رفعت الأسد حارس النظام الأمين
هراوة بيد السلف وشوكة في خاصرة الخلف
بلال خبيز، بيروت:
لم يكن انجاز الأسد الأب سهلاً. تواجه هذا الخيار مع خيارات أخرى، كانت طويلة الأنياب والمخالب، وقوية الشكيمة في سوريا ستينات القرن الماضي. كان اول ما قام به الضباط الخمسة في انقلابهم عام 1966 ان حاولوا ضمان ولاء الجيش. فالضباط الخمسة كانوا من ذوي الرتب المتواضعة في الجيش، ولم يكن ولاء الجنرالات الكبار مضموناً لهم. على هذا سرعان ما بدأ هؤلاء بتريب وضع الجيش، وكان من اول ما فعلوه ان سرحوا المنتسبين إلى دورة للضباط واتوا بتلامذة ضباط غيرهم على عجل، وسيمت الدورة دورة البعث الأولى، وانهت تدريباتها في سنة ونصف بدلاً من سنتين. كان من بين هؤلاء الضباط رجلان، هما رفعت الاسد وعبدالله طلاس، قيض لأحدهما ان يلعب دوراً بارزاً في تاريخ سوريا الحديث.رفعت الاسد هو الابن الأصغر لعلي سليمان الأسد، ويصغر اخاه حافظ بسبع سنوات، فهو من مواليد 1937، وانتظم في سلك الوظيفة العامة بعدما انهى دراسته الثانوية، وعمل في دائرة الجمارك، براتب كان قدره يومذاك 200 ليرة سورية على ما تقول مصادر مختلفة. لكن الانقلاب الذي كان اخوه حافظ احد قادته قاده مباشرة إلى سلك ضباط الجيش من الباب الأوسع. انهى رفعت دورته ومنذ ذلك الحين بدأ سلسلة ترقيات لم تقيض لغيره من ضباط الجيش. فهو اول نقيب سوري يلتحق بدورة أركان. ومنذ البداية كان يبدو ان الشقيق الأصغر يتم اعداده ليلعب دوراً بارزاً في السياسة السورية.
عام 1968 واثر المواجهة بين صلاح جديد وامين الحافظ، قاد الضابط الدرزي سليم حاطوم عملية ازاحة امين الحافظ عن الساحة، كان رفعت الاسد يومذاك واحداً من الضباط البارزين الذين شاركوا في هذه العملية. جرت اشتباكات يومها بين حراس الحافظ والقوة المهاجمة وسقط فيها اكثر من 200 ضحية من الجانبين، وهذا العدد يبلغ ضعف الخسائر التي حلت بالجيش السوري في حرب 1967، كما تشير بعض المصادر.
في العام 1969 نجح رفعت الاسد على رأس قوة من سرايا الدفاع في اعتقال سائقي عبد الكريم الجندي الضابط الذي كان على رأس جهاز المخابرات في عهد صلاح جديد. وحين علم الجندي بضياع اسطول سياراته ايقن انه انتهى، فانتحر بعد مكالمة هاتفية عنيفة مع مدير المخابرات علي ظاظا. وبذلك بدا ان حافظ الأسد كسب جولة مهمة ضد صلاح جديد الذي اصبح منذ ذلك اليوم يعد ما تبقى له من ايام في السلطة.
عام 1970 قاد مصطفى طلاس وحافظ الاسد انقلاباً على صلاح جديد ونور الدين الاتاسي والقيا بهما في السجن. واستتبت الامور لحافظ الاسد رئيساً للجمهورية العربية السورية.
