بغداد - حيدر الحاج

للمرة الاولى، هناك اناس من بني البشر ويعيشون على الكرة الارضية يرغبون ويفضلون الموت على تكملة بقية حياتهم ،يعانون من اعاقات مستدامة، تصعب عليهم حياتهم اكثر مما هي عليه الان من مشقة وعناء، هؤلاء هم العراقيون الذين باتوا بعد سنوات من القتل المروع، والعنف الدموي الذي طاول بلادهم وما فيها، يتوجهون بالدعاء ليل نهار الى خالقهم من اجل ان تكون نهاية حياتهم الموت على العيش برفقة اعاقة جسدية تزيد من معاناتهم لسنوات طوال مقبلة، مع نقص كبير في العلاج والخدمات الطبية الذي تعاني منه المؤسسات الصحية.
هذه الدعوات للموت وانهاء لحياة ملؤها العناء والمصاعب، تردد على ألسنة الصغار قبل الكبار، وتسمع من الرجال والنساء على حد سواء، فالكل يفضل الموت السريع على العيش في ظل معاناة جسدية ناتجة عن الاصابة جراء المواجهات او التفجيرات التي تحدث في مناطق مختلفة.
وحسب احصاءات وتقديرات لمنظمات المجتمع المدني الدولية والمحلية المعنية بحقوق الانسان، فان العراق فيه اكثر من مليون معاق نتيجة الحروب والصراعات التي حصلت في البلاد على مدى العقود الثلاثة الماضية وتحديدا خلال السنوات الخمس الماضية، وهو رقم يجعله في مرتبة متقدمة للدول التي يعاني عدد كبير من سكانها من الآثار السلبية الناتجة عن الحروب ومخلفاتها.
التفجيرات والمواجهات المسلحة التي تحصل يوميا وعلى رقعة شاسعة من البلاد تحصد ارواح العشرات وتخلف وراءها مئات الجرحى والمعاقين الذين لا يجدون الرعاية الصحية المطلوبة ما يزيد من احتمالية مفارقتهم للحياة بعد ايام، والمحظوظ منهم ستكتب له النجاة والعيش بقية حياته معاقا لدرجة كبيرة تجبره على ملازمة المنزل وتحميل عائلته معاناة وتكاليف اضافية من اجل توفير العلاج، وهو ما يجعل البعض منهم خصوصا من المقعدين، يعيشون في حال من القاء اللوم على انفسهم بسبب تحميل ذويهم جهوداً وتكاليف اخرى من اجل رعايتهم وسط تجاهل حكومي ودولي لمعاناتهم المستمرة، والتي لم يكونوا سببا في ارتكابها.
يحيى البكري، شاب في الثلاثينات من عمره وهو متزوج واب لطفلين، كادت ان تقطع يده اليمنى بعد اصابته باحدى التفجيرات التي وقعت في العاصمة بغداد عام 2006، لولا تدخل عناية السماء وبعض الخيرين من الاطباء، لكن عوقا بنسبة كبيرة جدا اصابها، فضلا عن بعض الشظايا التي خلفها التفجير وتمركزت في انحاء متفرقة من جسمه والتي ادت الى فقدانه لوظيفته التي كان يحصل منها على مصدر رزق عائلته.
ويقول لـ laquo;الرايraquo;: laquo;اشعر بانني عالة على عائلتي ، ففي السابق كنت اعمل وآتي اليهم بالمال والمتطلبات الاخرى ، لكنني اليوم لا استطيع العمل كما في السابق فتركت عملي في سلك الشرطة ولايوجد هناك معيل للعائلة، سوى اللهraquo;، مؤكدا ان حاله الصحية تتأثر كثيرا بين فترة واخرى جراء الاصابة والإعاقة، لاسيما في فصل الشتاء حيث ان البرودة تؤثر كثيرا على يده.
ويضيف: laquo;اجريت الكثير من العمليات الجراحية ليدي واجزاء مختلفة من جسمي بعد ان اصابني العديد من الشظايا، طبعا معظمها في مستشفيات وعيادات خاصة، لان العناية الطبية في المستشفيات الحكومية رديئة جدا ولاتفي بالمطلوب على حد تعبير الاطباء انفسهمraquo;.
ويتابع البكري اثناء جلسة مع مجموعة من الشباب قرب منزله laquo;في بعض الاحيان تمنيت الموت على الاستمرار بالعيش في ظل الام ومعاناة جمة... لايعرفها الا الله وحده وصاحب المشكلة، فالكثير من المصاعب مرت علي وعلى عائلتي خلال السنتين الماضيتين وهي الفترة التي تلقيت بها العلاج واجريت خلالها اكثر من عشرة عمليات جراحية في عيادة خاصة تقع بالقرب من منزلي لاحد الاطباء الخيرين الذي كان يداوي جرحى التفجيرات من دون مقابلraquo;، مشيرا الى ان ذلك الطبيب رفض ان يتقاضى اجوراً عن بعض العمليات التي كان يقوم بها ويكتفي بأخذ مبالغ العلاجات التي يجلبها له من الصيدليات فقط.
