سورية بين الأمس واليوم (2 / 9)
حافظ الأسد قائد جيش الطائفة... محكوماً
إقرأ أيضا: |
بلال خبيز من بيروت : حالت الظروف المادية الخانقة دون ان يتابع حافظ الأسد الشاب دراسته في كلية الطب بالجامعة اليسوعية ببيروت. فلم يجد مفراً من الالتحاق بالكلية العسكرية بوصفها افضل الممكن. لو تسنى للأسد الشاب يومذاك ان يصبح طبيباً لربما كان تاريخ سوريا قد انقلب رأساً على عقب. لكن الأحوال المادية المتردية لأهل الريف السوري في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت امراً شائعاً. ويرى بعض المؤرخين لهذه الحقبة من تاريخ سوريا ان لهذا التردي اثره الكبير فيما آلت إليه اوضاع سوريا فيما بعد.
في ظل السلطنة العثمانية كان اهل الذمة من يهود ونصارى وشيعة وعلويين ودروز ممنوعين من دخول الجيش العثماني. وكان الانتظام في سلك الجيوش العثمانية حكراً على ابناء الطائفة السنية. لكن ذكريات الحروب العثمانية، وسفربرلك، جعلت أبناء الطائفة السنية ينصرفون عن التطوع في الجيش ويقبلون على التجارة، خصوصاً انهم كانوا من أبناء المدن الأساسية، وكانت بورجوازيتهم التجارية ناشطة وتجارتهم مزدهرة في حلب ودمشق وتحقق ارباحاً حقيقية. والحال لم يكن التطوع في الجيش مرغوباً بشدة لدى ابناء الطائفة الأكبر وذات الموارد الأغنى في سوريا النصف الأول من القرن العشرين.
هذا العزوف المديني عن التطوع في الجيوش ليس امراً يخص سوريا وحدها, فعلى النحو نفسه تؤرخ علاقات اهل المدن بالجيوش في العراق ولبنان وفلسطين. لكن الإشارة إلى هذه الواقعة التاريخية لها ما يبررها فيما آلت إليه احوال سوريا اليوم بعد ما ينوف على الخمس سنوات من رحيل حافظ الأسد اطول رؤساء سوريا عمراً على الإطلاق.
يجدر بنا ان نلاحظ بعض خصائص الجيوش في الدول الحديثة. ذلك ان الجندي في الديموقراطيات الحديثة هو مواطن تخلى عن حقوقه كمواطن ليضطلع بمهمة الدفاع عن الأمة في وجه الاعداء الخارجيين، وعلى النحو نفسه فإن الجندي ينزع من عزوته وأهله ورابطته المواطنية ويتم تدريبه ليكون عضواً في جماعة لا حياة له من دونها وهي تخسر اول ما تخسر حقوقها التي تؤمنها لها المواطنة في الدول الحديثة، وهذا بحث يطول. لكن ما جرى في بعض البلاد العربية خالف هذه القواعد الصارمة مخالفة صريحة. فالجندي في سوريا اليوم هو حامي حمى الطائفة. اي ان القوة الضاربة في الجيش ومخابراته تتحد عصبياً وطائفياً وعائلياً. فضلاً عن ذلك لم يحصل في سوريا كما في غيرها من البلدان العربية، ان تخلى الجندي عن حقوقه كمواطن في سبيل الدفاع عن بلاده. بل على العكس من ذلك، ففي غالب الأحيان أُجبر المواطن على التخلي عن حقوقه، وفي مقدمها حقه في ان تتم حمايته من اي عدوان، لصالح الجيوش وقادتها.
وهذا ليس شأناً سورياً مخصوصاً، بل هو شأن عربي عام. طبع مرحلة من مراحل التاريخ العربي القريب. وغاية القول ان حافظ الاسد الضابط الشاب في الجيش السوري رغماً عنه يومذاك، لم يصل إلى السلطة في سوريا ويتربع على قمة هرمها طوال ثلاثة عقود لولا ان الظروف التاريخية العربية كانت مواتية للعسكر في تسنم هرم القرارات السياسية والمصيرية في العالم العربي.
