يبدو أنّ الكثير من المثقّفين العرب المهتمّين بالشّأن السّياسيّ فقدوا القدرة على التّمييز بين المفاهيم، بحيث أنّهم يخلطون بين الضّحيّة والجلاّد، بين الوقوف ضدّ محاكم التّفتيش ومحاكم التّفتيش ذاتها. والثّغرة تكمن في انعدام التّربية المدنيّة لدى النّاشئة، وانعدام الثّقافة السّياسيّة الأساسيّة لدى أغلبيّة من المثقّفين العرب، أو ممّن يضعون أنفسهم في موقع المثقّفين، فيعبّرون عن آرائهم في المجال العموميّ، ويساهمون في خلق الرّأي العامّ.
فمن أبجديّات الفكر السّياسيّ الحديث، أنّ ما يسمّيه الفلاسفة الفرنسيّون بـ"حرّيّة الضّمير"، حقّ من حقوق الإنسان الأساسيّة، وأنّه يشمل حرّيّة الرّأي والتّعبير وحرّيّة المعتقد، وحرّيّة تبديل الإنسان دينه، وحرّيّة تركه الدّين الذي وجد عليه آباءه، حتّى وإن كان هذا الدّين يقدّم نفسه على أنّه الدّين الصّحيح، والدّين الذي لا دين بعده. ومن أبجديّات الفكر السّياسيّ المدنيّ الحديث أيضا أنّ حرّيّة الإنسان في التّعبير لا حدّ لها إلاّ التّحريض على القتل أو العنف، فهي ككلّ حرّيّة، لا بدّ أن يوضع لها حدّ عندما تتحوّل إلى اعتداء على حرّيّة الآخرين. فكيف يمكن إلصاق تهمة العنف والمصادرة على من يقف، بشجاعة وجرأة انتظرناهما طويلا، لمناهضة العنف والمصادرة، وكيف يتحوّل القرضاويّ وأمثاله إلى ضحايا محرومين من حرّيّة التّعبير؟ بأيّ منطق يستوي في أذهان هؤلاء المفتي الذي يكفّر المفكّرين الأحرار ويطالب بتطبيق حكم الرّدّة البائس عليهم، والمفكّرون الأحرار أنفسهم عندما يتكاتفون من أجل الدّفاع عن أنفسهم وعن الآخرين وعن المستقبل، ومن أجل تجريم التّحريض على العنف، والمطالبة بالمحاكمة العادلة المتحضّرة للمتسبّبين في الاعتداء على حرّيّة الضّمير؟
ثمّ كيف يستوي المدافع عن الحقّ في الحياة، والمصادر لهذا الحقّ؟ كيف يستوي من يحترم الحياة والحقّ في الحياة، ومن يشجّع الشّبان والأطفال على الانتحار وترك معترك الحياة إلى جنّة موعودة، ويطالب بقتل المدنيّين الأبرياء لا لشيء إلاّ لأنّهم ذوو جنسيّة معيّنة، أو من دين مغاير للدّين الإسلاميّ؟ إلى هذا الحدّ بلغ التّخليط والعمى الأخلاقيّ لدى "النّخبة" المثقّفة في هذا العالم العربيّ؟
ويبدو أيضا أنّ الكثير من هؤلاء المثقّفين قد فقدوا القدرة على التّقيّد بالموضوع المطروح، بحيث يصهرون كلّ شيء في مرجل فكرة واحدة تسيطر على أذهانهم ونفوسهم على نحو حصاريّ. ونعلم كم تكون الأفكار الحصاريّة خانقة، وكم تؤدّي إلى "أنا" ضيّقة مهووسة، تقول لها : انظر إلى الأمام، فلا ترى إلاّ اليد التي أشارت، ولا ترى الأمام ولا الأفق، وتصبّ جام غضبها على اليد التي أقضّت مضجعها، لأنّها سجينة الوهم الرّديء الذي وضعت نفسها في شرنقته.