التقرير الطبي لمنجد الريزه لي، الطبيب الذي اشرف على علاج البكري طيلة الفترة الماضية والصادر من laquo;مستشفى جنينraquo; في بغداد، كشف فيه خضوع مريضه المعاق لعمليات هندمية وتقويمية عدة مع ترقيع عظمي ورفع ورم دموي ابطي ايمن نتجت عن الاصابة بشظايا عصف تفجيري، ادى الى اصابات وصفها التقرير بالجسيمة مع فقدان نسيجي عظمي وعضلي في لوح الكتف والصدر الايمن والفخذين والعضد الايمن كذلك، مؤكدا ان البكري يعاني حاليا من تضرر في الحزمة العصبية الابطية مع فشل دائمي للعضلات القابضة والباسطة للطرف الايمن.
احد اصدقاء البكري، سرد حادثة لعائلة عراقية اصاب منزلها صاروخ اطلقته طائرة اميركية بطريق الخطأ بعد مواجهات مع مسلحين في احدى مناطق بغداد الشرقية قبل ايام قليلة، ادى الى مقتل الاب والام واحدى البنات وبقيت بنتهم الاخرى مقطعة الرجلين وبعض الاصابات الخطيرة الاخرى التي تعرضت لها نتيجة القصف الاميركي لمنزلهم.
وفيما تؤكد وزارة الصحة وعدد من الجمعيات والمنظمات التي تعنى بشؤون المعاقين انه من الصعوبة إصدار احصائية دقيقة لعدد المعاقين في البلاد، إلا أن عدداً من الدراسات الميدانية لوزارة الصحة بالتعاون مع منظمة المعاقين الدولية تشير الى وجود نحو مليون معاق، تراوح اعاقتهم بين العجز الكلي والمحدود.
ويقول حسين الحمداني، وهو شاب غير متزوج في الاربعينات من عمره laquo;البنت المصابة هي طالبة جامعية كشقيقتها المتوفية وظلت وحيدة فلا معيل لها وليس هناك من يرعاها، وهي الان راقدة في احد المستشقيات دائما ما تبكي عندما تستفيق وتتمنى الموت على الاستمرار بالحياة بعد رحيل عائلتها وما لحق بها من اعاقة ، لم يكن لها او لعائلتها اي ذنب في ما حصل لهمraquo;.
ويشير الحمداني وعدد من الشباب العراقيين الى وجود الكثير من هذه الحالات التي يعاني منها شباب وبنات واطفال وشيوخ من اعاقات جسدية مختلفة تعرضوا لها نتيجة اعمال العنف التي شهدتها مدينتهم على مر السنوات الماضية، وغالبيتهم يعيشون حالة يأس من الحياة .
وقال سعد رزوقي (42 عاما)، وهو عامل بناء يجلس على قارعة الطريق في ساحة الطيران في منطقة الباب الشرقي وسط بغداد وهي منطقة دائما ما تستهدف بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة laquo;ادعو من الله ان يميتني ولا ان اظل اعاني من اعاقة جسدية، تجعل عائلتي تتحمل اعباء اضافية ، فما رأيته من مآسٍ في هذا المكان وغيره يجعلني ادعو الله في ذلك لكي اموت وانا مرتاح افضل من ان اعيش بقية حياتي مقعداً وهناك من يتعذب جراء الاعتناء بيraquo;.
رزوقي الذي نجا من الموت او على اقل تقدير التعرض لاصابة ما بأعجوبة عندما حدثت تفجيرات سابقة في المكان الذي يقصده يوميا لطلب الرزق، اكد انه ومجموعة من زملائه العاملين يتمنون الموت ولا ان يستمروا بالعيش وهم معاقون جسديا، لان العيش في ظل الاعاقة سيجعله يموت مئة مرة يوميا عندما ينظر لنفسه في الحالة التي سيكون عليها، على حد تعبيره.
ويعتبر العراق بلدا منتجاً للاعاقة حيث تشير توقعات وزارة الصحة الى ان نسبة المصابين بعجز ما يعيقهم عن ممارسة الحياة الطبيعية يتجاوز 15 في المئة من مجموع السكان، وهذه النسبة في تزايد مستمر مع دوام العوامل المنتجة للإعاقة في العراق التي تتمثل بـ laquo;اعمال العنف والهجمات الارهابية التي تستهدف العراقيين يوميا ومن دون تمييز، تفاقم الحالات المرضية وانتشار الاصابات المؤدية للإعاقةraquo;.
ويعود تزايد اعداد المعاقين في العراق الى عوامل عدة منها: الحروب ذات الاثار المدمرة التي خاضها النظام السابق، الاثار السلبية الهائلة التي خلفها الحصار الاقتصادي، ممارسة الاضطهاد وتعرض عدد كبير من ابناء العراق لعمليات التعذيب الجسدي والنفسي من قبل اجهزة القمع للنظام السابق.