*أسطورة داهش كما رآها هشام شرابي وجبرا إبراهيم جبرا

أسامة العيسة من القدس:بالقرب من مدينة بيت لحم، وعلى الطريق التاريخي بين القدس والخليل، يقع احد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في

داهش
لضفة الغربية الذي يحمل اسم (الدهيشة) ولا يعرف أهل المخيم بان اسم مخيمهم جاء من أخر "نبي" ظهر في القرن العشرين وجمع حوله أتباع هو المعروف باسم (داهش بك).

ويقول جورج غانم (70) عاما كان داهش بك يسكن في غرفة متواضعة في المنطقة الحرجية الموحشة القريبة من بيت لحم مكان مخيم الدهيشة الان، وسميت المنطقة بالدهيشة نسبة إليه.

وغانم واحد من قلة في مدينة بيت لحم من كبار السن ما زالوا يذكرون ابن مدينتهم داهش بك، الذي رحل عن عالمنا منذ نحو ثلاثين عاما، ولكنه ما زال حاضرا لديهم بما يقولون أنها أفعاله الخارقة.

أفعال خارقة

يقول غانم بان روح الفتى السرياني، الذي عرفه باسم داهش بك، ما زالت مخيمة ليس على مدينتي بيت لحم والقدس، حيث ولد ونشا، ولكن أيضا على مدن أخرى من أبرزها بيروت التي دعا فيها إلى "دينه" أو طريقته الجديدة.

اسمه سليم موسى العشي ولد في بيت لحم عام 1909، وتربى يتيم الأب، هرب جده من مذبحة الرجعية التركية في الحرب العالمية الأولى التي طالت نحو مليون ونصف مليون من الأرمن والسريان.

وعرف سليم في المدينة التي ولد فيها، ومدن فلسطين الأخرى كساحر فذ، رغم عمله المتواضع في تأجير وإصلاح الدراجات الهوائية في ساحة المهد في المدينة.

ويذكر كبار السن خصوصا من السريان أفعاله الخارقة التي يصعب تصديقها، بكثير من الزهو والفخر، فمثلا يقولون انه كان يعزم رجال الدين والوجهاء على مائدة طعام ويضع أمامهم خيارا، ويطلب منهم أن يتناولوه، وعندما يتناول الواحد منهم إصبع الخيار، يجد في فمه حذائه.

ولا تخلو رواية من هذا النوع من إسقاط موقف على رجال الدين والوجهاء، ولكن هناك حكايات أخرى مدهشة عنه أكسبته لقب داهش بك عن جدارة مثل انه كان يدخل إلى الحلاق، ويتناول رأسه بيديه ويضعه على الطاولة ويطلب من الحلاق قص شعره ويخرج للتجوال ثم يعود ليأخذ رأسه بعد أن يكون الحلاق أنهى عمله.

ويروي غانم قصة يقول انه كان شاهدا عليها مع داهش بك "دعينا مرة إلى محاضرة سيلقيها في الساعة الواحدة، وتأخر في الحضور، وعندما أصبحت الساعة الثانية دخل داهش ووسط احتجاجنا على تأخره، قال لنا انه لم يتأخر وطلب منا النظر في ساعاتنا فوجدناها تشير للساعة الواحدة".

وتحدث بعض من عاصره لمراسلنا عن جانب أخر حساس من حياة داهش بك، وهو علاقاته النسائية، وخصوصا علاقته مع سيدة تيمت به وتركت زوجها ولازمته في رحلاته، حتى استقر في بيروت.

وما زال البعض هنا متأكد بان قدرة داهش هي التي جعلت بعض من اعترضوا على علاقة داهش بتلك السيدة يصابون بالجنون.

نبي وأديب

عرف داهش بك لكثير من القراء كصاحب كتب متعددة، وصلت 150 كتابا، منها ما يضم خواطر أدبية تقترب من الشعر الحديث، وبعضهم يشير، ربما بمبالغة إلى انه كتب هذا النوع من الشعر قبل جيل رواده مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة.

