اسمه هيمن على الكلمات
جبران النهار يسطع على صحف لبنان
فادي عاكوم من بيروت: غرقت الصحف اللبنانية في الحزن والسواد على الشهيد جبران التويني ، فلأول مرة منذ ربع قرن تشرق الشمس على ديك النهار ولا يرى جبران امامه، فصحيفة النهار صدرت للمرة الاولى من دون رئيس مجلس ادارتها ومديرها العام بسبب القرار الغبي الذي اتخذ بتصفيته لاسكاته وكان لغة العقل و القلم لم تكن كافية، ولولا الحدث الكبير اللبناني ndash; العالمي اي صدور التقرير الثاني للقاضي الالماني ديتليف ميليس حول نتيجة التحقيقات بجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري لغابت اي اشارة سياسية اخرى بل ان بعض الصحف جعل الحادثين مترابطين ضمن اتجاه واحد، النهار خصصت صفحاتها اليوم لعرض سيرة الشهيد كاملة ومحطاته النضالية ومجموعة كبيرة من الصور .quot;جبران تويني لم يمت ..والنهار مستمرةquot;..هكذا اراد التويني الاب ان يكرم ابنه في العدد الاول للنهار بعد وفاته .وكان قد وصرح خلال اجتماع مجلس التحرير في quot;النهارquot; مساء امس، بالجملة التي ستكون عنوان الصحيفة العريض، مشددا على مواصلة النضال، ولدى وصوله الى مبنى النهار في وسط بيروت، قال تويني للجميع بشجاعة كبيرة البكاء ممنوع.
جبران تويني الفارس الذي هوى فأوجع بسقطته العظيمة قلوب كثيرين، والقلم الذي انكسر فانفجع المقربون لدرجة أن الحبر تجمد في اقلامهم وانعقد اللسان عما اصابهم واصاب الصحافة برحيل تويني الابن لغسان والحفيد لجبران، quot;كان يمكن لجبران تويني ان يختار الطريق السهل، لكنه أبىquot; من هنا انطلقت اسرة النهار لنعي مديرها العام وحفيد مؤسس الصحيفة وابن رئيس التحرير لتختم بقسمه الذي ردده خلفه شباب ساحة 14 اذار.quot;نقسم بالله العظيم ان نبقى موحدين مسلمين ومسيحيين الى أبد الآبدين دفاعاً عن لبنان العظيمquot;.
فالنهار بيت جبران الأول الجميع مصدوم فقد كانت حلة النهار ليومها الأسود من اضخم اعمال النهار حيث جري اعداد ألبوما كاملا وشاملا عن حياة الشهيد ومسيرة نضاله ومجموعة كبيرة من الصور وبعض مواضيعه المميزة، تحت عنوان حبرا و دما، هذا وقد اتشح موقع النهار الالكتروني بالسواد بعيد تأكيد نبأ اغتيال تويني.
كما نشرت على صفحتها الاولى رسالة ادونيس الى غسان تويني اضافة الى متابعة لتقرير ميليس وجلسة مجلس الوزراء امس .اما صفحاتها الداخلية فخصصت لتغطية كل المواقف المنددة والمستنكرة لجريمة الاغتيال التي تعرض لها امس اضافة الى تغطية وصول التويني الاب مع حفيدته نايلة .
اما صحيفة السفير اللبنانية فقد اتشحت هي ايضا بسوادها لينعيه طلال سلمان في افتتاحية بعنوان صحافة لبنان تنزف النهار، : جبران تويني شهيداً!
صاح الديك، كالعادة، فجر أمس، وطلع النهار مختلفاً: كان مضرجاً بالدم! سال الدم فغطى الصفحات جميعاً. لوّن بالمقدس القاني الأخبار وصور الزعماء المختلفين على كل شيء، والقادة المتنافرين، التصريحات والتصريحات المضادة، التحقيقات الاجتماعية الكاشفة مواقع الغلط والثقافة الهادية إلى الصح، وعند الكاريكاتور الذي غادر السخرية الضاحكة منذ هبوط ليل الاغتيالات السياسية صار الدم بركة قبل أن ينساب إلى البيوت والمقاهي والمنتديات والشوارع حاملاً معه رسم جبران تويني شهيداً...
