ولماذا لا أعتبره "فضيحة"
دفاع عن الحرّيّةبل نواة لحركة
عندما قرأت النّداء المطالب بتجريم فتاوى الإرهاب تنفّست الصّعداء، وبادرت إلى توقيعه، رغم بعض التّحفّظات التي عبّرت عنها إثر توقيعي، أهمّها أنّني تمنّيت لو تمّ تقديمه باسم عامّة المثقّفين العرب المناضلين من أجل الحرّيّة أو من أجل حقوق الإنسان. وقّعته للأسـباب التّالية التي أقدّمها بإيجاز:
1- إنّني ممّن يعتبرون الإرهاب أعلى مرتبة من مراتب العنف، بل لعلّه من الأجدى بنا أن نميّزه عن العنف. فالإرهاب ليس فقط خروجا على القانون، بل هو حركة عدميّة تدمّر القانون وتريد الحلول محلّه. العنيف يقول : أنا ضدّ القانون، والإرهابيّ يقول : أنا القانون، أنا الدّولة. إنّه يشرّع لقانون لابشريّ وحيد هو التّدمير، تدمير المكتسبات المدنيّة القليلة في العالم العربيّ، وتدمير الآخر والذّات معا. وعندما يتمّ هذا التّدمير باسم مبدإ رمزيّ فوق الجميع، باسم دين من الأديان، يعد بالجنّة ويترجم إلغاء الذّات والآخر إلى "شهادة" مآلها الجنّة، تزداد قدرته الإقناعيّة، وتزداد طاقته التّنويميّة المضلّلة. فالإرهاب لا يمكن أن يكون مقاومة ولا نضالا. العنف عمل لاقانونيّ يقف ضدّ الدّولة على أرضيّة الدّولة، والإرهاب هو نقيض للدّولة، لأنّه يخلق لنفسه أرضيّة أخرى غير أرضيّة الدّولة، كما يقول فتحي المسكيني في كتابه "الهويّة والزّمان".
الدّليل على ما أقول هو أنّ المفتين الذين يقدّم البيان نماذج من فتاواهم، ينتصبون مصدرا للتّشريع وبديلا عن القوانين المدنيّة في بلدانهم وخارجها، وبديلا عن دولهم، وبديلا عن القوانين الدّوليّة. فالسّيّد القرضاويّ مثلا ما فتئ في برنامجه بقناة الجزيرة ينتصب مصدرا أعلى من المشرّع التّونسيّ، لكي يكفّر تونس ويدعو إلى إعادة "فتحها"، لخروجها عن الشّريعة الإسلاميّة كما يتصوّرها، أي لاعتمادها قانونا أكثر مدنيّة وتحضّرا من بقيّة القوانين العربيّة في مجال الأحوال الشّخصيّة، وإن كان قابلا للتّحسين في رأي الكثير من التّونسيّين والتّونسيّات الذين لا يبالي القرضاوي برأيهم بل يصادره، لأنّه يتكلّم باسم الجميع وفوق الجميع.
2- إنّ هذا البيان يتوجّه إلى سلطة قانونيّة دوليّة عليا قلّما يتوجّه إليها المثقّفون العرب نتيجة ضيق أفقهم وإيديولوجيّاتهم الانتمائيّة القائمة على منطق الهويّة. هذه السّلطة هي المنتظم الأمميّ، التي لا يتوجّه إليها البيان لأنّ الإرهاب الإسلاميّ ظاهرة معولمة عابرة للبلدان فحسب، بل لأنّ مرجعيّة صائغي البيان هي القانون الدّوليّ ومنظومة حقوق الإنسان، والمثقّف العربيّ يمكن أن يوقّعه لا فقط بصفته مثقّفا عربيّا بل بصفته إنسانا ومواطنا عالميّا, أو بصفته مناضلا من أجل حقوق الإنسان، أي من أجل كرامة الإنسان بقطع النّظر عن دينه ومعتقده ولغته ونسبه وجنسه.
إنّ حقوق الإنسان، ورغم كلّ ما تتعرّض إليه من استخدام من قبل القوى المهيمنة في العالم هي صالحة لكلّ البشر في كلّ الأمكنة، إلاّ أنّها قابلة للتّطوير خلافا للشّريعة التي يريد فرضها شيوخ الإرهاب، مدّعين أنّها صالحة لكلّ زمان ومكان، والحال أنّها تنبني على ضروب من التّمييز واللاّمساواة، لم تعد تتلاءم مع عصرنا الرّاهن، ولم تعد تتلاءم مع مبادئ الكرامة والمساواة والحرّيّة.
