان واحد: افهمى.. يا ست. ورادف ذلك تصريحاً لوزير الخارجية أحمد أبو الغيط بأن مصر ترفض التدخل فى شئونها الداخلية، حتى من الأصدقاء!. وكانت التعليقات فى مجملها مفارقة للحقائق، فلا القرار مستقل، والتدخل الأمريكى فيه شامل وكاسح، ولا يراعى الحد الأدنى من اللياقة الدبلوماسية فى احترام الدول ورئاساتها، وبدا أن المظهر الوحيد لاستقلال القرار هو رفض أية احتجاجات دولية على العصف بالحريات العامة فى مصر والانقلاب على الدستور وتقنين الدولة البوليسية فيه. أما غير ذلك فإن كل شيء قابل للتنازل. وبدا أن تلك هى الصفقة الكبرى، مع فشل المشروع الأمريكى فى العراق: دور أكبر للدول الحليفة فى الخطة الأمنية الأمريكية، مصحوبا باعادة صياغة تفاعلات المنطقة بما يسمح بتوجيه بوصلة العداء من إسرائيل الى ايران، مقابل تخفيض الضغوط الأمريكية على تلك الدول الحليفة فى ملف الاصلاح السياسى والديمقراطية.
ومن هذه الزاوية -وحدها- قد يحق للذين قالوا لرايس: افهمى.. يا ست أن يذكروها بالصفقة الكبرى وحقائقها، غير أن عليهم ايضا ان يفهموا ان القمع فى الداخل يهمش الدور المصرى فى المنطقة، وقد ينهيه بالكامل، ويحيل دولة محورية فى المنطقة بحجم مصر الى مادة للشفقة والحزن على ما آلت اليه.
10
كانت لدى مصر فرصة أن تقدم للمنطقة نموذجا ديمقراطياً يحتذى به، ويرد اعتبار شعبها اجتماعيا، ويسمح بضرب الفساد، وتستعيد مع ذلك كله أدوارها القيادية فى المنطقة، غير أن طبائع الاستبداد فى النظام أهدرت الفرصة السانحة، واغتالت الديمقراطية فى التعديلات الدستورية الكارثية، فالديمقراطية بقواعدها المتعارف عليها تعنى نهاية نظام الحكم الحالى، ومصر فى حاجة الى نظام جديد، وبعض أطراف الحكم يعترفون بذلك، ولكنهم يعرقلون أية خطوة جادة، ويدفعون البلاد الى الخلف على كل المستويات، حتى تكاد تغادر التاريخ، وتتنكر لتاريخها نفسه.
لا عودة للدور المصرى بغير تجديد كامل وشامل فى بنية الحكم بتأسيس نظام ديمقراطى، وهو ما يبدو -الآن- بعيد المنال، ولعل الحل المثالى الذى يتمناه النظام قد عبر عنه الشاعر الألمانى الأشهر برتولد بريخت فى قصيدة قصيرة ترجمها المفكر المعروف حسين أحمد أمين وأرسلها لى متكرما.
بعد حركة التمرد الأخيرة
أمر الأمين العام للحزب الحاكم
بتوزيع منشورات فى جميع الأنحاء
تذهب إلى أن الشعب
قد فقد ثقة الحكومة فيه
ولن يكون بوسعه أن يستردها
إلا بمجهود مضاعف..
أليس من الأسهل على الحكومة فى تلك الحالة
أن تأمر بحل الشعب
وانتخاب شعب آخر؟
- آخر تحديث :
التعليقات