يبدو أن مقالي المتضمن نقداً لبيان الليبراليين العرب الأخير، الذي جاء في صيغة خطاب إلى الأمم المتحدة، يُطالبُ فيه معدوه بإنشاء محكمة للإرهاب، قد أخذ أبعاداً أكثر مما توقعت. وهذا بكل المقاييس، وبغض النظر عما تحتويه بعض الردود من تهحم شخصي على كاتب هذه السطور، يعتبرُ في تقديري ظاهرة صحية ومطلوبة، وبالذات ونحن نتحدث عن ظاهرة خطيرة كظاهرة الإرهاب، التي لا ندري أين ستقودنا، وإلى أين ستحط بنا رحالها في النهاية.
ورغم أن مقالي كان يرتكز على مرتكز واحد، واضح ومباشر، مؤداه : لماذا لم يتعامل هذا الخطاب مع الإرهاب كقضية عالمية واحدة، ولماذا سكت عن إرهاب إسرائيل، بينما صب جام غضبه على الإرهاب المتأسلم، أو الذي يجعل من النص الإسلامي ذريعة له ؟ مع أن الإرهاب هو الإرهاب في التحليل الأخير، سواءَ جاء من ابن لادن أو جاء من شارون. فلماذا نسكت عن إرهاب شارون ونشهر في المقابل بإرهاب المتأسلمين، إلا أنني لم أجد حتى الساعة إجابة مقنعة لهذا السؤال، الأمر الذي يضع النقاط على كثير من الحروف.
وفي تقديري أن ما طرحته هو سؤال مشروع، جديرٌ بأن يُناقش بموضوعية، بعيداً عن اتهام النوايا، وخلط الخاص بالعام، وتحميل ما أقول ما لا يحتمل، والبحث عن حجج للدفع، لا أجدها مع الأسف إلا محاولة للتهرب من هذا الخطأ المعيب، بدلاً من الاعتراف بقصور البيان في هذا الشأن، مما جعله يُمثل مطالبة مبتورة، وناقصة، ومشوهة... ولأنها كذلك فقدت في رأيي مشروعيتها وعدالتها.
الردود أخذت اتجاهات متعددة، كانت كلها متشابهة تقريباً، باستثناء مقال الدكتور خالد شوكات : ( القرضاوي وابن لادن لا يوضعان في سلة واحدة) الذي كان مقالاً موضوعياً ورصيناً، أتفقُ مع جل ما ذهبَ إليه فيه.
يقول الدكتور شوكات مثلاً : ( إن مشروع الدعوة إلى إنشاء محكمة دولية خاصة بالإرهاب، بدا لي شبيها بمشاريع إقامة الدعاوى القضائية في مصر ضد بعض المفكرين الليبراليين من أمثال نصر حامد أبو زيد وغيرهم، حيث يجري تحويل الخلافات الفكرية والسياسية من ساحة السجال الفكري والأيديولوجي إلى أروقة المحاكم، وفي ذلك منزلق خطير لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين مختلف التيارات السياسية والفكرية الناشطة في الساحة العربية، سواء داخل العالم العربي أو خارجه). وهذه إضاءة في منتهى الذكاء، تشير ضمناً إلى "التحريض" بسيف السلطة الأممية، التي تورط فيها دونما وعي معدو البيان، في حين أنهم يرفضونها وبقوة كممارسة لدى الطرف الآخر على الضفة الأخرى من النهر. ويقول الدكتور شوكات في مقاله في موقع آخر : ( إن العنف والإرهاب ظاهرة قديمة لم تتورط فيها بعض الجماعات الإسلامية فحسب، بل تورطت فيها سائر الجماعات، يسارية ويمينية وقومية، كما أن هذه الظاهرة ليست حكرا على المسلمين، بل مارسها ولا يزال المسيحيون واليهود والهندوس وغيرهم، فبؤر العنف والإرهاب موزعة على مختلف أنحاء العالم، والحديث عن مكافحة الإرهاب يجب أن يعتمد مقاربات شاملة وعامة، لا مقاربات خاصة وعنصرية أحيانا ). والسؤال على ضوء هذه الحقائق: لماذا إذن لم يتعامل البيان مع هذه القضية بهذه المعايير والأبعاد؟. ولماذا تم حصرها في المتأسلمين فقط دون غيرهم؟. فإذا كانت هذه ليست ممارسة عنصرية، فلا أدري كيف تكون العنصرية !.
