في مستهلّ هذه المقالة، لا يسعني إلاّ أن أشكر السّيّد محمّد عبد اللّطيف آل الشّيخ، لأنّه بمقاله الأوّل في نقده للبيان، أثار موجة من الرّدود والرّدود على الرّدود، ممّا جعل هذا البيان يحظى بالاهتمام في أوساط المفكّرين والكتّاب بين معارض ومؤيّد. وبالرّغم من حماسة الخصومة، واحتدام الجدل، فإنّ كلّ ذلك تمّ في جوّ من الاحترام المتبادل والحرّيّة الكاملة، التي وفّرتها صحيفة "إيلاف"، لذلك وجب علينا ردّ الفضل إلى أهله.
إنّ ما جعلني أكتب مقالا آخر في هذا الموضوع، هو ما جاء في مقال الأستاذ محمّد عبد اللّطيف آل الشّيخ، بعنوان "اعترفوا بالخطإ".
كتب آل الشّيخ في مقاله نقدا إيجابيّا لما ورد في مقالي ما كنت أتوقّعه، وذلك عندما قال : "إنّ ما كتبه يثير علامات الاستفهام أكثر ممّا يطرح من الإجابات"، وهذا القول أراه من باب التّقريض والمدح لا من باب التّسفيه والقدح، لأنّ الخطاب، أيّ خطاب عندما يترك في أذن المستمع أو في عقل القارئ سؤالا يكون قد نجح في التّقدّم بالمتلقّي خطوة إلى الأمام على درب الفضول المعرفيّ، لأنّ الإنسانيّة لا تنمو ولا تتطوّر في صيرورتها التّاريخيّة إلاّ بالأسئلة الحيرى، أمّا الإجابات الجاهزة، وتلك التي تفصّل على المقاس، فهي حلول نهائيّة استعلائيّة غالبا ما تكون متلفّعة بمسوح الحقيقة المطلقة، ولا تفضي إلاّ إلى مأساة مروّعة، وهذا هو بيت القصيد. لأنّ الفتوى ما هي إلاّ تلك الإجابات الاستعلائيّة من معلّمي البشريّة القائمين على شؤون التّقديس إلى أمّة المؤمنين التي صودر منها حقّ استعمال العقل في معرفة اللّه أو في التّعامل مع البشر.
أمّا قول الكاتب بأنّي أدافع عن إسرائيل وشارون، فأعتقد أنّه قد يكون جانب الصّواب فيما ذهب إليه، لأنّني لم أذكر شارون، ولم أدافع عن إسرائيل في ما كتبت، وكلّ ما قلته هو أنّ إسرائيل، أو أيّ دولة أخرى عضو في الأمم المتّحدة، محكومة بمعاهدات وأعراف دوليّة، فهي مختلفة من حيث طبيعتها القانونيّة عن الأشخاص الطّبيعيّين، وأمّا احترامها أو خرقها لهذه الأعراف والقواعد والمعاهدات فهذا شأن آخر، ويعالج في فضاء آخر، وبوسائل وآليّات مختلفة.
فإذا أراد أل الشّيخ أن يكتب بيانا يدين فيه إسرائيل، فله أن يفعل، ويطرحه على النّاس للتّوقيع عليه، وسوف نكون من أوائل الموقّعين. أمّا أن يقول بوجوب إدراج هذه القضيّة في بيان يطالب بإدانة فقهاء الإرهاب، فهذا ما لا نقبله لأنّه يتفّه الموضوع من أساسه، ويجمع بين موضوعين من طبيعتين مختلفتين، سواء من حيث السّلوك أو من حيث نظرة القانون الدّوليّ للأشخاص الفاعلين. وإذا قبلنا بهذا المبدإ، فلماذا لا نضع في البيان كذلك مشكلة كشمير ودارفور والشّيشان، وكلّ الأوجاع البشريّة الرّاهنة؟
فمن حيث الطّبيعة المختلفة للأشخاص، لا يمكننا أن نقارب بين القرضاويّ وإسرائيل مثلا، لأنّ أحدهما، وباعتباره شخصا طبيعيّا، محكوم بقانون قطر الدّاخليّ، والآخر محكوم بالقانون الدّوليّ باعتباره شخصا معنويّا دوليّا. فالمقاربة تكون بين إسرائيل والسّودان مثلا، أو بين عصابات الجنجاويد وعصابات الهجانا، أو بين فقهاء النّازيّين الجدد وفقهاء الإرهاب الإسلاميّين. هذا من حيث المبدأ، غير أنّ بعض الأفراد الطّبيعيّين، عندما يرتكبون أعمالا خطيرة، مثل التّطهير العرقيّ، أو الإبادة الجماعيّة، أو استعمال أسلحة الدّمار الشّامل ضدّ الآمنين، أو الإفتاء بالقتل والتّحريض على التّصفية الجسديّة عبر العالم، فإنّ محاكمتهم أمام محكمة دوليّة لا يغيّر من طبيعة هؤلاء كأشخاص طبيعيّين، وإنّما تتغيّر نظرة القانون الدّوليّ لطبيعة السّلوك الإجراميّ المرتكب، وطبيعة الحقّ موضوع الحماية.
