حول الحريات الإعلامية في لبنان
فلتان إعلامي يخرق القانون والمواثيق
عماد الدين رائف من بيروت: لا يختلف قطاع وسائل الإعلام في لبنان عن كافة القطاعات العامة والخاصة الموزعة على الطوائف والمذاهب والمرجعيات السياسية والحزبية، فالمحطات التلفزيونية والإذاعية والصحف تتبع نظام المحاصصة السائد باستثناء ما يعد على أصابع اليد الواحدة منها، وهذا القليل الذي ينأى بنفسه عن النظام السائد يدفع في معظم الأحيان ضريبة التزامه الحياد، فيتعرض لحملات وتضييقات كيما يعدل أجندته وينخرط في الجو الطائفي المناطقي العام، حيث يقضي العرف بعدم وجود محايدين كما بات يصرح السياسيون في السنتين الأخيرتين. صحف لبنانية
لا يخفى أن تصاعد حدة المناكفات السياسية بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وما تبعه من عمليات اغتيال طالت صحافيين مرموقين كجبران تويني وسمير قصير، ومحاولة الاغتيال الفاشلة للاعلامية مي شدياق، أدى إلى وضع ممارسة هذه المهنة على رأس لائحة المهن الأكثر خطورة في هذا البلد الصغير، فوسائل الإعلام تعبّر بالضرورة عن الجهات الداعمة والممولة لها، والجسم الصحافي العامل في هذه المؤسسة أو تلك يتبع بشكل آلي توجه المؤسسة، وبالتالي تشكل هذه المؤسسات أبواقاً مروجة لآراء ومزاجات السياسيين والزعماء الروحيين المتفاوتة الحدة بين وقت وآخر، والمتقلبة وفق المناخ الإقليمي والدولي. وتختفي شخصية الصحافي الحيادي، الملتزم بالقانون، أو بميثاق شرف المهنة، لأن أجندة المؤسسة التي ينتمي إليها قد لا تسمح إلا بتكريس الجو المناطقي الطائفي المذهبي؛ محولة الشارع إلى quot;مشاهد ndash; قارئquot; وأداة تحاكم على توجهات المؤسسات والبروبوغاندا التحريضية ضد وسائل الإعلام الأخرى عند كل انتكاسة أمنية أو مناورة سياسية تكسب هذا الفريق أو ذاك بعض التقدم في صراع لم يعد من السهل تفسير تفاصيله إعلامياً.
الوزارة والقانون
في ظل الانقسام الطائفي الأفقي، والانقسام السياسي الحاد منذ انتهاء عهد الوصاية السورية على لبنان عام 2005، الذي زادت حدته مع حرب تموز 2006 وتداعياتها التي ما يزال الشارع اللبناني يقاسيها حتى اليوم، تعمل وزارة الإعلام كباقي الوزارات الأخرى في حكومة تحظى بالدعم الدولي وتصارع توجهات شريحة كبيرة من اللبنانيين تمركز جزء منهم على أبواب السرايا الحكومي في اعتصام مفتوح، منذ سنة تقريباً، وصار مستعصياً على النزع والفهم الإعلامي معاً. وقد التفت وزير الإعلام، غازي العريضي، لهذا الفلتان الإعلامي غير مرة، وكان له حديث الأسبوع الماضي حول توصيف المشكلة: quot;تم توقيع أكثر من ميثاق شرف إعلامي بين المؤسسات الإعلامية، خلال الحرب لم يكن ثمة قانون، خصوصا للإعلام المرئي والمسموع، وقامت وسائل إعلام خاصة مرئية ومسموعة، قلنا ليس ثمة قانون، فعلى الأقل تعالوا لننظم شؤوننا على مستوى التعاطي بميثاق شرف إعلامي، بعدما كثرت الشكاوى من الناس ومن بعضنا البعض وبين بعضنا البعض في التعاطي، ووقعنا أكثر من ميثاق شرف، ويا للاسف لم يلتزم أحد توقيعه، لأن لكل مؤسسة إعلامية مرئية أو مسموعة خلفية سياسية وملكية سياسية لهذا الفريق أو ذاك، أو لهذا الحزب أو ذاك أو لهذا الزعيم أو ذاك، أو لهذا الرئيس أو ذاك، فلم تعش تلك المواثيقquot;.
والتفت العريضي إلى كون الوزير في نهاية الأمر ينتمي إلى فريق سياسي، ولا يمكن له أو لغيره ممن سيتحمل أعباء هذا المنصب أن يكون مراقباً محايداً إن لم تقنن هذه المواثيق وتصبح ملزمة، لكن تجربة لبنان مع القانون يلخصها الوزير قائلاً: quot;قلنا لا بد من قانون يحمينا من ممارسة الاستنساب علينا ويرفع السيوف المصلتة على رقابنا ويحمي الدولة في الوقت نفسه من اتهامها بأنها تمارس استنسابا او تسلطاً على مؤسسات الإعلام.
