علي الرز: منذ اللحظة الاولى التي اعلنت فيها وفاة اللواء غازي كنعان انتحارا ، انطلقت التفسيرات والتحليلات متناولة واحدة من اللوحات الدرامية في المشهد السوري (واللبناني) الحديث بكل ما فيها من جبروت وسلطة ورهبة وارتكابات وتجاوزات ونجاحات واخفاقات. منذ اللحظة الاولى والاسئلة لم تنقطع. لماذا انتحر؟ هل نحروه؟ هل ادرك ان نهايته قريبة فاطلق عبارته الشهيرة عن تصريحه الاخير؟ هل كان يخطط لشيء ما فأردوه استباقا؟ هل اعطى افادة "مفيدة" للجنة التحقيق الدولية وكان مستعدا للافادة اكثر امام محكمة دولية؟ هل طار في صراع داخلي في اطار ترتيب الامور لمرحلة ما بعد تقرير ميليس؟ هل هناك سند لانباء ثرائه الفاحش ادى الى خشيته من ان ينتهي مسجونا بفضائح تمحي كل تاريخه؟


منذ اللحظة الاولى، كان واضحا ان الموقف لن ينجلي بساعات او ايام، وان عملا كهذا لن يحرك الكثير في الوضع الداخلي السوري القادر جدا على التعامل مع تطورات مماثلة، فسورية "متعودة" وتمتلك خبرة قل نظيرها في فصل قطار السلطة عن محطات الخلاف والاختلاف والاعتراض... وربما كان احسن من عبر عن هذا "التعود" الدكتور عماد فوزي الشعيبي نجم الفضائيات العربية (المشهور بضحكته الساخرة عندما سئل عن مصافحة الرئيس الاسد مع الرئيس الاسرائيلي موشي كتساف على هامش جنازة البابا يوحنا بولس الثاني) اذ ابلغ الشعيبي امس سائله ردا على التداعيات المحتملة لانتحار كنعان بأن سورية دولة مؤسسات وان منصب وزير الداخلية لن يشغر!


وبعيدا من التعليقات الداخلية السورية، كانت محطات التحليل تعمل بكامل طاقاتها لدى العامة والسياسيين في مختلف اصقاع الارض على طريقة القصص البوليسية وآخرها "دافنتشي كود" للكاتب الاميركي دان براون، اذ ترك الضحية (أمين متحف اللوفر، وهو في القصة ايضا في موقع محترم ومهاب) رمزا لغويا معينا مكن ابطال القصة من متابعته ليكتشفوا،على الطريقة الروسية، رمزا آخر يؤدي الى رمز ثالث فرابع فعاشر.


وفي قضية كنعان بدأ العمل على فك الالغاز: هل هذا صوته؟ هل كان يقرأ تصريحه لاذاعة "صوت لبنان" من ورقة مكتوبة وخرج على النص في النهاية؟ ماذا يعني كلامه عن وجود افادة معه واخرى لدى لجنة التحقيق؟ لماذا طلب توزيع التصريح على تلفزيون "المستقبل" الذي يرجمه الاعلام السوري يوميا؟ ماذا يعني ان تصريحه هو الاخير وهل ترك مؤشرات جديدة ستظهر لاحقا في مكان ما لكشف حقائق؟ كيف لمن يطالب الآخرين بان يتقوا الله ان يغضب الله بانتحاره؟ وكيف لمن يعطي تصريحا متماسكا وقويا كالذي اعطاه ان يكون وصل الى الدرجة السابعة من الكآبة التي يقول علماء النفس انها المرحلة التي تسبق الانتحار؟ ولماذا يكتئب وهو ، باعتراف المسؤولين السوريين قبل اللبنانيين، اقل المسؤولين السوريين تورطا باغتيال الحريري نظرا الى ان الفريق الامني الذي حكم لبنان بعده كان معارضا لسياساته السابقة في كل شيء وخصوصا في قضية صداقته الخاصة للحريري؟ لماذا نشرت المواقع السورية القريبة من الحكم قبل ايام مقابلة لنائب لبناني يتهم فيها كنعان بانه وراء خسارة اراضيه وتهديده بتحطيمه وتحطيم عائلته؟ لماذا لم ينتحر في بيته عندما توجه اليه لمدة وجيزة وعاد الى الانتحار في مكتبه؟ لماذا تدفعه انباء الثراء المفاجىء الى الانتحار ولا تدفع غيره ممن ظهرت شيكاتهم في محطات التلفزة وهم تولوا المنصب نفسه الذي تولاه؟... تشريح دقيق لكل كلمة في التصريح الاخير ولكل فاصلة ولكل موقف. تشريح سيبقى لفترة طويلة في مختبرات الفحص والتدقيق رغم اعلان المحامي العام الاول في دمشق محمد مروان اللوجي ان التحقيق في الانتحار انتهى الى ان كنعان... انتحر!


"كنعان كود" سيستمر عربيا ودوليا بالدرجة الاساس، لكن شيفرة اخرى سيبدأ السوريون بمحاولة فكها عمليا، هي شيفرة التصريحات والمواقف التي يدلي بها وزير الخارجية فاروق الشرع الشهير بتوقعاته "الصائبة" من مواقفه الشهيرة قبل الحرب الاميركية على العراق الى اعتباره ان القرار 1559 سخيف وان سورية غير معنية به. الشرع امس حمل وسائل الاعلام البنانية مسؤولية "قتل" اللواء كنعان مشيرا الى ما بثته محطة "نيو تي في" قبل يوم عن افادته في التحقيق باغتيال الحريري.


غازي كنعان وزير الداخلية السورية، رجل الاستخبارات المتعدد الخبرات، "حاكم لبنان" السابق الذي عرف اللبنانيين عن قرب ووجههم ووجه وسائل اعلامهم وتعرض الى مواقف واخبار افظع بكثير مما قيل عنه (راجعوا مشكلة النائب اللبناني السابق يحيى شمص قبل سنوات وماذا اعلن في مؤتمره الصحافي عن كنعان وسماه الحجاج بسبب خلاف على ارض وناشد الرئيس حافظ الاسد شخصيا ان يحميه منه)... هذا "الحاكم" قتل بسبب خبر عنه في تلفزيون "نيو تي في" حسب اكتشافات الشرع، وهو – بالمناسبة- التلفزيون الذي ادخل خلف كنعان رستم غزاله صاحبه تحسين خياط الى السجن مركبا له تهمة العمالة لاسرائيل لان الاخير اراد كشف شيكات غزاله في بنك المدينة، ولم ينتحر خياط رغم ان تهمة العمالة لاسرائيل افظع بكثير من الثراء بسبب منصب.


المحامي العام اكد انتحار كنعان والشرع حمل الاعلام اللبناني مسؤولية قتله وغدا سيخرج في سورية من يطالب بمحاسبة الفاعل...
تبقى ملاحظة قد لا تكون مهمة: البطل في نهاية قصة "دافنتشي كود" الطويلة يكتشف بعد سلسلة من المغامرات في بريطانيا المجاورة لفرنسا ان السبب الذي ادى الى قتل امين اللوفر موجود قرب... مكان الجريمة.

[email protected]