الأممية الأصولية بعد 5 أعوام على quot;غزوة مانهاتنquot; (1/2)
خلطة quot;أرامكوquot; : نفط وقبائل وأصولية وديماجوجية

كتب ـ نبيل شرف الدين : مقدمة لا مفر منها. قبل أن ينجلي الغبار الهائل الذي خلفته هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على المنشآت الأميركية، حتى انطلقت أبواق الحكومات المستبدة في مصر ومحيطها الإقليمي، بمساندة لوجستية من قبل تجار النفايات الفكرية، ليشنوا أكبر حملة تضليل عرفتها البلاد منذ نكسة يونيو 1967، مستخدمين في سبيل تسويغ ذلك العمل الإرهابي الشرير quot;نظريات المؤامرةquot;، وهرعت الفضائيات العربية إلى مكاتب quot;الخبراء الاستراتيجيينquot; تستطلع آراءهم، وهي بالطبع تنفي تماماً ضلوع المنظمات الإرهابية في هذه الهجمات، وكانت أبرز حججهم في هذا السياق أن عملاً بهذه الدقة والإحكام لا يمكن أن يرتب له عرب أو مسلمون، وكأن هؤلاء أغبى وأعجز من التصدي لهكذا عمليات .

ورغم الظهور المتكرر لأسامة بن لادن وصحبه quot;الغر الميامينquot;، يعترفون صراحة وبلغة لا تحتمل أي تأويل، في quot;كليبات القاعدةquot; التي تبثها فضائية quot;الجزيرةquot; القطرية وقد أمست ـ في ما يبدو ـ لسان حال التحالف quot;الأصولي ـ البعثيquot;، بهذه الهجمات، إلا أن هذا الطراز الديماجوجي من quot;الاستراتجيينquot; العرب والمصريين ظلوا على موقفهم المكابر الذي يستبعد ضلوع quot;القاعدةquot; في تلك الهجمات .

غير أن ابن لادن لم يشأ أن يدع فرصة للمناورات وألاعيب السيرك السياسي التي يمارسها quot;الاستراتيجيونquot;، بغية التنصل من مسؤولية quot;غزوة مانهاتنquot;، على طريقة كفار قريش حين تآمروا ذات زمن مضى على النبي محمد (ص)، وفق نظرية تفريق الدماء بين القبائل، من خلال إسناد التهمة إلى أجهزة المخابرات الغربية والإسرائيلية، وكأنها تفرغت لتدمير بلادها وقتل مواطنيها، ولعل هذا يعكس عملية quot;إسقاطquot; لما اعتاده quot;الاستراتيجيونquot; من سلوك أجهزة القمع العربية، حتى خرج قبل أيام أسامة بن لادن مجدداً ليؤكد أنه المسؤول quot;عن تكليف الإخوة التسعة عشر بتنفيذ هذه الغزوة المباركةquot;، ومع ذلك لم يتوقف باعة الروبابيكيا السياسية مع قناعاتهم ـ إن كانوا بالفعل مقتنعين ولا يتذاكون ـ ليتجاوزوا مهزلة إعفاء quot;القاعدةquot; من مسؤولية هجمات سبتمبر، غير أن ما حدث أن جلس أحد هؤلاء quot;الاستراتيجيينquot; أمام كاميرا quot;الجزيرةquot; وقد اتخذ quot;الوضع مفكراًquot;، وقطب بين حاجبيه، وراح يرطن بكلمات ممطوطة، وحذلقة ثقيلة الظل، خلص بعدها إلى تأكيد نظريته التي يتجشأها في كل مكان، ومفادها أن quot;القاعدةquot; لم تنفذ هذه الهجمات، حتى لو اعترف قائدها بذلك .

نحن إذن إزاء quot;حالة نفسية مستعصيةquot;، أكثر من كونها مسألة خلاف في الرأي، فلسنا بصدد quot;رأيquot; بل حيال quot;واقعةquot;، أقر فاعلوها بها، بل وتباهوا بذلك، ملوحين بارتكاب المزيد إذا واتتهم الفرصة، وقد كرروها بالفعل بدرجات أقل في إسبانيا وبريطانيا وإندونيسيا وغيرها، ومع ذلك مازال هناك من يدفع التهمة عمن اعترف بها، رغم أن الاعتراف سيد الأدلة .