ولنقل للمعجّلين بتهم المروق والخيانة إنّ الانتماء أمر متعدّد ومعقّد، بحيث أنّ الإنسان يمكن أن يعتبر نفسه مواطنا في دولته، ويمكن أن يعتبر نفسه مواطنا عالميّا ويمكن أن يعتبر نفسه عربيّا أو ذا ثقافة عربيّة، مسلما أو ذا ثقافة إسلاميّة، والحرّيّة تتجلّى، أيضا، في تعدّد الانتماءات كما أنّها تتجلّى في جدليّة أخرى ما تزال خافية على أغلب العرب : ما أنتمي إليه ينتمي إليّ في الوقت نفسه، فأنا أغيّره وأبدع وضعيّاته، وأكسر ثوابته إن لزم الأمر، إن كانت هذه الثّوابت عوائق تحول دون حرّيّتي التي لا حدّ لها إلاّ احترام حرّيّة الآخرين واحترام مبدإ المساواة التّامّة.
3- إنّ هؤلاء الفقهاء ثبتت نجاعة خطاباتهم، وثبتت قدرتهم المباشرة أو غير المباشرة على الإذاية والتّحريض ضدّ المفكّرين الأحرار وضدّ المبدعين. هم طعنة نجيب محفوظ وقتلة فرج فودة ومحمود طه، وقتلة محمّد بو خبزة وبختي بن عودة وسعد بختاوي وعبد الرّحمان شرقو، ويوسف فتح اللّه وزيان فرحات ويوسف سبتي، وعبد القادر علولة وزيان فرحات وغيرهم من الجزائريّين الأحرار المأسوف عليهم، وهم مصادرو حيدر حيدر وليلى عثمان وعلياء شعيب... ورافعو دعاوي الحسبة على نصر حامد أبو زيد ونوال السّعداوي، وقتلة مترجمي "الآيات الشّيطانيّة"، ومصادرو جمال البنّا وغيره، وهم مصادرو الأموات أيضا : هم حارقو ألف ليلة وليلة والفتوحات المكّيّة، ومصادرو ديوان أبي نواس... والقائمة تطول وما زالت تطول، ويجب أن نتذكّر وأن نحسن التّذكّر...
4- إنّ هؤلاء الفقهاء لا يدعون إلى العمليّات الانتحاريّة وإلى قتل المدنيّين فحسب، بل يؤبّدون ويكرّسون شتّى أنواع العنف الهادئ المؤسّسيّ، أي عنف التّمييز ضدّ النّساء وضدّ الأقلّيّات الدّينيّة. وإضافة إلى ذلك، تتنافى فتاواهم مع الإعلان العالميّ لمناهضة العنف ضدّ النّساء، لأنّهم بصمتون عن جرائم الشّرف ويؤيّدون ضرب الرّجال زوجاتهم، ويؤيّدون تشويه الأعضاء الجنسيّة للفتيات المسمّى بالختان، ويقفون ضدّ كلّ الحقوق الإنجابيّة والجنسيّة.
5- إنّ هؤلاء الفقهاء الذين يشجّعون على الإرهاب وعلى تأبيد العنف بشتّى أشكاله، يتمتّعون بـحصانة تجعلهم غير معاقبين من أيّ طرف. إنّهم يتكلّمون باسم اللّه ورسوله، ويصولون ويجولون، ويستقبلهم الملوك والرّؤساء العرب للتّبرّك بهم، وتتاح لهم المنابر التي لا تتاح لمناهضيهم. ولا شيء يمثّل خطرا على المدنيّة وعلى الحياة الاجتماعيّة والحياة في حدّ ذاتها من مجرمين واقعيّين أو رمزيّين لا يعاقبون باسم أيّ قانون، بل يظلّون مبجّلين مكرّمين، في بلدان لا تجرّم التّحريض على العنف باسم الدّين، ولا تجرّم التّمييز على أساس العنصر والدّين والجنس، ولا تحمي مبدعيها ومفكّريها، ولا تفصل بين الدّين والدّولة، ولا تستمدّ شرعيّتها من صناديق الاقتراع بل تستمدّها من شتّى أساليب تهدئة الخواطر ودغدغة عواطف الأمّيّين وإمساك العصا من الوسط.
6- هذا البيان هو بيان اعتراف بالحقّ ونقد ذاتيّ. فمن ميزاته لا من عيوبه أنّه من باب "شهد شاهد من أهلها".