بعدما شرق القراء بدمع اللوعة على الدم المهدور ظلماً وغيلة جاء الغضب عارماً: أية مخيلة شيطانية هذه التي تفترض، بعد، أن الرد على الكلمة يكون مفحماً إذا هو لجأ إلى اغتيالها، متناسياً أن القلم الذي يجرّحه رصاص المقيمين في ليل الغربة عن العصر إنما يكتسب وجاهة استثنائية، إذ تغطي فداحة الجريمة على ما يفترض أنه خطل في رأي الكاتب، فيسقط المجرم بينما يتعاظم القلم محصناً بحق الاختلاف باعتباره الطريق إلى الرأي الأكثر وجاهة وصحة.
لا يمكن أن ينحاز إنسان إلى من يختار السيارة المفخخة وسيلة للتعبير عن الاختلاف مع صاحب الرأي، بل ان الانحياز في مثل هذه الحالة سيكون إلى صاحب الرأي ضد من لا يجد رداً إلا القتل!
طلع النهار مجللاً بدم رئيس مجلس إدارته وكاتب افتتاحياته، فجلل الحزن بيروت، وتمدد حتى ملأ فضاءها بصيحات الغضب، وكان المختلفون مع جبران تويني هم الأشد غضباً: لقد أصابتهم بعض شظايا الغلط القاتل فسفهت آراءهم (المعترضة) سلفاً. لا حجة تصمد في مواجهة الدم! صارت اعتراضاتهم ومعارضتهم لآراء جبران كأنها تبرير للجريمة في حين أنهم ضحيتها مثل جبران ومعه.
أي عقل جهنمي يفترض أنه يمكن له بالاغتيال الجبان أن يمسح تاريخ مؤسسة عريقة تكاد تكون عنواناً للصحافة في لبنان، وهي التي لعبت دوراً رائداً في تحديث الإعلام المكتوب، وكانت لفترة طويلة ملجأ لمعارضي أنظمة القمع في دنيا العرب، الهاربين من جحيم كتم الآراء المختلفة وطمسها إلى فضاء مفتوح يسمح لهم بالتعبير عن حقهم في الاعتراض على ما يرونه خطأ، ولو كانوا يعلمون أن آراءهم المنشورة في النهار لن تصل إلى جمهورهم في بلادهم إلا خلسة وباعتماد وسائل التهريب.
اما صحيفة اللواء و تحت عنوان جبران تويني شهيدا نعت الشهيد، وجاء في المقال شهيد الصحافة الحرّة، الملتزمة بقضايا الوحدة والحرية والسيادة والاستقلال، هذا هو قدر الصحافة، وهذا هو قدر جبران، تاريخاً حافلاً بالعطاء من أجل القيم العظيمة لحرية الفكر والمعتقد والقول والكتابة، من أجل قيم لبنان وطن التعايش والإخاء، الوطن الصغير بمساحته، الكبير بشعبه، بمسلميه ومسيحييه، بطوائفه الطامحة الى العيش الحرّ الكريم، بعيداً عن الاستبداد والتحكّم والهيمنةbull;
تدفع الصحافة اللبنانية مع استشهاد الزميل العزيز جبران تويني، قرباناً جديداً على مذبح الحريةbull; وفارساً من فرسان الكلمة الحرّة، الذي لم يترك منبراً ولا ساحة إلاّ وانبرى يحضر فيها بقوّة دفاعاً عن المبادئ التي آمن بهاbull;
تتفق معه أو تختلف، توافقه في هذا الموقف أو تُعانده، لكنك لا تستطيع أبداً أن تُنكر عليه إقدامه وشجاعته عندما يتصل الأمر بالحرية، أو يكون الوطن الصغير هدفاً للمغامرات والحسابات الصغيرة والقراءات الخاطئة للعلاقات بين الجماعات والأفرادbull;
وكتب بشارة شربل رئيس تحرير صحيفة البلد اللبنانية ليس جديدا على الصحافة ان تقدم الشهداء. ولم يعد جديدا على quot;النهارquot; ان تكون السباقة في دفع ضريبة الدم من أجل الحرية في لبنان.
جبران تويني شهيد شهداء الصحافة سقط كما أراد رافعا دائما علم لبنان وصارخا بأعلى الصوت من أجل السيادة والاستقلال، لن نرثي جبران. تعودنا عليه مشروع شهيد. ومشهد أمس بدا كما لو انه مر في يومياتنا او في كوابيس يقظتنا. أما الكلام المنمق الذي يقال في هذه المناسبات فيقصر عن الكلمة القاطعة كالسيف وعن الوضوح الذي يشبه الماء.