هذه الذهنية الديماجوجية لا يمكن التعامل معها بالمنطق، لأن المبتلين بها لا يقيمون للمنطق وزنا ـ وإن تشدقوا به ـ فهم كالساقطة التي تتحدث عن الشرف لتدرأ عن نفسها التهمة، من هنا فإن هذه القراءة التي نقدمها هنا في محاولة لفهم جذور هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ليست موجهة لهذه النماذج التي تسكنها quot;نظريات المؤامرةquot;، بل لمن يرغب في الوقوف على منطلقات هذا quot;الشر السرياليquot;، وهنا أؤكد أن الأزمة الحقيقية في العالم الإسلامي حالياً ليست في تنظيم quot;القاعدةquot; فهذه قضية أمنية واستخباراتية، فالمشكلة المحدقة هي أن ملايين المسلمين والعرب يؤيدون عاطفياً مثل هذه quot;الغزواتquot;، ويرون فيها أفضل السبل للرد على السياسات الغربية التي يعارضونها لسبب أو آخر أو حتى يتوجسون منها .

العنف المقدس
إذن بعد خمسة أعوام على الزلزال وتوابعه، وقبل وقوع زلزال جديد، يمكن للمرء أن ينتهز الفرصة لتأمل ظواهر جديدة أفرزتها قصة quot;القاعدةquot;، وأبرزها ظاهرة تعدد الأجيال التي أفرزتها تجربة الجهاد الأفغاني، فمن الجيل الأول للمجاهدين الذي ينتمي إليه أسامة بن لادن والظواهري ورفاعي طه ومحمد الإسلامبولي وغيرهم، مروراً بالجيل الثاني الذي يمكن أن نطلق عليه quot;القوارب الأصوليةquot;، لأنهم كانوا كالقوارب التي حملتها أمواج السياسة الدولية إلى أكثر من ميناء، خلال الفترة الممتدة من خروج السوفيت حتى نهاية حرب الخليج الثانية عام 1992، والذين انتقلوا بين عدة بلدان أو عادوا إلى بلادهم الأصلية، ليمارسوا فيها العنف بعد أن تلقوا دورة مجانية مكثفة على قواعده وفنونه .

نأتي بعد ذلك إلى الجيل الثالث، وأرجو أن أكون موفقاً في تسميته بـ quot;جيل صدامquot;، وهذا لا يعني مطلقاً أن للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين دوراً في صناعته، كما ترى دوائر الأمن الأميركية، بل هو (مصطلح جيل صدام) مجرد رمز لسياسات العبث الشريرة، التي أطلقها الدكتاتور العراقي في المنطقة، بل وربما في العالم كله، ومن أبرز سمات هذا الجيل أنه يتمتع بخبرات أفضل كثيراً من تلك التي كان يتمتع بها الجيلان اللذان سبقاه، فهو يتدرب على الطيران، ويجيد التعامل مع الكمبيوتر والإنترنت، ويتقن عدة لغات أجنبية، ولا ينم مظهره بالضرورة عن انتماء محدد، فضلاً عن أن معظمهم لم يكونوا من المصريين أو السودانيين أو الجزائريين الفقراء كما كان الأمر من قبل، بل من الخليج العربي والسعودية .

ولعل الأهم من هذا كله أن أجهزة الأمن العربية فضلاً عن تفرغها لقمع المعارضة المدنية، واسترخائها حيال هذه القضية ظناً منها أنها تلاشت، كانت آخر من يعلم بولادة هذا الجيل الخطير، ولعل انكفائها على البعد المحلي لهذه القضية، دون تتبع امتداداتها الإقليمية والدولية، كان من بين الأسباب التي أدت إلى حالة الغيبوبة تجاه ما اسميناه quot;جيل صدامquot; .

وكما أسلفنا فقد ساهمت خبرات هذا الجيل تفاعلت مع قدراته المالية الجيدة في تأسيس ما صار يطلق عليه بعد أحداث أيلول أميركا الأسود بالخلايا النائمة التي يمكن أن تيقظها كلمة واحدة من أسامة بن لادن أو غيره من قيادات الأممية الأصولية الجديدة، كما انتشرت أيضاً تلك الخلايا في أميركا وأوروبا فضلاً عن امتدادات محلية لها في الفلبين وإندونيسيا وكل البلاد الإسلامية تقريباً، ولم تعد أحلامها تتوقف عند عملية اغتيال مسئول هنا، أو تفجير منشأة هناك، بل تجاوزت ذلك كله إلى محاولة فرض quot;شرعية العنف المقدسquot; التي ابتلعتها بعض الأقلام العربية، وتحت مؤثرات تصفية حساباتها المزمنة مع الأنظمة الشرق أوسطية أو مع الإدارات الأميركية، فراحت تؤيد هذه الممارسات quot;ليس حباً في عليّ، بل بغضاً في معاويةquot;، ليصاب الواقع العربي بحالة من الارتباك حيال هذه الظاهرة ، تماماً كما حدث عندما غزت قوات صدام الكويت.