يعلّمنا التّحليل النّفسيّ أنّ الشّخص يزداد نضجا كلّما انتقل من منطق إلقاء التّبعات على الآخرين imputation à l’autre إلى منطق مراجعة الذّات والنّظر في مدى تورّطها في هذا الاتّهام implication . فالذّات المهزوزة وغير المسؤولة هي التي تسقط على الآخرين أسباب عجزها. ولمدّة عقود من الزّمن، لعب العرب دور الضّحيّة، واستماتوا في لعب هذا الدّور، واتّهموا الغرب بأنّه يهينهم، والحال أنّهم يهينون أنفسهم، وأنّ حكّامهم يهينونهم بشتّى أنواع الإهانة. ولا يسعنا هنا إلاّ أن نترجم المثل العامّيّ الذي يقول "لينظّف كلّ أمام بيته، قبل أن يطالب الآخرين بالنّظافة"، وليتّهم نفسه أوّلا، وليحترم نفسه حتّى يفرض على الآخرين احترامه.
ونصل الآن إلى ما نشره السّيّد محمّد عبد اللّطيف آل الشّيخ على صفحات "إيلاف" من ردّ على هذا البيان يعتبره فيه "فضيحة" لا غير، رغم تأكيد صاحبه على أنّه ليس من المدافعين عن الإرهاب. وأسمح لنفسي بالرّدّ على هذا الرّدّ، متوسّلة بالأسلحة الوحيدة التي أحسن استعمالها بحكم مهنتي، وهي مهنة شرح النّصوص وتفكيكها :
1/ يقول نيتشه "إنّ الطّريق الذي ينحدر إلى الأصول، يؤدّي في كلّ مكان إلى البربريّة".
وأعتقد أنّ مقال السّيد آل الشّيخ ينحدر إلى هذه الأصول، فهو مقال غير سياسيّ، بل هو دون السّياسة بكثير : إنّه إتنيّ قبليّ متدرّع باسم "بني جلدتنا" و"أبناء أمّتنا" (عبارات واردة بالمقال). إنّ السّياسة، وخاصّة في عصرنا، فعل مدنيّ وليس فعلا "ملّيّا" أو "عشائريّا" يعلن الانتماء إلى مجموعة تتأسّس على القرابة الدّمويّة و"الجلدة"، فهل بوسع كاتب المقال أن يتجرّد قليلا من هذا الانتماء، أن يخرج من القبيلة، أو من القبيلة الموسّعة ليلعب دوره كمواطن وإنسان حرّ؟
2/ إنّ صاحب المقال يكرّر دفع تهمة مناصرة الإرهاب عن نفسه، فلماذا يصرّ على دفع التّهمة إن لم يكن يشعر بشيء من تورّطه فيها، وإن لم يكن يريد إخفاء دفاعه عن المتّهمين في البيان؟ لعلّ هذه الرّغبة المكتومة تنكشف في لحظة قطيعة داخل نصّه، يفتضح فيها ما سكت عنه وأخفاه، أي عندما يقول مبديا تعاطفه مع فقهاء الإرهاب المذكورين في البيان : " ثم هل من أخلاقيات (الفكر الليبرالي) الذي يدّعون أنهم ينتمون إليه (التحريض) على الآخرين في حين أنهم لا يملون من تكرار إيمانهم بحرية (الرأي)، والاحتكام إلى الحوار عند الاختلاف؟ أبن تلك المبادئ المزعومة من هذه الممارسات بالله عليكم؟!"
إنّه لا يحتمل هذا البيان، ويعتبره "فضيحة" لأنّه لا يحتمل إدانة المتسبّبين إلى حدّ بعيد في الإرهاب، ويعتبر هذا البيان "تحريضا" ضدّ "أبناء الجلدة"، لأنّ أبناء الجلدة الواحدة يجب أن ينصر كلّ منهم أخاه، ظالما كان أم مظلوما.
3/ إضافة إلى عبارات الإدانة الأخلاقيّة المشحونة بالعنف القريب من التّكفير ("فضيحة، يندى له الجبين، المدلّسين والمزوّرين وأصحاب الأهواء، عيب...")، والتي يذكّرنا بعضها بلغة وعّاظ العصر الوسيط وخاصّة ابن تيميّة وابن الجوزيّ ("أهل الأهواء")، يلجأ كاتب المقال إلى هذه الأساليب السّحريّة الكلاميّة التي هي القسم ("باللّه عليكم"، "أقسم باللّه عيب")، وكأنّه يعزف عن الحجج العقليّة، ليتكلّم باسم الدّين، أو ليقنع القرّاء بموقفه الشّخصيّ مستغلاّ اسم اللّه، أو موحيا بأنّه يتكلّم باسمه.