و

داهش
من الذين يتحمسون لإضفاء هذا الجانب الأدبي على داهش بك الأب يعقوب راعي الطائفة السريانية في بيت لحم، والذي قابل داهش بك عام 1964، في قصر الأخير في بيروت كما قال لمراسلنا.

وعن هذه الزيارة قال الأب يعقوب "كانت زيارة داهش بك لا تتم إلا بموعد، ولكنه عندما عرف أنني جئته من بيت لحم، سارع لمقابلتي، كان متوسط القامة وعمره نحو 65 عاما".

وأضاف "وأنا انتظره في الصالون، نظرت إلى رفوف الكتب المحيطة وقدرت عددها بنحو ربع مليون كتاب، وكان قصره مليئا بأسود ونمور محنطة، وعندما جاء سألني عن أخبار بيت لحم وناسها".

وحسب الأب يعقوب فانه بادر داهش بك مخاطبا "اعرف انك إنسان تخاف الله، وصاحب ثقافة واسعة واعتقد ان ما كنت تقوم به من أعمال سحر هو لإدخال السرور والفرح للناس، ولم تكن مشعوذا أو دجالا".

فأجابه داهش "أنت يا أبونا الوحيد الذي عرف حقيقة ما كنت أقوم به، فانا لم أكن مشعوذا ولا ساحرا".

ويبدو الأب يعقوب متعاطفا بشكل كبير مع داهش بك، ويعتقد بأنه حاول ان يثبت لنفسه وللناس وهو الفقير اليتيم، انه إنسان جدير بالاحترام، وحاول ان يظهر ككاتب ومثقف ومتعلم".

وتحقق لداهش بك بذلك شهرة واسعة عندما تجمع حوله عدد من المثقفين والأدباء وأسسوا طريقة جديدة أو عقيدة جديدة كما يحبون ان يصفوها وأسموها "الداهشية" وكانت فكرتها التقريب بين الأديان التوحيدية.

ورغم ان الأب يعقوب يتحدث عن أفعال خارقة لداهش بك، هي أشبه بالمعجزات، في عصر لم يعد يؤمن بها، مثل انه كان يظل في قاع البحر لأكثر من ست ساعات ويخرج لمريديه سالما، إلا انه يقول بأنه سال داهش بك إذا كان يستطيع أن يسير على الماء فأجابه بنعم، ولكنه يرفض ذلك لان السيد المسيح فعلها ولا يريد ان يتمثل به، وذلك دلالة إيمان بالنسبة للأب يعقوب، ولكن ربما كان داهش بك يرد على الأب يعقوب بالإجابة التي كان يريدها الأب.

ويقول الأب يعقوب بان أعضاء الداهشية ومعظمهم من الأغنياء كانوا يساعدون الفقراء ويحلون المشاكل الحياتية لكل من يطرق بابهم، ويشير إلى ان داهش كان لطيف المعشر، وذكيا، ويعتز بفلسطينيته، وله صديقاته من الداهشية.

نثر وشعر وفن

وتوفي داهش بك في بيروت قبل نحو ثلاثين عاما، وتعتبر بيروت المحطة الأهم في حياة داهش بك، حيث اكتملت أسطورته التي بدأها في بيت لحم، وفي بيروت أعلن دعوته الداهشية في 23 آذار (مارس) 1942.

وتعرّض نتيجة لهذه الدعوة، كما يقول أتباعه لاضطهاد في عهد الرئيس اللبناني بشارة الخوري، الذي جرده من جنسيته اللبنانية وتم نفيه من لبنان في أيلول (سبتمبر) 1944.

وطرحت أحدى أتباع الدكتور داهش واسمها ماجدة حداد عليه فكرة ان تغتال بشارة الخوري، ولكنه رفض، فأقدمت على الانتحار.

ويعتبرها الداهشيون "الشهيدة الداهشية الأولى".