لن نرثي جبران. لكننا نبكيه زميلاً عزيزاً وقلماً حراً ووقفة جريئة واندفاعاً حتى الاستشهاد في سبيل لبنان. ثم ان جبران ليس لنا ولا لــquot;النهارquot;, انه مُلك ساحة الشهداء التي علق فيها جمال باشا الصحافيين الرواد في 6 أيار, وملك ذاكرة وطن وذاكرة شعب والنسمة الحرة من ايقاع الحياة.
هناك من قد يستحق الرثاء لا بل الشفقة. انها انتفاضة quot;14 آذارquot; التي لم يكن جبران أحد قادتها الميدانيين فحسب بل كان, بمؤسسته, الأرض التي نبتت فيها براعمها طوال سنوات والراية المرفوعة التي بقيت شاهداً لحق الوطن في السيادة والاستقلال وحق الناس في ألا تنتهك بديهيات حقوقهم في العيش والتعبير والأمان.
quot;14 آذارquot; لم تفاجئ جبران. فبرفضه التورية في الكتابة وبتقريريته المباشرة التي يأخذها عليه الكتّاب, وبفجاجة قلمه الذي يشهد ضد شطارة الاستكانة وتطويع الأقلام مع متطلبات القمع وquot;الظرف الحساسquot;, كان جبران منتظراً جماهير quot;14 آذارquot;, لكنه لم يكن يتوقع ان تتحول تلك اللحظة التاريخية الاستثنائية في تاريخ لبنان الى تسوية تفرغ quot;ثورة الأرزquot; من المضمون وتوقف اندفاعة الشباب نحو استكمال التغيير بعد تحقيق المعلن والأساسي من مطالب الحقيقة والانسحاب والتحقيق الدولي.
بالعودة الى صحيفة النهار كان اللافت وصف ساعاته الاخيرة قبيل مغادرته فرنسا
قبل أن يهم جبران تويني بمغادرة مكان اقامة والده غسان تويني في باريس الاحد الماضي ايذانا بعودته وزوجته سهام الى بيروت، بادر غسان تويني للمرة الاولى، وكما لم يفعل مرة، الى استمهاله وقرأ على مسمعه مقطعا كتبه في افتتاحية الاثنين التي صدرت امس متصدرة quot;النهارquot; وفيها عبارة اعتراضية quot;بين هلالينquot; في توجهه الى الرئيس نبيه بري: (ولا لأنني والد نائب حالي راشد حرّ بينه وبين رئيس المجلس quot;حوارquot; مستمر من نهج خاص أظل خائفا ان ينحرف أحيانا عن الطريق السوي!).
لاحظت سهام تويني ان زوجها تأثر بعمق لشهادة والده فيه، ولم ينبس ببنت شفة، غادر الزوجان جبران وسهام باريس بعد ظهر الاحد، وفي الطائرة راح جبران يراجع مع زوجته نص حديث طويل أجرته معه الزميلة مارلين خليفة التي كانت تعد عنه quot;بورتريهquot;.
راح يشطب تحت بعض المقاطع بغية الغائها من النص، وهي قليلة. كان في هذا الحديث يقول quot;كل دقيقة أعيشها زيادة هي بونوسquot;، مساء وصل جبران وسهام الى بيروت، وبعد وصولهما الى منزلهما في بيت مري quot;فتحquot; شبكة اتصالاته مع quot;الجريدةquot;، مستوضحا ومستفسرا عن الاخبار وquot;ماذا ستمنشتونquot; الليلة؟
صباح يوم الغدر والاغتيال بدا جبران تويني بمنتهى حيويته المعتادة. ولكن أضاف اليها لمسات حنان وعاطفة اذ قال لزوجته: quot;لن أتركك أبداquot;. قام لمرة واحدة بتبديل ساعته. كان يحمل ساعة يحبها ولا تفارق معصمه، أمس بدّلها. بادلته سهام بعبارات دافئة ومضى. لم تمض دقائق ثلاث ودوى انفجار.