كان رفعت قد التحق بدورات عسكرية متتالية، وتمت ترقيته سريعاً من نقيب إلى رائد فمقدم فعقيد، واسس سرايا الدفاع التي لم تشارك في اي حرب من الحروب التي خاضتها سوريا ضد اسرائيل، والتي كانت تتمركز حول دمشق وتحيط بكرسي الحكم. بلغ عدد افراد هذه السرايا في عز سطوتها اكثر من 55 الف عسكري، وكانت تملك طائراتها العمودية، وتستخدم احدث الدبابات الروسية التي كانت متوافرة للجيش السوري يومذاك. والحق ان رفعت الاسد على رأس سرايا الدفاع كان ذراع الأسد الرئيس اليمنى وحامي النظام طوال فترة وجوده في سوريا. ولم يكن متاحاً للمخابرات السورية الاطلاع على ما يجري في سرايا الدفاع، إذا كان قائدها يسجن اي ضابط يقيم اي علاقة مع اي جهاز من اجهزة المخابرات في سوريا.
يروي المعارض السوري نزار نيوف انه بعد محاولة اغتيال فاشلة للرئيس حافظ الاسد في العام 1980، ارغى رفعت الاسد وازبد "وكلف رفعت صهره محمد ناصيف ( زوج ابنته تماضر ) بتكليف مجموعتين من سرايا الدفاع، تم نقلهم بالطائرات العمودية إلى سـجن تدمر الصحراوي، وتـم إطلاق النار على السجناء داخل الزنازين، فقتلوا قرابة ألف مواطن معظمهم من الإخوان المسلمين، من الأطباء والمهندسين والمدرسين وطلاب الجامعات، وتم دفنـهم جماعياً بالجرافات وبعضهم مازال حياً. وقد روى هذه الواقعة ايضاً عناصر من سرايا الدفاع أرسـلوا للأردن لاغتيال رئيس الوزراء مضر بدران، وتم اعتقالهم واستجوابهم على التلفزيون الأردني".
ثم ما لبث ان تم تعيينه حاكماً عرفياً لمناطق حمص وحماه وحلب، في ايلول 1981 بعد تنامي خطر حركة الاخوان المسلمين، والراجح ان دوره في مأساة حماه كان اساسياً، وينسب إليه الدور الأبرز في قمع تمرد الاخوان المسلمين بقسوة منقطعة النظير.
على هذه المقدمات اصبح رفعت الأسد الرجل الأقوى في سوريا والذي يهابه الجميع. لكن الشقيق الأصغر لم يكن قد خرج عن طوع اخيه. ويروي باتريك سيل ان رفعت الأسد قلق اشد القلق لمرض اخيه في النصف الاول من الثمانينات، وسهر على فراشه ثلاثة ايام بلياليها، لكن الأسد المؤسس شكل لجنة من ستة اعضاء من قيادة البعث لتسيير شؤون الدولة في غيابه، ضمت زهير مشارقة، عبد الحليم خدام، حكمت الشهابي، عبد الرؤوف الكسم، عبدالله الاحمر ومصطفى طلاس، ولم يكن رفعت من بينهم. "ولم يوافق كبار الضباط على هؤلاء الستة، الذين لم يروا فيهم سوى موظفين تنفيذيين موهوبين، وليسوا دعائم للنظام. وبناء على تحريضهم قام الشهابي وخدام بزيارة رفعت، ليخبروه أن رجلاً مثله لايمكن إبعاده في مثل تلك اللحظات عن المجالس الحاكمة في البلد، أما رفعت فقال إنه يمتثل لرغبات الرئيس الذي لم يجعله أحد الستة.
ولكن سرعان ما اقتنع رفعت معهم، ثم عقد اجتماعاً كاملاً للقيادة القطرية لم يغب عنه سوى حافظ الأسد ووزير إعلامه أحمد اسكندر الذي كان على فراش الموت. وقررت القيادة القطرية أن تجعل من نفسها بديلاً عن اللجنة السداسية، وكانت هذه طريقة أنيقة متقنة لجلب رفعت.
ولما علم الأسد وهو في النقاهة سخط سخطاً شديداً لأن أي انحراف عن الطاعة الكاملة الخالية من أي تساؤل كان يثير شكوكه. فاستدعى كبار ضباطه ووبخهم على الابتعاد عن تنفيذ رغباته الصريحة، وبذلك فتحوا الباب لأخطار غير متوقعة: أولم يروا أن دفع رفعت إلى المقدمة كان خطة أميركية ـ سعودية لإزاحته عن الحكم؟
ولما مرض حافظ في نوفمبر (1983)، وتجمع الضباط حول رفعت، فجأة ظهرت في كل مكان في العاصمة دمشق، صورة لرفعت تظهره في أوضاع قيادية آمرة وقد ارتدى زي المظليين".