و تمكن داهش من العودة إلى لبنان عام 1953 واستعاد جنسيته، وحتى بعد ثلاثين عاما من موته فان هناك من أتباعه من يهتم بنشر كتبه، مثل المصرية أميرة زاهد التي أسست في نيويورك عام 1995 الدار الداهشية للنشر ومتحفا يضم لوحات فنية عالمية جمعها داهش، بالإضافة إلى كتب وصور، وتحتل الان ثلاثة طوابق.

ومن الكتب التي أصدرتها الدار الداهشية، كتاب من ثلاثة أجزاء يحمل عنوان "ناثر وشاعر" ويضم أكثر من 600 قطعة أدبية بقلم "الأديب العملاق الدكتور داهش" مع صياغتها شعرا بقلم الشاعر حليم دموس.

ووصفت دار النشر الداهشية الكتاب بأنه "الذي لا نظير له في الأدب العربي وفيه من التفرد والسبق والابتكار ما يرفعه إلى مرتبة الأعمال الأدبية العالمية الخالدة" وإذا كان من الصعب التسليم بهذا الحكم النقدي، إلا انه يعكس المكانة التي تبوأها داهش لدى أتباعه وجعلته أسطورة تمشي على قدمين.

نظرة أخرى

ومن مكان غير متوقع ساهم اثنان من ابرز المثقفين العرب في الجدال حول داهش بك، بطريقة غير مقصودة، عندما ظهر داهش بك في مذكرات كل من الراحلين جبرا إبراهيم جبرا وهشام شرابي.

في سيرته الذاتية التي صدرت بعنوان (البئر الأولى) يتحدث جبرا إبراهيم جبرا عن طفولته في بيت لحم والقدس، وفيها يظهر داهش بك، وما يجمع الاثنين جبرا وداهش الكثير، فكلاهما ينتمي للطائفة السريانية ولنفس الحي ولنفس الطبقة الفقيرة.

يقول جبرا في سيرته "لا يمر فصل من فصول السنة إلا وتزور البلدة جماعات تجتذب الناس في حلقات كبيرة حولها، وقد تستمر ألعابها ساعة أو ساعتين، وبخاصة إذا كانت من فرق لاعبي السيمياء "أيدي في الهواء فاضية بوش.." يقول الساحر، وإذا هي فجأة تخرج بيضا، أو كرات ملونة، أو أرانب، يضع منديلا في فمه، وبعدها بقليل يبرز من بين شفيته طرفا من خيط، يمسك به زميله ويجره، وإذا هو يجر من فم الساحر مناديل، وأعلاما، وحدائد، وشفرات صدئة، ويمتد الخيط ويمتد، والأشياء العالقة به، الخارجة من جوف الساحر لا تنتهي، وبعدها يبلع سيوفا، وينفث لهبا من النار".

ويضيف جبرا "وكان في تلك الأيام ان سمعت الكبار يتحدثون عن سليم العشي (صديق أخي الأكبر مراد حينئذ)، الذي يعمل مؤجرا ومصلحا للدراجات في دكان صغير في ساحة باب الدير، وقد جعلوا يسمونه بسليم الساحر، بسبب الحيل المدهشة التي كان يقوم بها في السهرات لإمتاع شيوخ البلدة، وقد رايته فتى قصير القامة، له وجه ضامر لا يبتسم، تشع منه عينان واسعتان مذهلتان".

ويضع جبرا حاشية في الكتاب تقول "سرعان ما تحول هذا الشاب، الذي علم نفسه بنفسه، إلى أسطورة بما يقوم به من "خوارق التنويم" المغناطيسي واستحضار الأرواح بواسطة أخته، وذلك بعد رحيله إلى القدس، ثم إلى بيروت، حيث دعا نفسه داهش بك ثم الدكتور داهش وأسس طريقة عرفت بالداهشية".

