إيلي الحاج من بيروت: في اليوم الثالث من الحرب المفتوحة أطبقت اسرائيل الحصار الكامل على لبنان جوا بإقفال مطار بيروت عبر تدمير مدارجه وخزانات وقوده، وبحرا بإقفال مرافىء بيروت وصيدا وصور وطرابلس، وبرا بقطع طريق بيروت ndash; دمشق، وبيروت ndash; حمص . وهي في صدد اكمال عملياتها الحربية المفتوحة على تصعيد واسع يبدو انه من دون سقف زمني وعسكري، أي أنه يمكن تصوّر ما سيكون عليه الوضع بعد شهر من اليوم في البلد الصغير المعذب.
فالعمليات العسكرية الإسرائيلية مستمرة على ما يبدو الى ان تحقق أهدافها، ولا مكان قبل ذلك، بحسب كل المؤشرات، إلى تسويات ومفاوضات سياسية واتفاقات لوقف النار، كما أن لائحة الأهداف لا تحدها استثناءات أو خطوط حمر.
يعني كل ذلك أن المسألة ليست مسألة أيام بل أسابيع ، ومهلة الشهر ترد في هذا السياق لأن تقديرات دولة عربية كبيرة تتابع بقلق تفاصيل تطور الأحداث في لبنان، تقول بأن الحزب الشيعي المتشدد لن يبدأ قبل هذه المدة بالإقتناع بضرورة التوقف عن المضي في سياسة مراكمة الخسائر على كل الأصعدة.
وهذا وضع لم يكن يضعه بالتأكيد في الحسبان quot;حزب اللهquot; عندما قرر القيام بعمليته خلف الحدود. فقادته - الذين بان عماهم في التكتيك والإستراتيجية معاً، وفجأة - كانوا يتصورون أن الولايات المتحدة وفرنسا خصوصاً ستهرعان بعد ساعات قليلة من أسر الجنديين الإسرائيليين إلى التدخل لفرض وقف إطلاق للنار يعيد الوضع إلى ما كان عليه، وذلك خوفاً على لبنان وعلى موسم السياحة، الذي كان واعداً بإعطاء دفعة تنعش الإقتصاد اللبناني المُتعاب بنحو أربعة مليارات دولار ( خسائر الإقتصاد اللبناني تقدر حتى الآن بنحو 7 مليارات دولار) . لم يدر في خلد هؤلاء أن التحذيرات والمناشدات المتكررة التي تلقاها من سياسيين ومسؤولين لبنانيين لإبقاء الوضع هادئاً على الحدود ليست آتية من فراغ، بل تستند إلى معلومات أكيدة عن تفويض دولي وحتى عربي إلى إسرائيل للتخلص من quot;حزب اللهquot; إذا أصر على مواقفه ولم يتجاوب ولم يستوعب الجو الدولي الجديد الذي جعل لبنان دولة تتمتع بحماية المجتمعين الدولي والعربي لاستقلالها وسيادتها واستقرارها.
ضرب quot;حزب اللهquot; بعرض الحائط كل هذه الحقائق وركب رأسه ليتحقق قول المؤرخ الفرنسي بول فاليري الشهيرquot;إن quot;نقطة ضعف الأقوياء أنهم لا يؤمنون إلا بالقوةquot;. وأكثر من ذلك لم يسلك هذا الحزب إلا مسلك العنجهية والإستخفاف والغرور بقوته في تعامله ليس مع الأحداث فحسب بل مع جميع الآخرين الذين يخالفونه الرأي، رغم أنهم لم يتركوا وسيلة لم يلجأوا إليها في محاولة إقناعه بوجوب quot;التلبننquot;. والمقصود أن يضع مصلحة لبنان فوق مصالح إيران خصوصا، وسورية والتنظيمات الإسلامية الفلسطينية.