يطالع الصحف |
بالتوازي مع عمل الوزارة، أنشئ في لبنان في التسعينات مجلس استشاري لوزير الإعلام، باسم المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، برئاسة عبد الهادي محفوظ، المقرب من المعارضة، يشير المجلس إلى أن المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة تتعرض إلى ضغوط مختلفة تستهدف حجب التنوع في التعبير وتضييق الخناق على ممارسة مهنة الصحافة على قاعدة الحريات الإعلامية، كما أن الصحافيين والمصورين والكاميرات أصبحوا عرضة للضرب والتكسير والتصنيف استناداً للانقسام السياسي، وكل ذلك يؤدي الى quot;غيتوات إعلاميةquot; وإلى نشر ثقافة الخلاف والتشجيع على الترويج للإثارة الطوائفية والسياسية.
وأجرى المجلس مشاورات مع مختلف المؤسسات المرئية والمسموعة تبين له ان هذه المؤسسات تلتقي جميعها على ضرورة اتاحة الفرصة امام الصحافيين والمراسلين والمصورين، لأي مؤسسة انتموا، لممارسة مهامهم وتغطية الأخبار والأحداث من دون أي عوائق أو ضغوط أو تهديد ومنع.
متاريس إعلامية
بعيداً عن التوقيفات التي تطال مراسلي ومصوري بعض القنوات التي لم تلتزم التوجه الطائفي المناطقي، كما حصل مع الزملاء من تلفزيون الجديد المعارض على طريقته، عند فتحهم لملف التحقيق الدائر في قضية اغتيال الحريري، والجدل الذي دار حول الجرم الذي قاموا به وكيفية حصولهم على الأدلة؛ يعاني مراسلو ومصورو المؤسسات الإعلامية من الشارع الذي عملوا جاهدين على تعبئته سياسياً ومذهبياً، متعرضين للاعتداءات في مناطق محسوبة على أطراف مناوئة، وتفتح برامج التوك شو الباب على مصراعيه للشتائم.
وغدت الصورة كالتالي، تلفزيون المنار، التابع لحزب الله، ينزع شارة المحطة عن كل الأدوات التقنية عندما يكون في منطقة محسوبة على تيارات وطوائف أخرى؛ وتلفزيون المستقبل التابع لتيار المستقبل لا يدخل منطقة الضاحية الجنوبية التابعة لحزب الله، كذلك الأمر بالنسبة إلى تلفزيون المؤسسة اللبنانية للإرسال الموالي، المتجانس كثيراً وسياسة القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، على الرغم من الإشكال الأخير بين جعجع والمؤسسة التي عمدت إلى إلغاء بث حلقة quot;كلام الناسquot; معه وهو يحاول استعادة سيطرته على المؤسسة في صراع مع رئيس مجلس إدارتها، من خلال دعوات قانونية.
وخلال أحداث جامعة بيروت العربية، يناير 2007، أصيب مصور قناة المنار بطلق ناري في ساقه من مسلحين في منطقة الطريق الجديدة المحسوبة على تيار المستقبل ؛ وبدأت المحطة تنشر على العلن أسماء مواطنين يعتقد أنهم شاركوا في أحداث الشغب والقنص مثيرة الذعر في نفوس المحسوبين على التيار، ولم تنته هذه الموجة من الفلتان الإعلامي بين المنار والمستقبل إلا بظهور المرجعيات السياسية المتصارعة على الشاشات واحدة تلو الأخرى محرمة النزاع لتضبَ الشارع! أما تلفزيون الجديد فقد تعرض فريق عمله عشية الإنفجار الذي استهدف مدينة عاليه الدرزية للضرب المبرح من قبل أنصار الحزب التقدمي الإشتراكي. التغطية الإعلامية المكثفة التي حظي بها مخيم نهر البارد كلفت مراسلي ومصوري تلفزيونات عدة ضريبة الضرب والاعتداء؛ مما دفع بقيادة الجيش اللبناني إلى اعتبار نفسها quot;معنية بالحفاظ على أمن الإعلاميين كجزء لا يتجزأ من أمن المواطنين، مؤكدةً انها لن تتهاون إزاء استمرار هذه الاعتداءات المسيئة إلى المجتمع اللبناني ورسالته الحضارية والإعلاميةquot;، وفق التعميمات الصادرة عنها أثناء فترة القتال. في المقابل تحظى بعض وسائل الإعلام بمتابعة جماهيرية، وتعتبر عابرة للطوائف، على الرغم من التناقض، أحياناً، بين توجهاتها وتوجه متابعيها، كصوت لبنان، وصحيفتي النهار والسفير، وتعتبر من ناحية أخرى مصدرا موثوقا للمعلومات.