وإذا كان جبرا تجنب إطلاق أحكام على داهش بك أو إبداء وجهة نظر، فان هشام شرابي فعل الأمر نفسه ولكنه قدم داهش بك بطريقة مختلفة وربما تميط اللثام عن أسطورته.

يشير شرابي في سيرته التي ظهرت بعنوان (صور الماضي) إلى انه كان يتردد على بيت جده في عكا "شاب اسمه داهش بك، اشتهر في الأوساط الاجتماعية بقدرته على التنويم المغناطيسي والتنبؤ بالمستقبل. لم التق به إلا بعد مدة طويلة من تعرفه على بيت جدي، ذلك انه نادرا ما أتى لزيارتنا خلال الصيف، أي عندما كنت امضي عطلتي في عكا، لذلك سررت عندما سمعت ذات يوم جدتي تنادي بصوت متهدج: داهش بك قادم، افتحوا الباب".

ويصف شرابي داهش بك "كان آنذاك في أواخر العشرينات من عمره، اسود الشعر، نحيل القامة، اذكر بخاصة عينيه النافذتين وجو الصمت والانقباض الذي التف حوله".

ويشير إلى ان داهش صوب إليه "نظرة حادة دون ان يحييني أو يبتسم"، وقدمته جدته على هذا النحو "هذا هشام ابن فطمة. رح يروح على المدرسة الداخلية في بيروت".

وعندها مد داهش "يده مصافحا وكانت باردة كالثلج".

ويذكر شرابي بأنه رأى داهشا "بعد ذلك في عكا مرة واحدة بشكل عابر ولم اجتمع به ثانية إلا بعد مرور ما يقارب الأربعين سنة في بيروت".

ضجعة الموت

ولكن اللقاء الأول كان هاما بالنسبة لشرابي، ففيه سلم "سلم داهش بك جدتي كتابا كان قد انتهى من تأليفه عنوانه (ضجعة الموت أو بين أحضان الأبدية) وعليه تقديم: إلى عارف بك وعائلته الكريمة".

يقول شرابي عن الكتاب "تصفحته جدتي ووضعته على الرف الذي كانت تضع عليه خالتي الصغرى كتبها المدرسية. بعد ذلك لا أظن ان أحدا سواي لمس الكتاب".

ويضيف "كان مجلدا تجليدا متقنا ومطبوعا على ورق فخم لماع، توجت صفحته الأولى صورة المؤلف وتلاه إهداء الكتاب بخط رقعي اذكر منه هذه الكلمات "إلى الموت والحياة الأبدية" أما نص الكتاب فقد كان مجموعة قصائد كتبت أيضا بالخط الرقعي ضمن إطار اسود. والى جانب كل قصيدة طبعت رسوم بعضها على صفحة كاملة وبعضها الأخر على نصف صفحة، ومعظمها ايروتيكي في موضوعها وإخراجها الفني".

ويقول أيضا "قرأت بعض القصائد لكن دون ان أستطيع فهمها. بدت معقدة إلى درجة الغموض الكامل. لكن الصور والرسوم، التي كان أكثرها مستمدا من أعمال فناني عصر النهضة، سحرتني. قلبت الصفحات الملساء الناعمة، وتأملت طويلا في رسوم أجساد النساء العاريات، فأحسست لأول مرة بذلك الشعور المبهم إزاء الموت واللذة".

متحف داهش في نيويورك
وبلغ تأثير لوحات الكتاب لدى شرابي درجة كبيرة كما يتضح من كلامه "ما زلت اذكر لوحتين، لا كما شاهدتهما بعد ذلك مرارا في اصلهما الملون، بل كما رايتها لأول مرة في كتاب داهش بك: رسم اسود على بياض. كانت الأولى لفينوس بريشة بوتشللي وهي تصعد اليم عارية لا يخفي جسدها سوى شعرها الطويل الذي انحدر فوق كتفيها وثديها الأيسر فبقي ثديها الأيمن عاريا إلا من بعض رذاذ".