لذلك فنحن نطمح إلى ملاحقة الفقهاء الذين يصدرون فتاوى تتسبّب في أضرار للمجتمع الدّوليّ، عالميّا، باعتبار أنّ هذه الفتاوى تخاطب جماهير المؤمنين، فتتشكّل بذلك جريمة عابرة للحدود والدّول، وهنا يكون تدخّل القانون الدّوليّ مشروعا.
ونحن نعاني في العالم العربيّ من فوضى من الأفكار أضحت ظاهرة تستحقّ الدّراسة والتّمعّن. فعندما تتكلّم عن الدّيمقراطيّة مثلا، تجد من يقول : ليس هذا وقت الكلام عنها، لأنّه لا صوت يعلو على صوت المعركة، وعندما تجول بنظرك لا تجد معركة وإنّما تجد قتلى بدون قتال. وعندما يطالب أحد بحقوق الإنسان، يقولون له إنّ أمريكا تستعمل هذه الحقوق والمنادين بها كحصان طروادة، من أجل النّيل من المجتمعات العربيّة المنيعة، وعندما تشكو من الإرهاب ودعاته والمروّجين له، وتطالب المجتمع الدّوليّ بالمساعدة في الفكاك من براثنه، يتصدّى لك بعض من أهلك ليقولوا إنّك أتيت فعلا إدّا، ألم تر إسرائيل وعنتها وتقتيلها لإخوانك الفلسطينيّين؟ وكأنّنا إذا سكتنا على مصابنا انتهى العسف الإسرائيليّ وتوقّفت معاناة النّاس في الأراضي المحتلّة.
إنّ هذا المنطق هو منطق أن لا تفعل شيئا، وتمتنع عن تحسين شروط الحياة ما دامت فلسطين محتلّة والأمريكان في العراق.
وإذا أردنا أن نجاري هذا المنطق، يمكن أن نقول : لماذا نقيم أفراح الزّواج للتّناسل ودفع مزيد البشر إلى هذه الحياة المهينة، ما دمنا أمّة مهزومة وذليلة؟ ولماذا نبيع النّفط ونكدّس الثّروات ونتلذّذ بالطّيّبات ما دام هناك شباب يموتون كلّ يوم في الدّفاع عن قضايا الأمّة؟ وفي نهاية هذه السّلسلة من المظاهر الحداديّة، ليس أمامنا غير الانتحار الجماعيّ.
تفاديا لهذا المنطق، فكّر بعض العرب وأطلقوا هذا البيان، حتّى يغلقوا سرادق هذا المأتم المازوشيّ، وقرّروا أن يحقّقوا بهذه الخطوات البسيطة بعض شروط الحياة لأهلهم، علّهم ينتصرون على أنفسهم حتّى يكون ذلك مقدّمة لانتصارهم على معوّقاتهم الحضاريّة.
مقالات ذات صلة ببيان الليبراليين العرب:
نص البيان الذي وجهه اليبراليون العرب إلى الأمم المتحدة
*
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
آل الشيخ يرد على منتقديه: اعترفوا بالخطأ
*
إبراهيم المصري
ليس عيباً.. وإنما ضرورة
*
د. خالد شوكات
القرضاوي وبن لادن لا يوضعان في سلة واحدة
*
عزيز الحاج
البيان اللبرالي وخلط الأوراق
*
د. إحسان الطرابلسي
الغنوشية المتستّرة بثياب الليبرالية تفضحُ نفسها!
د. رجاء بن سلامة
لماذا وقّعت البيان المجرّم لفتاوى الإرهاب
تقول له انظر أمامك.. فينظر إلى يدك
*
محمّد عبد المطّلب الهوني
فضيحة آل الشّيخ مردودة عليه
*
د. شاكر النابلسي
لا أب ولا أبوات لـ البيان الأممي ضد الارهاب!
لماذا كان البيان الأممي ضد الارهاب ولماذا جاء الآن؟
*
نصر المجالي
بيان فيه تحريض وتنوير
*
علي ابراهيم محمد
ما حاجتنا لبيان متوازن
*
د. إحسان الطرابلسي
بيان الليبراليين الجُدد وامتحان الصدقية
*
التعليقات