ولعل ما شد إنتباهي، وأثار استغرابي في الوقت ذاته، مقال الأستاذ محمد عبدالمطلب الهوني، الذي كان بصراحة يُثير من علامات الاستفهام، أكثر مما يطرح من الإجابات. يقول في تبريره للسبب الذي جعلهم يستبعدون إرهاب إسرائيل من الموضوع، بينما تم التركيز على إرهاب المتأسلمين، ما نصه : (لأنّ دولة إسرائيل هي دولة تنتمي إلى منظّمات دوليّة ولها شخصيّتها الاعتباريّة، وهي محكومة بمعاهدات وقرارات دوليّة، بغضّ النّظر عن احترامها أو خرقها لها ) !. وهو هنا لا يكتفي بالتبرير، وإنما ينفي ضمناً صفة الممارسات الإرهابية عن إسرائيل وعن شارون!.. لماذا ؟. لأنها في رأيه (دولة)، وذات شكل قانوني، ولها شخصية اعتبارية !. ويؤكد : بغض النظر عن احترامها أو خرقها لها !. ولن أعلق على هذا التبرير، فهو كافٍ لأثبات ما أقول !. أما ما جاء في بقية مقاله، فمجرد قضاياً شكلية، ليس لها أية أهمية.
ومن الموضوعية القول أن مقال الدكتورة رجاء بن سلامة هو مقال جميل، ولا أخفيكم أنني أستمتعت به كثيراً واستفدت منه قليلاً، فمن مقدمتها المطولة، والتي إستعرضت فيها إمكانياتها العلمية ـ ما شاء الله ـ في تشريح النص، الذي هو مجال تخصصها كما تقول، تضرب لنا مثلاً نموذجياً في كيفية توظيف "العلم" في التبرير والمغالطة، ولي أعناق الحقائق. وسأتجاوز كل "الدش" الذي تضمنه مقالها، لأقف عند نقطة جوهرية في موضوعها، هي لب القضية التي نحن بصددها. تقول الدكتور بن سلامة في الرد على سؤالي : لماذا تم استثناء إسرائيل؟ : (البيان يُدين حالة خاصّة تمثّل شغورا في القانون الدّوليّ، هي حالة الأفراد المحرّضين على العنف باسم الدّين). وهذا تبرير في منتهى الضعف، ومنتهى التهالك مع كل احترامي لها. فإذا كان البيان هو تجريم وإدانة ومقاضاة (العنف باسم الدين) كما تقول، فماذا تسمي سيدتي الفاضلة ما يجري في فلسطين، أليس هو أيضا حالة من حالاتً (العنف باسم الدّين)، أم أن ثمة أسباب أخرى قصرت عن فهمها أذهاننا وأدركتها أكاديميتنا الكريمة؟!. ولن أتطرق لما حَشرته حشراً في مقالها حول المملكة، إلا بتذكيرها بالمثل المعروف : "من كان بيته من الزجاج فلا يرمي الناس بالحجارة"، فإذا كنتِ بكل هذا الحماس للديمقراطية وحقوق الإنسان، فإين أنتِ والسلطة في تونس، ومهزلة الـ 98% التي جرت مؤخراً في تلك الانتخابات الديمقراطية المتحضرة ؟!، وما حقيقة تلك السجون المكتظة بالمعارضة والمعارضين، وكذلك تلك الألوف المؤلفة من أبناء تونس الهاربة إلى المهجر من "نعيم" النسبة المئوية؟...فهل السماح مثلا( بقيادة المرأة للسيارة) يكفي كمبرر لأن يكف المبضع الحاد، في هذه اليد الجميلة، عن (تشريح) الخطاب السياسي التونسي، أم أن هذا المبضع يتحول إلى (طبلة) بين يدي طبّال حينما يأتي الحديث عن تونس، كما هو شأن العفيف الأخضر أيضاً!.
كل ما أريد أن أقوله في مقالي آنف الذكر، وأعود وأكرره هنا، أن البيان هو بكل المقاييس بيان مجتزأ ومبتسر، فضلاً عن أنه يزيد تعقيد قضية الإرهاب بدلاً من أن يحلها. وهنا بيت القصيد.
مقالات ذات صلة ببيان الليبراليين العرب:
نص البيان الذي وجهه اليبراليون العرب إلى الأمم المتحدة
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
*
إبراهيم المصري
ليس عيباً.. وإنما ضرورة
د. رجاء بن سلامة
لماذا وقّعت البيان المجرّم لفتاوى الإرهاب
*
عزيز الحاج
البيان اللبرالي وخلط الأوراق
*
محمّد عبد المطّلب الهوني
فضيحة آل الشّيخ مردودة عليه
*
د. خالد شوكات
القرضاوي وبن لادن لا يوضعان في سلة واحدة
*
د. شاكر النابلسي
لا أب ولا أبوات لـ البيان الأممي ضد الارهاب!
لماذا كان البيان الأممي ضد الارهاب ولماذا جاء الآن؟
*
نصر المجالي
بيان فيه تحريض وتنوير
*
علي ابراهيم محمد
ما حاجتنا لبيان متوازن
*
د. إحسان الطرابلسي
بيان الليبراليين الجُدد وامتحان الصدقية
*
التعليقات