والنّتيجة هي أنّك لو كتبت مثلا في موضوع مناهضة التّمييز ضدّ السّود، في العقليّات وفي الممارسات الاجتماعيّة العربيّة مثلا، لانبرى لك من هؤلاء المثقّفين من يقول : هذا تمييع لقضايا الأمّة، أو هذه إثارة للفتنة داخل الأمّة، فأين العنصريّة الصّهيونيّة من غيرها؟ لماذا ذكرت هذه العنصريّة ولم تذكر معاناة الشّعب الفلسطينيّ من العنصريّة الصّهيونيّة؟ وأين دفاعك عن الشّعب العراقيّ؟ وفي الأثناء، لا يهمّ أن تقصف حيوات الكثير من المواطنين العرب، ولا تهمّ معاناتهم اليوميّة لشتّى أنواع الإهانة، بسبب لون بشرتهم. هذا المثال قد يبدو كاريكاتوريّا، وخاصّة لمن لا يعرف معاناة هؤلاء النّاس عن قرب، ولمن لم يستمع إلى شكواهم، ولكن له دلالة فيما نحن بصدده من أمر البيان المطالب بتجريم التّحريض على الإرهاب.
ويبدو كذلك أنّ منطق العلاقات و الأحلاف القبليّة ما زال مهيمنا على الكثير من مثقّفينا، في تحاليلهم السّياسيّة ومواقفهم الدّفاعيّة، بحيث أنّ كلّ صاحب موقف سياسيّ وفكريّ يجب أن تلصق عليه شارة، ويجب أن يكون إمّا من بني كذا أو من بني كذا، وبحيث تبدو مقولة "انصر عدوّ عدوّك ظالما أو مظلوما" ترجمة مباشرة للمعادلة القبليّة البدائيّة : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فيصبح ابن لادن بطلا مغوارا، يتغزّل به على الفضائيّات والصّحف السّيّد عبد الباري عطوان وأمثاله من المتحكّمين مع الأسف في الرّأي العامّ العربيّ، لمجرّد أنّه عدوّ لعدوّ الأمّة المتمثّل في الولايات المتّحدة، كما كان يعدّ الدّكتاتور الدّمويّ صدّام حسين بطلا مغوارا لمجرّد أنّه عدوّ للعدوّ، أو عدوّ موهوم لطواحين هواء موهومة.
هذا مثال بارز يوضّح منطق "انصر عدوّ عدوّك ظالما أو مظلوما"، ولكنّ هذه البنية الذّهنيّة نجدها في مواقف أقلّ وضوحا من هذا المثال : إذا انتقدت فقهاء الإرهاب والتّكفير والحسبة، ألصقوا بك تهمة الدّفاع عن الأنظمة اللاّديمقراطيّة، أو قيل لك في أحسن الأحوال إنّ كلامك يصبّ في اتّجاه تعزيز هذه الأنظمة، حتّى وإن انتقدت الإسلاميّين في مسألة غياب الدّيمقراطيّة عندهم، وإذا انتقدت المسار الذي اتّجهت نحوه القضيّة الفلسطينيّة ألصقت بك تهمة الدّفاع عن العدوّ الصّهيونيّ، حتّى وإن كنت طيلة حياتك مناصرا لقضيّة الشّعب الفلسطينيّ، وإذا قلت إنّ القوانين التّونسيّة في مجال الأحوال الشّخصيّة، على علاّتها، أكثر تطوّرا من غيرها، أو قلت إنّ نظام التّعليم بتونس أفضل ممّا هو عليه في البلدان العربيّة الأخرى، ألصقت بك تهمة الدّفاع عن نتائج الانتخابات التّونسيّة الأخيرة، حتّى وإن كتبت وعبّرت علنا عن مناهضتك للصّفة التي تمّت بها هذه الانتخابات التّعيسة، وإذا طالبت بتجريم المحرّضين على الإرهاب ألصقت بك تهمة الانتصار للولايات المتّحدة... وحتّى لو كتبت تدافع عن حقّ الحيوانات الأليفة في حسن المعاملة وناديت بتكوين جمعيّة للرّفق بها، أوجدوا لك حليفا من الحلفاء الأعداء هو السّلطة القائمة أو الأفكار الغربيّة المستوردة، وقالوا لك : أليس الإنسان أولى بالرّفق من الحيوان؟ أليست القضيّة الفلسطينيّة أولى بالاهتمام؟ وأين دفاعك عن الشّعب العراقيّ ضدّ الاحتلال؟