كان حافظ الأسد منذ ذلك الحين قد أخذ يعد العدة لتسليم ابنه البكر، باسل، الخلافة من بعده، في وقت كانت كل موازين القوى تشير إلى ان رفعت هو الخليفة الأقوى والأكثر حظاً. لكن رفعت من ناحية ثانية لم يكن موافقاً على كل سياسات اخيه، وينقل عنه اعتراضه على الاعتماد الكلي على السوفيات، وعن ضرورة التعامل مع اميركا باللين، فضلاً عن اعتراضه على رعاية الانشقاق على ياسر عرفات بقيادة ابو صالح وابو موسى وابو خالد العملة. وفي هذا ما يتعارض تعارضاً حاسماً وسياسة الرئيس الأسد. لكن الاسد القوي لم يكن مثار خلاف وجدال، ولم يكن رفعت ينوي، في ما يظهر من سيرته، او يريد الانقلاب على اخيه القوي، بل كان يطمح ان يكون خليفته في حال وفاته. على كل حال سرعان ما نظم الرئيس الأسد معركة ضد اخيه رفعت جعلته يقر بالهزيمة ويطلب الخروج من سوريا سالماً. وافق الاسد على الطلب، رغم انه كان مشفوعاً بطلب رفعت مبلغاً كبيراً من المال، لم يكن المصرف المركزي السوري يستطيع تغطيته، ويروى ان الرئيس الأسد طلب تمويل خروج رفعت الاسد من العقيد معمر القذافي الذي وافق على ذلك. هكذا تمت الصفقة بين الشقيقين وطار رفعت في طائرة خاصة إلى روسيا اشترط ان يكون من بين ركابها اللواء محمد الخولي خوفاً من ان تكون مفخخة. ومن هناك إلى باريس فجنيف فأسبانيا حيث ما زال يقيم.
حُلت سرايا الدفاع لكن نفوذ رفعت الاسد لم ينته في سوريا واستمر لاعباً مهماً على مستوى الداخل السوري، إلى ان قاد بشار الاسد عام 1998، في حياة الاسد الأب، هجوماً بالمدرعات على ميناء غير شرعي يخص رفعت الاسد قرب اللاذقية.
قيل الكثير عن علاقة ما لرفعت الاسد بتهريب المخدرات فضلاً عن تجارته بالذهب، ويذكر السوريون ورقة الخمسماية ليرة سورية التي وقعها رفعت صراحة والتي كان يستطيع ان يسحب منها ما يشاء من المصرف السوري المركزي، والتي يقال انه مول بهذه الاوراق النقدية عمليات شراء الذهب من سوريا وتهريبه إلى الخارج. لكن الثابت ان رفعت يملك ثروة لا يستهان بحجمها، وانه فرض على السلطة السورية تمويل حاشيته حتى العام 1998 حين اعفي من منصبه كنائب للرئيس السوري لشؤون الامن.
بعض عناصر هذه السيرة تكشف ان الخلاف بين حافظ الاسد وأخيه رفعت فتح النظام السوري مرة اخرى على اخطار داخلية، وعرضه لاختبارات اساسية تتعلق بترتيب موازين القوى على نحو لا يلائم بالضرورة مصلحة النظام كل مرة. فرفعت الاسد كان من دون شك حارس نظام حافظ الأسد الأمين، وبغيابه عن مهمته فتح الباب امام عواصف محلية كان الاسد الأب يستطيع معالجتها بطريقته الفذة وبنفوذه وسلطته المحكمة. لكن بعض هذه العواصف استمرت فاعلة في ما بعد واصبحت في ما يبدو شوكة في خاصرة الخلف، الرئيس الحالي بشار الاسد، تمنعه احياناً من التحرك بحرية وبحسب قناعاته.
التعليقات