ويضيف "بدت لي فينوس في تقاطيع وجهها الدقيقة ونظرتها البريئة وجسدها النحيل تجسيدا لطهارة الأنثى وبراءتها. أما اللوحة الأخرى فكانت لرسام لا اعرف هويته. وهي لوحة مشهورة تسمى (ليدا والبجعة)، التي تظهر فيها ليدا المكتنزة الجسد وهي تستلقي عارية فوق شاطيء بحيرة هادئة تحيط بها الأشجار وقد حط بين ساقيها طائر ابيض يسحب عنقه الطويل ليتكيء برأسه بين ثدييها. جذبتني هذه اللوحة في الاتجاه المعاكس، ففي حين بعثت فيونس بوتشللي في نفسي مشاعر الطمأنينة والارتياح، أثارت في صورة ليدا شعورا قويا من الرغبة والقلق".

وظل صدى كتاب داهش بك ولوحاته يلاحق شرابي الذي يقول "أردت التأكد من أني رأيت هاتين الصورتين في كتاب داهش بك فعلا ولم اتخيلهما. فقضيت اشهرا في تقصي الكتاب في المكتبات الخاصة والعامة فلم أجده، إلى ان وقعت على نسخة منه قبل ان ادفع مخطوطتي إلى المطبعة في مكتبة الصديق الدكتور سمير الصليبي في بيروت. فتحت الكتاب بأيد مرتجفة. أخر مرة نظرت إليه كنت في العاشرة. طالعتني صورة ليدا تماما كما تذكرتها، إلا أنها لم تكن مضطجعة فوق شاطيء بحيرة تحيط بها الأشجار، بل تمددت بين ظلال سوداء أحاطت بها من كل جهة فزادت من بياض جسدها ومن عريها. أما فينوس فلم تكن عارية أطلاقا، فالصورة التي جابهتني الان كانت صورة صغيرة اقتصرت على وجهها الجميل البريء وشعرها الأسود الطويل تدفعه الريح إلى الجانب الأيسر من وجهها".

ويتساءل شرابي "لماذا تصورتها عارية؟ ولماذا وصفتها بالبراءة ووصفت ليدا على أنها نقيضها؟ هل لان جسدها لم يظهر في الصورة بينما بدت لي عارية تماما؟".

وحرص شرابي في سيرته على إرفاق صورة غلاف الكتاب الذي كان ثمنه "40 قرشا فلسطينيا" وهو سعر باهظ كما أشار شرابي بجانب الصورة، وتظهر عليه صورة لامرأة عارية الصدر تمسك بطفل ميت، وأيضا صورة لليدا عارية وصورة لوجه فينوس.

لقاء ثان

بقي كتاب (ضجعة الموت) حاضرا دائما في ذهن شرابي الذي أصبح عالم اجتماع ومثقفا مرموقا حتى التقى بداهش بك مرة أخرى.

يقول شرابي "تذكرت كتاب (ضجعة الموت) وهاتين اللوحتين عندما التقيت داهش بك بعد مرور سنوات طويلة. كان ذلك في أوائل السبعينيات في أحدى زياراتي الصيفية إلى بيروت. سالت أمي يوم وصولي ونحن نحتسي القهوة عما حل بداهش بك".

ويشير إلى انه "حتى تلك اللحظة وطوال تلك السنوات لم يخطر اسم داهش بك على بالي لمرة واحدة. نظرت إلي باستغراب. قالت أنها سمعت انه يقيم في بيروت".