فمن موقع مميز أعطي له في مجلس النواب حيث فرض اعتماد حليفه نبيه بري رئيساً للمجلس دون أي منافس، وحيث يمتلك الحزب وحركة quot;أملquot; التي اضطرت إلى الإلتحاق به، كتلة وازنة ومهمة ومؤثرة ، إلى مجلس الوزراء حيث استأثر بتسمية ممثلي الطائفة الشيعية كافة ، إلى الموقع الممتاز الذي أعطي له في جلسات مؤتمر الحوار الوطني حيث بدا واضحاً أن الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله يضع مسبقاً في سلة القمامة جميع إقتراحات الحلول التي تعرض عليه لمسألة سلاح quot;المقاومة الإسلاميةquot; وضرورة تطبيق اتفاق الطائف والقرار الدولي رقم 1559 . في حين كان مع عدد من مساعديه يمطرون اللبنانيين يومياً بوابل من تصريحات غير منطقية تضمن بعضها تهديدات بقطع الرؤوس والأيدي، وشكل بعضها الآخر تراجعاً عما تم الإتفاق عليه في جلسات الحوار، مثل سبل تأكيد لبنانية مزارع شبعا ومنع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ترسيم الحدود، والعلاقات الدبلوماسية مع سورية. في اختصار كان بقية اللبنانيين يكادون يقبلون أرجل قادة quot;حزب اللهquot; ليقبلوا بنزر يسير من التنازل لمصلحة مشروع الدولة والشرعية ولبنان عموماً ولا يلقون منهم إلا الصد واتهامات التخوين والتخاذل عن مواجهة العدو، مما يفسر أن quot;حزب اللهquot; ومعه جمهوره الشيعي يقف وحده اليوم عارياً من التعاطف ، إلا ما كان مصدره حلفاء للنظام السوري وأتباع، وذلك وسط مواجهة غير متكافئة مع إسرائيل التي لطالما لوّح بإنزال ضربات ماحقة فيها. فإذا هي تقتصر في الترجمة الواقعية على صواريخ ضئيلة العدد والتأثير، تعمل على تضخيم مفاعيلها محطة quot;المنارquot; على طريقة وزير الإعلام العراقي السابق الصحاف متجاهلة ما يحصل حول مبنى المحطة في الشوارع القريبة وفي كل لبنان، حيث الطائرات والزوارق الحربية تتفرد بالأجواء والمياه، تقصف ما تشاء ولا خطر عليها ولا أي تهديد أو رد.
وحتى الصواريخ الضئيلة التي تصل إلى حيفا وصفد، يبدو جلياً من تأثيراتها أنها لا تتجاوز تأثير قنبلة يدوية ، أين منها الخراب والدمار اللذان لطالما هدد الحزب بإنزالهما في إسرائيل. ومرد ذلك بحسب خبير عسكري أن مسلحي الحزب يضيفون إلى زنة الحشوة الدافعة في الصاروخ ليصل إلى مداه الأبعد على حساب حشوته التفجيرية.
وما يمكن تأكيده هو ان المواجهة كسرت معادلة quot;توازن الرعبquot; التي كانت قائمة في السنوات الماضية، فدخل لبنان معادلة عض الأصابع ومن يصرخ أولاً quot; آخquot; ، وسط لجوء متبادل الى التحدي واستخدام اسرائيلي مفرط للقوة او الطاقة النارية، في ظل معطيات غير متكافئة. صحيح ان quot;حزب اللهquot; يسجل أحياناً سابقة قصف اسرائيل في العمق وصولاً إلى يافا بعدد من الصواريخ . ولكن الصحيح أيضا ان الحزب- ومعه لبنان رغما عنه وبدون التفضل بأخذ رأيه- يواجه ضغوطا هائلة وتصميما اسرائيليا لا رجعة فيه الى الوراء تجاوز بأشواط أزمة الجنديين الأسيرين واحتمالات صفقة التبادل التي يمكن القول أنها باتت مجرد حلم للحزب في الوضع الراهن.
ثم ان كل الحركة الدبلوماسية الدولية والعربية لن تحمل اسرائيل على التهدئة والبحث عن تسوية . فهي تقول انها تخوض حربا وجودية عبأت الرأي العام لديها لخوضها حتى النهاية، ومهما بلغت كلفتها. وأي توقف عند هذا الحد يعني انquot; حزب اللهquot; هم الغالبون حقاً وليس في الشعار، وتالياً ان إسرائيل ستواجه أوضاعا أكثر تعقيدا في المستقبل إذا ما توقفت في منتصف الطريق . ولذلك تستغل الفرصة الدولية النادرة المتاحة حاليا وتتمثل في الانحياز شبه الكامل الى وجهة نظرها الى درجة امتناع المجتمع الدولي عن ممارسة ضغوط عليها وعن مساعدة الحكومة اللبنانية إلا على أساس التوصل إلى حل نهائي للوضع الحدودي بين لبنان واسرائيل وتطبيق القرار الدولي رقم 1559 .
كل هذا يعني أن لبنان اليوم في زمن آخر مختلف، وإن لم يصدق الحزب ومن يوالونه ويعقدون آمالأ على مقاومته التي لا تتمكن من المقاومة لسبب بسيط هو أن الجيش الإسرائيلي لا يكرر الخطأ بدخول لبنان براً. ولعلها مفارقة لافتة أن منظمة التحرير الفلسطينية أصابها في لبنان في ما مضى العماء نفسه الذي أصاب quot;حزب اللهquot; أخيراً وارتد ذلك عليها كارثة فوق القدرة على التصور آنذاك.
الناس يظنون أننا في بيروت مثلهم في السنة 2006 . خطأ . إننا تحديداً مع إختلاف الأشخاص والظروف في السنة 1982.
التعليقات