علاج الحريات المفرطة
صحافي لبناني راحل |
سياسياً، رصدت الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، من خلال دراسة حول المساحة المخصصة لكل طرف سياسي في فترة الانتخابات الفرعية التي جرت في دائرتين عام 2007، وخرجت بنتائج تؤكد ارتهان المؤسسات الإعلامية المختلفة للمرجعيات السياسية والمناطقية، وقد أطلقت النقاش حول هذه الدراسة الأسبوع الماضي من السرايا الحكومي، في ظل تغيب عدد من الصحافيين المدعوين لاعتبارات سياسية مناقضة لتوجهات الحكومة. وتعتبر منظمات المجتمع المدني أن الحل في إيجاد مجلس مستقل يعمل على صياغة ميثاق شرف إعلامي ملزم. لكن رأي وزارة الإعلام، يأتي مغايرا، يقول الوزير: quot;القانون موجود، فلماذا ندعو إلى ميثاق شرف؟ لأننا لا نلتزم القانون، إن عدم الالتزام ليس محصوراً بالمؤسسات الإعلامية، بل هو أيضا مسؤولية الدولة، والدولة في بعض رموزها وفي بعض مسؤوليها لم تلتزم قانون الاعلام المرئي والمسموع، والامثلة على ذلك كثيرة... انا اعطي امثلة، طبعا ترد المؤسسات الاخرى، وهذه المؤسسة تعتبر انها محمية فبالتالي تدافع عن نفسها او تتصرف كما تشاء. ترد المؤسسة الثانية وتتوافر لها الحماية، وهنا لا يعود ثمة قانون ولا يلتزم احد القانون، وبالتالي نعود الى ضرورة ايجاد ميثاق الشرف الاعلاميquot;.
في ظل الفلتان
تنادي أصوات كثيرة بتعديل القانون الذي لم يلتزم به أحد، والغريب أن تنادي وزارة الإعلام نفسها بهذا الأمر، يضيف العريضي: quot;يجب ان نعمل على تعديله، وفي فترة من الفترات امام هذا النوع من الفلتان أو الفوضى والاستقواء على القانون، اعتبر البعض أنه يمكن أن يضمن الاستمرارية، أنا اعتقد أن تجربة الاشهر الأخيرة، يجب أن تكون قد أقنعت الجميع بأن القانون وحده هو الذي يحمي، وخصوصا أن حالة الفوضى التي نعيشها والصدام السياسي الذي انعكس صداماً إعلامياً وتشنجاً لم ينج منه أحد، لا على المستوى السياسي ولا المستوى الإعلامي؛ حتى وصل الأمر إلى تناول المراسلين والمصورين والصحافيين والإعلاميين، فقط بسبب انتمائهم الى هذه المؤسسة أو تلك، وغالبا ما يكون الانتماء بهذا المعنى انتماء طائفياً أو مذهبياً او سياسياً بشكل عام، فيتم الانتقام ممن لا علاقة له بهذا الامر، لكن المقصود استهداف هذه المؤسسة أو تلكquot;.
العودة إلى القانون، وعدم الاحتكام إلى الشارع، يبدو مخرجاً مناسباً، إذ إنه لا يمكن ان تقوم وزارة الإعلام، نظرياً، وأجهزة الدولة بالهيمنة على هذا القطاع الذي يعد القطاع الإنتاجي الأول في لبنان؛ إنما هي دعوة إلى الرقابة الذاتية وعدم الدخول في المحظور الأخلاقي، وذلك كون لبنان عملياً يتألف من مجموعة من الدويلات ومراكز النفوذ الطائفية المتقاربة الانتشار والنفوذ، المتباينة التوجهات والتبعيات والسياسات؛ فالسنوات الأخيرة حولت لبنان من بلد يتغنى بالحريات إلى بؤرة الحريات المفرطة المبنية على فوضى سياسية ثم إعلامية، مكللة بمقدمات نشرات أخبار ترتقي بمستويات التوتر إلى حدودها القصوى لدى المشاهدين.. فلماذا لا يعود الإعلام إلى حظيرة القانون؟ سؤال لا يمكن لأحد الإجابة الوافية عليه، في بلد يحاول كل فريق فيه أن يبتدع قانوناً يناسبه أو على قياسه.
التعليقات