نشأ الزميل الشهيد جبران تويني وترعرع في كنف عائلة آمنت بقيم الإنسان عقيدة ومسلك حياة، فجاءت مقالاته وكتاباته في الزميلة النهار، تُعبِّر عن مدى التزامه بهذه القيم، وعندما دقّت ساعة الحقيقة في ساحة الحرية، انتصر مع زملائه في الجسم الصحفي لدم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي رأى فيه نبراساً للتقدُّم ومُدافعاً أميناً عن استقلال لبنان وسيادته، فكان مع رفاقه من الشخصيات الوطنية المسلمة والمسيحية من صُنّاع quot;انتفاضة الاستقلالquot; التي قالت بصوتٍ مدوٍ في وسط بيروت، مدينة رفيق الحريري، وعاصمة الكرامة الوطنية: كلنا رفيق الحريري، نعم لمسيرة السيادة والاستقلالbull;bull;
اما صحيفة المستقبل وهي التي حملت لواء القهر الاول بفقدانها الرئيس الشهيد الحريري فكان اللافت بين صفحاتها مقالة بعنوان : لحود quot;يبكيquot; الشهيد؟ وجاء فيه
استهجنت مصادر في الأكثرية النيابية الكلام العاطفي والمديح الذي كاله رئيس الجمهورية العماد اميل لحود للنائب الشهيد جبران تويني في جلسة مجلس الوزراء مساء أمس. وذكّرت المصادر بما سبق ان صدر عن مكتب الإعلام لرئاسة الجمهورية الثلاثاء الفائت (6 كانون الأول 2005) رداً على مداخلة الشهيد تويني في مجلس النواب، وما تضمنه هذا الردّ من افتراءات واتهامات.
وأضافت المصادر: quot;بدلاً من أن يجيب الرئيس لحود عن الأسئلة التي وجهها النائب تويني حول كيفية دفن جثث العسكريين اللبنانيين في اليرزة العام 1990، بوصفه قائداً للجيش في ذلك الحين، أطلق مجموعة اتهامات ضد تويني معتبراً ان همّه كان استغلال ذكرى هؤلاء العسكريين للنيل من رئيس الجمهورية، وأن الذين يرفعون الصوت اليوم يمعنون في نحر الوطن على مذبح شهواتهم وأنانياتهمquot;.
كما اتهم بيان لحود يومئذ النائب تويني بأنه quot;كان على تواصل دائم مع مسؤولين عسكريين يحرص على إخبارهم بما لديه من معلومات حول الكثير من المواضيع واللقاءات السياسية التي كان يشارك فيها، وذلك سعياً وراء موقع سياسي من هنا، أو دور سياسي هناكquot;.
وإذ استغربت المصادر هذا الأسلوب، لم تستغرب اتباعه من قبل الرئيس لحود بالذات الذي تعوّد البكاء على الشهيد بعد أن يستشهد.. هذا إن بكى!
اما هاني حمود من المستقبل ايضا فوجه كلامه الى الشهيد : قدرك الحقيقة يا جبران.
قدرك أن يكون توقيعك الأخير، على هذه العريضة الممتدة من شمال لبنان إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، مطالبة بالحقيقة، توقيعا بالدم. بدمائك.
والحقيقة، يا جبران، أنك أمام الحقيقة، لم تعد تسمع.
لم تعد تسمع ما كنا، جميعاً، نقوله لك، يا جبران. أن أخّر سفرك إلى لبنان، قليلاً، أياماً، فقط أيام.
أتذكر يا جبران، ما كنا نقوله لك. أتذكر كيف كذبنا عليك، يوماً، أنا وخالك الزميل علي حمادة، من أن أستاذنا الكبير، العملاق غسان تويني، توعك، ويحتاجك في باريس، لكي نخرجك، بما يشبه العنوة من الطائرة التي كنت تهم بركوبها في مطار شارل ديغول، متوجها إلى بيروت.
كنت تعرف يا جبران. قبل أربعة أيام، قلت لي على الهاتف، أوصيتني ألا أفكر في العودة إلى بيروت الآن. قلت لي، أوصيتني، أمانة، ألا يفكر سعد الحريري، زميلك النائب، quot;الشابquot; كما كنت ترمز إليه هاتفياً، بأي عودة إلى بيروت.
كنت تعرف يا جبران، أن نفس الأشخاص، عن حسن نية أو سوء نيّة، الذين كانوا يقولون لك أن عليك أن تعود إلى بيروت، وأن تمكث فيها، كما الزعيم البطل وليد جنبلاط، والزعيم الصخرة سمير جعجع، وأن الناس انتخبوك لتمثلهم لا لتبقى بعيداً عنهم، وأن من يدخل السياسة عليه أن يقبل بمخاطرها، هم أنفسهم من يقول لزميلك الزعيم، quot;الشابquot;، سعد الشيء نفسه.
التعليقات