بدأ حافظ الأسد سيرته السياسية عضواً متحمساً في حزب البعث العربي الإشتراكي حين كان لا يزال طالباً ثانوياً. وتشير بعض المصادر انه تلقى طعنة سكين في ظهره اثناء احدى المناوشات مع طلاب الاخوان المسلمين. وسرعان ما بلغ هذا الطالب المتحمس مركزاً قيادياً في التنظيم الطلابي لحزب البعث. لكن مسيرته الحزبية انقطعت ليتحول طالباً في الكلية العسكرية إلى مسار آخر. لم تنقطع صلاته بالبعث طبعأً، لكنه لم يعد حزبياً مدنياً في حزب كان قادته جميعاً من المدنيين ولم يكن بينهم يومذاك عسكريون كثر.
اثناء الوحدة المصرية السورية نُقل حافظ الأسد ورفاقه الاربعة (ثلاثة علويين وواحد اسماعيلي، محمد عمران، صلاح جديد، عبد الكريم الجندي، ومحمد المير) الذين حكموا سوريا فيما بعد إلى مصر. كان يومها برتبة نقيب، وبعضهم يقول رائداً، وكان صلاح جديد صديقه ورفيقه رائداً طياراً وقائداً لسرب ليلي في سلاح الجو السوري. امتعض الضباط البعثيون الخمسة كثيراً من أفاعيل الوحدة المصرية السورية، وسرعان ما قرروا تشكيل تنظيم سري قيض له فيما بعد ان يحكم سوريا بقبضة من حديد. بعد الانفصال سجن بعض اعضاء هذه العصبة، وصلاح جديد كان بين المسجونين، ثم اعيدوا إلى سوريا في تبادل للأسرى بين البلدين اللذين كانا قبل بضعة شهور بلداً موحداً. في سوريا وقّع البعث على وثيقة الانفصال عن مصر مع الاحزاب التي وقعت على الوثيقة. لكن الضباط الصغار لم يغفروا فيما يبدو لقادة البعث المدنيين قرارهم حل الحزب اثناء الوحدة. هكذا استمر هذا التنظيم الصغير فاعلاً في ظل تشتت في قوى التنظيم المدني البعثي الذي كان يقوده يومذاك ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار.
الأعوام التي تلت الانفصال كانت اعوام اضطرابات حكم في سوريا على نحو يتندر به كل المؤرخين لتلك الحقبة وما تلاها. لكن تلك الفترة فيما يظهر كانت مخاضاً سورياً بين اتجاهين كبيرين. واحدهما متمسك بالوحدة العربية وبترك الساحة السورية مفتوحة لكل التأثيرات الخارجية، وثانيهما كان يريد ان تنعم سوريا باستقرار معقول يمكنها من انشاء دولة ونظام حكم. ويمكن القول ان الاتجاه الذي مثله حافظ الأسد بين الضباط الخمسة هو الاتجاه الذي غلب في النهاية، وهذا مما يحفظ له من انجازاته الكبيرة. فعلى العكس مما كان صلاح جديد ومحمد عمران وعبد الكريم الجندي يرون من دور لسوريا يتجاوز قدرتها على الاستقرار وطاقتها على احتمال الاضطراب، كان زميلهم حافظ الاسد يرى ان مصلحة البلد تكمن في استقرار الدولة والنظام وهذا ما جهد للحفاظ عليه طوال فترة حكمه.