فما المانع من أن يكون الإنسان في الوقت نفسه مناهضا للتّحريض على الإرهاب، ومناهضا للتّسلّط الأمريكيّ، ومناهضا للأنظمة الاستبداديّة العربيّة البائدة والقائمة، ومدافعا عن حقوق السّود، ومدافعا عن كلّ البشر وكلّ الكائنات الحيّة، ومدافعا عن الحقّ في الحياة والحقّ في الاستمتاع بزينة الحياة، ما دام "اختيار الحياة نفسه موقف سياسيّ" كما كان يقول "مبدعو الأوضاع"؟ وما المانع من أن يختصّ بعضنا بقضيّة دون الأخرى، أو من أن يتعرّض أحدنا إلى قضيّة دون الأخرى، ما دام المهمّ هو الالتزام بقضايا الحرّيّة والمساواة والدّيمقراطيّة؟
هذه ملاحظات عامّة أوحى لي بها الجدل الذي سمعته من حولي وقرأته حول البيان الدّاعي إلى تجريم التّحريض على الإرهاب، والذي وقّعته ودافعت عنه، وأرسلته إلى الكثير من المثقّفين العرب، ومن الكتّاب المعروفين المقيمين بفرنسا، فرحّبوا به ووقّعوه.
أمّا الرّدّ الذي تفضّل به السّيّد محمّد عبد اللّطيف آل الشّيخ، فأشكره عليه وعلى لهجته المهذّبة، وعلى ابتعاد صاحبه عن الشّتيمة أو التّكفير أو غير ذلك من ضروب الإسفاف الممكن بل والمعتاد في كلّ جدل عربيّ يتناول القضايا الحسّاسة، رغم أنّ عنوان مقاله "اعترفوا بالخطإ" يضع صاحبه في مقام مؤدّب صبيان لا في مقام محاور لأشخاص راشدين، ورغم ما في هذا المقال من غمز ولمز لا أرى من حاجة إلى الوقوف عندهما بالشّرح والتّفصيل.
باحثة من تونس
مقالات ذات صلة ببيان الليبراليين العرب:
نص البيان الذي وجهه اليبراليون العرب إلى الأمم المتحدة
*
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
آل الشيخ يرد على منتقديه: اعترفوا بالخطأ
*
إبراهيم المصري
ليس عيباً.. وإنما ضرورة
*
عزيز الحاج
البيان اللبرالي وخلط الأوراق
*
د. خالد شوكات
القرضاوي وبن لادن لا يوضعان في سلة واحدة
*
د. إحسان الطرابلسي
الغنوشية المتستّرة بثياب الليبرالية تفضحُ نفسها!
د. رجاء بن سلامة
لماذا وقّعت البيان المجرّم لفتاوى الإرهاب
*
محمّد عبد المطّلب الهوني
فضيحة آل الشّيخ مردودة عليه
عودة إلى بيان اللّيبراليّين العرب: ردا على آل الشيخ
*
د. شاكر النابلسي
لا أب ولا أبوات لـ البيان الأممي ضد الارهاب!
لماذا كان البيان الأممي ضد الارهاب ولماذا جاء الآن؟
*
نصر المجالي
بيان فيه تحريض وتنوير
*
علي ابراهيم محمد
ما حاجتنا لبيان متوازن
*
د. إحسان الطرابلسي
بيان الليبراليين الجُدد وامتحان الصدقية
*
التعليقات