وهكذا تحتم علينا لعبة توالد أجيال الأصولية المسلحة إلى محاولة التعرف على أدواتهم، ويأتي في مقدمتها ملف تسلح وتدريب هذه الحركات الأصولية، وتلك النقلة النوعية الهائلة التي شهدتها إثر تحول أنشطتها من الصعيد المحلي إلى المسرح الدولي، وما ارتبط بذلك من تغييرات في الاستراتيجية التي تحكم أنشطة تلك المنظمات وقادتها، فضلاً عن الخطاب السياسي الذي بدأ يتطور ليقفز على قضايا الأمم، ويختطف تاريخها ومستقبلها بأسره .

خلطة quot;آرامكوquot;
منذ عقد السبعينات من القرن المنصرم اعتمدت السياسة الأميركية quot;خلطة آرامكوquot; السعودية في أفغانستان، لتصيب بها عدة عصافير بنفس quot;الخلطة السحريةquot; المكونة من النفط.. القبليات والأصولية، التي سبق لها أن حققت أهدافها من قبل في مشروعها quot;آرامكوquot; الذي تحول من مجرد quot;شركة بترولquot; إلى quot;رمز سياسيquot;.

وفي نهاية السبعينات رصدت أقمار أميركا الصناعية وبحوث شركاتها، الغاز والنفط في بحر قزوين وتزامن هذا مع ظهور أعراض الشيخوخة على الرجل المريض المسمى بالاتحاد السوفيتي، فانتهزت الإدارة الأميركية الفرصة حينئذ وقررت استنساخ quot;وصفة آرامكوquot; في أفغانستان، خاصة وأن كل الظروف هناك كانت مهيأة تماماً، من قبليات متناحرة تاريخياً ، بشتون وأوزبك وطاجيك، إلى طبيعة جغرافية قاسية ، جعلت من هذه المنطقة الأكثر تخلفاً في العالم وسط جيران يتقدم بعضهم بسرعة الصاروخ، وآخرون يسعون حثيثاً صوب الأفضل، وأخيراً فهاهو النفط على وشك التفجر.. إذن لم يعد ناقصاً لهذه quot;الوجبةquot; سوى الأصولية .. وهذه مسألة بسيطة، خاصة لو علمنا أن لهؤلاء الأفغان وجيرانهم من الباتان مفاهيم متشددة للدين والتدين، لكن وإمعاناً في دقة المخطط، تم استخدام آليات التشدد الديني والمذهبي والطائفي في عدد من الدول العربية .

وفوراً دارت ماكينة الإعلام العربي الموجهة حكومياً لتشعل نار الجهاد والذود عن quot;حياض الإسلامquot;، وظهرت مئات الكتيبات الصفراء التي تتحدث عن أرض أفغانستان ومجاهديها وكراماتهم، وكيف أن الملائكة تهبط ليلاً من عليائها لتحارب معهم، وكيف تمكن quot;أبو قتيبةquot; من اصطياد عشر دبابات روسية برصاصتين فقط لا غير، وكيف أوقع quot;أبو القعقاعquot; بألف من الجنود الروس بينهم مائتان من الروسيات الفاتنات اللاتي صرن quot;إماءquot; في قصر quot;أمير المؤمنينquot;، ومن المعلوم أن استرقاق الأسيرات باعتبارهن quot;ملك اليمينquot; له ما يبرره في تفسيرات وأدبيات الفقهاء المعتمدين لدى هذه الحركات الأصولية المتطرفة، أمثال شيخ الإسلام، وشيخ الطائفة، وشيخ quot;المنسرquot; .

إذن انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك كأن لم يكن هناك حلف quot;وارسوquot; ذات يوم، واندلعت حروب عبثية بين ميليشيات المجاهدين السابقين، وجرت مياه كثيرة هنا وهناك، وكاد الزمام يفلت من يد الأميركيين، فقرروا إدخال بعض التعديلات (غير الجوهرية) على quot;خلطة آرامكوquot; التاريخية، حيث جرى استبدال أمراء المجاهدين القدامى، بطلاب الشريعة الجدد الذين ربتهم المخابرات الباكستانية، وقدمت معهم quot;شهادة ضمانquot; بأن هؤلاء لن يخرجوا على النص.. وكادت الأمور تستتب، خاصة بعد أن سارعت ثلاث دول مهمة بالاعتراف الفوري بهؤلاء quot;الطالبانquot; الجدد، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، واتضح أن quot;شهادة الضمانquot; الباكستانية زائفة .. فقد خرج هؤلاء على النص مبكراً ، ومعهم رمز من رموز الصلة بين quot;خلطة آرامكوquot;، وquot;خلطة قندهارquot; وهو quot;السوبر مجاهدquot; أسامة بن لادن، نبي قندهار الجديد الذي كان يشاع عنه في أوساط بسطاء الأفغان أن من يلتقيه يحرم الله جسده على النار، ويتم تداول صوره وسط صور نجمات السينما ، والآيات القرآنية الكريمة في عشرات المدن العربية والإسلامية .

يتبع الجزء الثاني من الدراسة،
[email protected]