وكلام شرابي هذا يمكن ان يثير استغراب القاريء أيضا؟ فكيف انه لم يخطر على باله اسم داهش بك رغم ما ذكره عن اثر كتابه ولوحاته عليه، هل هو استعلاء مثقف كبير؟ حتى وهو يخط كتابا فيه كثير من البوح؟

على أية حال يقدم شرابي صورة لما حدث بعد سؤاله عن داهش بك "في اليوم التالي وبحدود الساعة الثالثة بعد الظهر، كنت مثل معظم سكان بيروت في ذلك الوقت من اليوم، مستلقيا على السرير أطالع الصحف والمجلات وأحاول ان أغفو قليلا، حين رن جرس الباب الخارجي، وسمعت الخادمة تفتح الباب ثم تأتي إلى الغرفة المجاورة وتقولي لوالدتي: السيد داهش بك يسال عن السيد هشام".

قال شرابي لنفسه "لابد ان والدتي قد أرسلت إليه خبرا تعلمه باني موجود في بيروت واني سالت عنه، فاتي لزيارتنا".

ويقدم شرابي وصفا لتلك الزيارة "كان جالسا في زاوية معتمة من غرفة الاستقبال الصغيرة، ورغم حرارة الجو فقد خيل إلي أني شعرت بلفحة من الهواء البارد تهب على وجهي لدى دخولي الغرفة. وقف مسلما بصمت وشعرت بالانقباض ذاته الذي شعرت به عند لقاءنا الأول في عكا منذ سنين طويلة. ما أن جلس حتى رأيت انه قد تغير كثيرا. كان أثقل وزنا، وفي تقاطيع وجهه علامات الكبر. إلا أن عينيه النافذتين لم تتغيرا".

ويحاول شرابي ان يظلل ذلك اللقاء بنوع من الغرائبية التي رافقت سيرة داهش بك وتصرفاته.

سأله داهش بك:

-أتذكرني؟

فرد عليه شرابي:

*بالطبع أذكرك.

وتحدث الاثنان قليلا بحضور والدة شرابي، ثم غادر داهش على أن يلتقيا مرة ثانية.

ويقول شرابي انه بعد مغادرة داهش بك سال أمه كيف تمكنت من الاتصال به، فأخبرته بأنها لم تتصل بداهش فسألها:

-أذن ما الذي جعله يزورنا؟

*لست ادري..

اعتراف داهش الأخير

يقول شرابي بأنه اجتمع في ذلك الصيف بداهش بك مرتين أو ثلاث مرات، وكان اللقاء الأخير قبل وفاة داهش بك بفترة قصيرة.

وتم ذلك اللقاء "في احد مقاهي الروشة في أحدى فترات الهدوء الأولى بعد انفجار الحرب الأهلية. جلسنا في مقهى ديبو وكان خاليا من الرواد. طلبنا فنجاني قهوة. لكنه لم يمس فنجانه".

سأله شرابي "إذا كان يذكر كتابه (ضجعة الموت أو بين أحضان الأبدية). ابتسم وسألني كيف اطلعت على الكتاب، فأخبرته. قال بصوت خفيض: حماقات شباب".

فرد شرابي على هذا الاعتراف "لكنه كتاب فذ. كان له تأثير غريب علي". وبعد صمت قصير قال داهش بك "الناس بتحب الروحانيات".

فرد عليه شرابي بملاحظة ذكية "وكذلك الصور والرسوم اللاروحانية!".

وأجابه داهش "الناس بتحب الروحانيات خصوصا إذا كانت مرتبطة باللاروحانيات" ثم ابتسم ابتسامة فاترة وقال "لا تظلمني. ولا تظلم الناس. أنا لم اكذب على احد. الناس تريد الهرب. إلى الماضي. إلى المستقبل. إلى العالم الأخر. الناس تريد الاتصال بالأرواح للخروج من كابوس الحياة. الصوت الذي يسمعونه من عالم الموتى هو صوتهم، صوت الموت الصادر من أعمالهم".

وربما كان كلام داهش هذا أهم تفسير لظاهرة ذلك الولد السرياني اليتيم الذي ولد لاجئا في مدينة بيت لحم وأصبح داهش بك ثم دكتور داهش، ومؤلفا تصدر طبعات من كتبه حتى الان وصاحب طريقة وأتباع ما زالوا يؤمنون بأسطورته.