4/ يلجأ إلى سيف القضيّة الفلسطينيّة المسلول على كلّ مثقّف عربيّ يطرح مسألة الحرّيّة والدّيمقراطيّة، فيدين السّياسة الإسرائيلية القائمة على إرهاب الدّولة، ولا يبالي بخروجه على موضوع البيان، فالبيان يدين حالة خاصّة تمثّل شغورا في القانون الدّوليّ، هي حالة الأفراد المحرّضين على العنف باسم الدّين. ثمّ إنّ صاحب المقال ينسى أنّ المحرّضين على الإرهاب موجودون في صفوف الفلسطينيّين أنفسهم، وأنّ العمليّات الانتحاريّة، التي أدانها الكثير من المناضلين والمثقّفين الفلسطيّين، تبيّنت نتائجها السّلبيّة التي لم تزد الحكومة الإسرائيليّة إلاّ تعنّتا، ولم تزد الفلسطينيّين إلاّ عزلة، ولم تؤكّد سوى مسار "أسلمة" القضيّة الفلسطينيّة على نحو كارثيّ.
5/ صاحب المقال يقف ضدّ العنف المحتدم الدّامي الذي أدّى إلى تفجيرات 11 سبتمبر، ولكن ما قوله في العنف اليوميّ الهادئ المشار إليه سالفا، ما رأيه في العنف الإيديولوجيّ الوهّابيّ المستبطن الذي أدّى إلى هذه التّفجيرات؟ أليست نفس البنى الفكريّة النّفسيّة التي أنتجت بن لادن وأضرابه هي التي تؤدّي إلى فضيحة تطبيق أحكام أنشئت لمجتمع تفصلنا عنه قرون؟ فضيحة تطبيق أحكام الرّدّة على المخالفين في الرّأي، وفضيحة قطع يد السّارق بدل سجنه لإعادة تأهيله وتربيته، وفضيحة رجم المتّهمين بإقامة علاقات خارج الزّواج، وفضيحة منع النّساء من قيادة السّيّارات، وفضيحة منعهنّ من أنّ يكون لهنّ وجه وصوت، وفضيحة منع غير السّنّيّين وغير المسلمين من إقامة شعائرهم الدّينيّة...؟ فما رأي السّيّد آل الشّيخ في هذه الفضائح الحقيقيّة، في هذا العنف الذي يمثّل ركنا من أركان النّظام العربيّ الإسلاميّ الموجود في بعض البلدان العربيّة، والمنشود لدى فقهاء الإرهاب؟ أليست مصادر هذا العنف الهادئ، وذاك العنف الدّامي واحدة؟
وختاما، ونظرا لأهمّيّة هذا البيان وراهنيّته، أقترح على لجنة صياغته أن تأخذ بعين الاعتبار تحفّظات الموقّعين عليه ما أمكن، لأنّ البيان ينتمي في النّهاية لموقّعيه لا لجنة صياغته، وأقترح أن يلتفّ حوله المدافعون عن الحرّيّة وعن حقوق الإنسان من العرب لإنشاء حركة مفتوحة، تمكّن المدافعين عن الحرّيّة في العالم العربيّ من أن يكون لهم صوت ومنبر، وتمكّن من مجال لخلق ثقافة جديدة حيّة، تكون عن بديلا عن المؤسّسات الجثثيّة التي تحتكر الكلام باسمنا دون أن تتكلّم باسمنا : هذه الجثث العفنة التي تحيط بها الضّباع، والتي تسمّى اتّحادات العرب، وجامعات العرب، ومنظّمات العرب، والتي لا نراها إلاّ مساهمة في تأبيد ثقافة العنف والمصادرة، وثقافة الضّحيّة الذّبيحة، والهويّة الجريحة.
جامعيّة من تونس
[email protected]
مقالات ذات صلة ببيان الليبراليين العرب:
نص البيان الذي وجهه اليبراليون العرب إلى الأمم المتحدة
*
د. احسان الطرابلسي
ردٌ على خالد شوكات
الغنوشية المتستّرة بثياب الليبرالية تفضحُ نفسها!
*
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
آل الشيخ يرد على منتقديه: اعترفوا بالخطأ
بل كله عيب أيها السيد المصري!*
إبراهيم المصري
ليس عيباً.. وإنما ضرورة
*
د. خالد شوكات
القرضاوي وبن لادن لا يوضعان في سلة واحدة
*
محمّد عبد المطّلب الهوني
فضيحة آل الشّيخ مردودة عليه
*
د. شاكر النابلسي
لا أب ولا أبوات لـ البيان الأممي ضد الارهاب!
لماذا كان البيان الأممي ضد الارهاب ولماذا جاء الآن؟
*
نصر المجالي
بيان فيه تحريض وتنوير
*
د. إحسان الطرابلسي
بيان الليبراليين الجُدد وامتحان الصدقية
*
علي ابراهيم محمد
ما حاجتنا لبيان متوازن
*
التعليقات