عندما تسلم الضباط الخمسة الحكم في سوريا بعد انقلاب 1966، انتهج صلاح جديد نهجاً مغايراً للأصل الذي نشأت عليه حركته، إذ سرعان ما وضع نصب عينيه السيطرة على الحزب المدني. وتخلى عن رتبته العسكرية ليصبح الرفيق صلاح جديد. لكن الاسد الذي رقي من رتبة مقدم إلى رتبة لواء دفعة واحدة وتسلم مهام وزارة الدفاع، استمر على النهج السابق معتمداً على الجيش والقوى المسلحة بوصفهما الوسيلة التي اوصلته إلى الحكم والتي إذا ما اهملت يمكن ان تخلعه من الحكم. والحق ان الضباط الخمسة اعتمدوا على الجيش والقوى المسلحة لتثبيت اركان حكمهم وعمدوا من خلال عضويتهم في اللجنة العسكرية إلى إجراء المناقلات في القوى المسلحة بطريقة تناسبهم، وطوعواً في الجيش من وجدوا انه يواليهم ويمكن الوثوق به. هذا الأمر جعل اداء الجيش السوري في حرب 1967 بالغ الرداءة. وما زال الناس حتى اليوم يتناقشون في الأسباب التي دعت وزارة الدفاع يومذاك وعلى رأسها اللواء حافظ الاسد إلى اعلان سقوط القنيطرة قبل سقوطها الفعلي. ويروي احد الوزراء الذي كان في جولة في جنوب القنيطرة يومذاك، انه سمع بخبر سقوط القنيطرة من الإذاعة فاتصل بوزير الدفاع ليسأله عن السبب في هذا الإعلان، فأجابه الاخير ان الامر لا يخصه وان عليه ألا يتدخل في ما لا يعنيه. فضلاً عن ذلك تكثر الروايات عن الاداء السوري المرتبك في هذه الحرب، فبحسب شهادة ضابط لبناني، كان الضباط السوريون معلمي مدارس مخلصون للحزب لكن خبرتهم العسكرية كانت في الحضيض، ذلك ان انقلابيي 1966 سرحوا معظم الضباط ذوي الكفاية غير الموالين لحركتهم من الجيش ليحل محلهم ضباط من رتب ادنى، فيما ترك امر قيادة القطع الصغيرة في الميدان لضباط لا خبرة لهم على الإطلاق. ويروي الملك الاردني الحسين بن طلال انه طلب من السوريين في تلك الحرب ان يقوم سلاحا الجو الاردني والسوري بضرب البنى التحتية لسلاح الجو الإسرائيلي في الوقت الذي كان هذا السلاح منشغلاً بتدمير سلاح الجو المصري. لكن السوريين استمهلوه ساعة، ثم نصف ساعة أخرى، فنصف ساعة أخرى، إلى ان قرر الأردنيون ان يخوضوا غمار تلك المعركة بإمكاناتهم الضئيلة. وكانت اول طلعة سورية بعد ساعة من ذلك الوقت حيث تم قصف مصفاة حيفا، لكن الجيش الاسرائيلي كان قد فرغ في ذلك الوقت من تدمير سلاح الجو المصري واصبح متفرغاً لسلاح الجو السوري، إذ تزامنت الطلعة السورية على مصفاة حيفا مع طلعة اسرائيلية على دمشق. وسرعان ما دمر الجيش الاسرائيلي المطارات العسكرية السورية وصار سيد الجو في تلك الحرب بلا منازع.
هذا الجيش الذي كان وزير دفاعه حافظ الأسد يوليه عنايته الكبرى لم يكن يومذاك جيشاً محترفاً. لكنه كان يؤدي الغرض الذي يطلب منه على اكمل وجه.
دور الجيش في تلك اللحظة كان حماية النظام من الداخل وليس حمايته من حرب خارجية وفي هذا ما يناقض ما ذهب إليه صلاح جديد من دور لسوريا في تلك الحقبة مخالفة صريحة.
لم يكن جيش حافظ الأسد يمكنه في تلك الأثناء ان يخوض حرباً طويلة مع الجيش الإسرائيلي على النحو الذي كان صلاح جديد يريده ويصبو إليه، وجل ما كان يستطيعه ان يحتل الإذاعة ويعلن البلاغ رقم واحد. على هذا لم يشأ وزير الدفاع ان يغامر بجيشه في معركة غير متكافئة واحتفظ بقواه ليوظفها حيث يمكنه ان ينتصر فعلاً وان يحقق الانجازات.
التعليقات